• ٢٥ تشرين ثاني/نوفمبر ٢٠٢٤ | ٢٣ جمادى الأولى ١٤٤٦ هـ
البلاغ

في الأدب العربي.. سرعة البديهة وقوة البيان

في الأدب العربي.. سرعة البديهة وقوة البيان
◄تميز العرب بسرعة البديهة، وزاد جمالها عندهم قوة العقل وسلامة الفطرة، وحينما جاء الإسلام أمدَّ العرب بثقافة وثروة علمية كان من نتاجها أدب عربي أصيل. وفي تاريخ العرب والمسلمين مواقف غاية في الجمال والإبداع، وتجلَّى فيها سرعة البديهة في أسمى معانيها، ومن حق أجيال المسلمين اللاحقة أن تقرأ تلك المواقف وتعيها، ومن واجب الآباء والمربين أن يقدموها لهم. وإنّ الباحث ليحار حينما يريد أن يختار منها ما يستشهد به على ما وصل إليه العرب من براعة في القول وحسن تصرف في الأزمات وقوة في الإقناع.. وتفوق على الخصم بالحجة والبرهان.. وهذه نماذج أحسبها من أجود ما قرأت من البيان العربي الأصيل، تتجلى فيها سرعة البديهة ويتألق فيها العقل العربي.   ما بالها قطعت! وقف أحد أصحاب الفكر الضال المشككين في تعاليم الإسلام وحدوده فقال: يد بخمس مئين عسجد وديت *** ما بالها قطعت في ربع دينار؟! يقول: ديّة اليد نصف ديّة الرجل خمسمائة من الذهب، لماذا تقطع إذا سرقت ربع دينار؟! وكان يسمعه فقيه أديب شاعر، فرد عليه رداً مفحماً مقنعاً بالوزن والروي نفسهما حيث قال: عزّ الأمانة أغلاها وأرخصها *** ذلّ الخيانة فافهم حكمة الباري! كانت اليد غالية جدّاً حينما كانت أمينة.. أما حينما خانت فقد رخص ثمنها!!   والطين للإنبات والتكوين: وكان عمر بهاء الدين الأميري، شاعر الإنسانية المؤمنة يُدرّس في إحدى الجامعات، وفي إحدى المحاضرات قام طالب ماركسي وأراد أن يحرج أستاذه فقال: ما تقول يا أستاذ في قول بشار بن برد: إبليس خير من أبيكم آدم *** فتميزوا يا معشر الأشرار إبليس من نار وآدم طينة *** والطين لا يسمو سموَّ النار فأجابه الأميري – على البديهة – وبسرعة: إبليس من نار وآدم طينة *** والنار لا تسمو سمو الطين فالنار تحرق نفسها ومحيطها *** والطين للإنبات التكوين فصعق الطلاب جميعهم، وأسقط في يد الطالب الماركسي وأخرس لسانه.   ألف دينار لمن يسأله عن أمه: ومن أروع ما قرأت من مواقف الفطنة والبلاغة ما روي من أنّه جُعل لرجل ألف درهم على أن يسأل عمرو بن العاص، وهو على المنبر عن أمه، فسأله، فقال: هي سلمى بنت حرملة، تُلَقّب النابغة، من بني عنزة، ثمّ أحد بني جلّان، أصابتها رماح العرب، فبيعت بعكاظ، فاشتراها الفاكه بن المغيرة، ثمّ اشتراها منه عبدالله بن جدعان، ثمّ صارت إلى العاص بن وائل، فولدت وأنجبت، فإن كان لك جُعل فخذه. رضي الله عن عمرو بن العاص، فقد أجاب بشجاعة وأبان بوضوح وفطن بذكائه أنّ السائل قد دُفع للسؤال.. فقال له بعد الإجابة: فإن كان لك جُعل: أي وعد عند من دفعك للسؤال فخذه.   ما أحسن ساعدك: وما أجمل جواب جارية في ردها على من نظر إليها فقال: يا جارية، ما أحسن ساعدك! فقالت: أجل، لكنه لم تختص به، فَغُضَّ بصر جسمك عما ليس لك، لينفتح بصر عقلك فترى ما لك". وفي أحاديث الشعراء وأعلام البيان العربي درر من القول يحسن بنا أن ننهل من معينها ونتفيّا ظلالها ونشم عبيرها علنا بأصحابها نقتدي وبهداهم نهتدي.   ثلاثة تسرق الدنيا بهجتهم: يروى أنّه اجتمع الشعراء بباب المعتصم فبعث إليهم: من كان منكم يحسن أن يقول مثل قول منصور النَّمري في أمير المؤمنين الرشيد: إنّ المكارم والمعروف أودية *** أحلَّك الله منها حيث تجتمع إذا رفعت أمراً فالله رافعه *** ومن وضعته من الأقوام فاتضع من لم يكن بأمين الله معتصماً *** فليس بالصلوات الخمس ينتفع إن أخلف الغيث لم تخلف أنامله *** أو ضاق أمر ذكرناه فيتَّسع فليدخل، فقال محمد بن وهب: فينا من يقول خيراً منه، وأنشد: ثلاثة تشرق الدنيا ببهجتهم *** شمس الضحى وأبو إسحاق والقمر يحكي أفاعليه في كل نائبة *** الغيث والليث والصمصامة الذّكر فأمر بإدخاله وأحسن صلته.   لقد عشت حميداً: وفي أخبار الأحنف بن قيس – يرحمه الله – نماذج من ذلك رائعة، ولكن تاج تلك النماذج ما روي من قول زوجته فيه، فقد أورد القيرواني في خبر موت الأحنف ما نصه: "مات الأحنف ابن قيس بالكوفة، فمشى مصعب بن الزبير في جنازته بغير رداء وقال: اليوم مات سر العرب، فلما دفن قامت زوجته على قبره فقالت: لله درك يا أبا بحر *** ماذا تغيَّب منك في القبر؟ لله درُّك أي حشو ثرى *** أصبحت من عرف ومن نكر إن كان دهر فيك جرَّ لنا *** حدثاً به وهَنَت قوى الصبر فلكم يد أسديتها ويد *** كانت تردُّ جرائر الدهر ثمّ انصرفت فسئل عنها، فإذا هي امرأته وابنة عمه، فقال الناس: ما سمعنا كلام امرأة قط أبلغ ولا أصدق منه. هذا هو الأحنف الذي ملأ زمانه مجداً، واكتسب من الناس – جميعهم – حمداً، ولكنه بنى ذلك بخلقه وعلمه وحلمه وسمو نفسه، مع أن نسبهُ وشكله لم يكن مما يفخر به ضعاف النفوس والعقول، وانظر هذا الخير الذي يحمل أجمل العبر من حياة ذلك العربي الأصيل. قال القيراوني: "وكان الأحنف قد قدم الكوفة في أيام مصعب بن الزبير، فرآه رجل أعور دميماً قصيراً، أحنف الرجلين، فقال له: يا أبا بحر، بأي شيء بلغت في الناس ما أرى، فوالله ما أنت بأشرف قومك، ولا أجودهم؟! فقال: يابن أخي، خلاف ما أنت فيه، قال: وما هو؟ قال: تركي من أمرك ما لا يعنيني، كما عناك من أمري ما لا تتركه". بمثل هذا الأمير الشجاع الفصيح الحليم تفخر الأمة، ومن دروس حياته وبطولته وبخمس وسبعين سنة عاشها تعرف مواطن التألق والتميز والنجاح في ميادين الشرف باللسان والسنان.►   *عضو الجمعية العلمية السعودية للغة العربية

ارسال التعليق

Top