ارتبط نخيل التمر (النخلة) بالمنطقة العربية لعدّة قرون، حيث مثّل مصدراً للعديد من الحرف اليدوية والمهن والتقاليد والعادات والممارسات الاجتماعية والثقافية المرتبطة به وأحد الأشكال الرئيسة للتغذية.
بهذه الكلمات وصفت اللجنة الحكومية الرابعة عشرة لاتفاقية صون التراث الثقافي غير المادي لمنظمة الأمم المتحدة للتربية والعلم والثقافة (اليونسكو)، في اجتماعها الأخير بالعاصمة الكولومبية بوغوتا، إدراج النخلة العربية نخلة التمر (date palm) ضمن القائمة التمثيلية للتراث الثقافي غير المادي للبشرية لسنة 2019.
يتعلّق الأمر بتراث وثقافة محلية رافقت حياة البدو العرب وساكني الصحراء لقرون، وحيكت حولها القصص والحكايات قبل أن تكون جزءًا من النظام الغذائي العربي، ونظر إليها كتراث غير مادي محلّي بالموازاة مع الاحتفاء بها في المناسبات والأعياد كركيزة اقتصادية توفّر آلاف الوظائف وعشرات المهن، إضافة إلى اقترانها بالبُعد الديني والسُّنن النبوية الذي أسهم بشكل كبير في انتشار التمور داخل كل بيت عربي. في حقيقة الأمر، لم يأتِ الاعتراف الدولي بنخيل التمر كتراث عربي وإنساني كوني من فراغ، إذ يتوافق تراث وثقافة النخلة والمعايير الخمسة الكلاسيكية التي سطرتها الاتفاقية الإطار للقائمة التمثيلية للتراث غير المادي للبشرية:
أولاً: تراث ثقافي غير مادي
لقد رافق نخيل التمر الإنسان العربي ضمن مختلف مراحل تطور الحضارة العربية والإسلامية، حيث اقترن بالصحراء وعالَم البدو، قبل أن ينتقل فيما بعد نحو عالم الزراعة؛ ولو في إطار سياحي وثقافي.
وكما ساعد الأجداد في تدبير شؤون حياتهم الاقتصادية والاجتماعية، يحتفي به الأحفاد اليوم كتراث إنساني وسياحي مستدام.
ثانياً: التنوع الثقافي
شكّلت التمور منذ القدم المنتج المركزي في عالم الصحراء بعد لبن الإبل، وأساس المقايضة والتبادلات الاقتصادية والتجارية بين القبائل والمجموعات البشرية من المشرق إلى المغرب. واليوم، تعدّ التمور العربية من أجود أندر وأغلى أنواع التمور العالمية، وإضافة إلى ذلك، تسهم الأنشطة والصناعات التراثية المرتبطة بالنخيل في تنشيط السياحة التراثية والإيكولوجية بالمجتمعات العربية وتعزيز التعايش والحوار بين الثقافات الإنسانية المختلفة.
ثالثاً: صيانة تراث نخيل التمر والترويج له
لا بدّ من الإشارة في هذا الصدد إلى الاستراتيجيات التنموية والزراعية التي بدّلتها العديد من الدول العربية( الإمارات العربية، ومصر، والمغرب) خلال العقود الأخيرة من أجل رفع أعداد أشجار النخيل بالمنطقة، بالشكل الذي جعلها اليوم تتجاوز عشرات الملايين.
رابعاً: مشاركة تمور النخيل على نطاق واسع بالمنطقة العربية
لا يخلو بيت عربي من التمور، كما لا تخلو واحة صحراوية من نخيل التمر، وقد تم تناقل تراث وثقافة النخيل والتمر بين القبائل والمجتمعات العربية عبر القوافل التجارية من جهة، والدين الإسلامي من جهة أخرى. ويكفي أن ينخرط تناول التمور ضمن السُّنن النبوية لنتحدث عن تراث إنساني مشترك عابر للحدود الجغرافية والزمانية الأجداد والأحفاد.
خامساً: نخيل التمر تراث ثقافي كوني بألوان عربية
تسهر دول الخليج العربي ومنطقة شمال إفريقيا بالخصوص على تثمين تراث نخيل التمر بين مختلف الجماعات المحلية، من خلال الاحتفال بالمواسم والمهرجانات ودعم وهيكلة الحِرَف والمهن والعادات المرتبطة بالنخيل، قبل ربطه بالسياحة التراثية والبحث عن تخليد رمزيّته ضمن القوائم التمثيلية للتراث غير المادي للبشرية.
دور محوري
يمكن القول إن المجتمع المدني قد لعب دوراً محورياً في صون تراث نخيل التمر العربي وضمان الاحتفاء العالمي به خلال السنوات الأخيرة.
وقد أخذت الجمعيات والتعاونيات على عاتقها، طوال العقود الثلاثة الأخيرة، مهمة نشر الوعي الجمعي بأهمية حماية النخيل وتثمين منتجاته والمصنوعات المرتبطة به على نطاق واسع.
فإذا كانت المبادرات السياسية والاقتصادية للدول العربية قد ركزت على المستويات الشمولية والكبرى ضمن استراتيجيات التنمية التراثية، فإنّ تركيز مؤسسات المجتمع المدني الشريكة قد انصبّ على الأفراد، الفلاحين ومنتجي التمور والسياح كذلك.
لا يكفي رفع أعداد النخيل وإدراجها ضمن المخططات التنموية المحلية دون إشراك المواطنين والأفراد وتوعيتهم بأهمية تراث وثقافة نخيل التمر في صون الهوية المحلية والوطنية وربط تراث الأجداد بمتطلبات وتحديات روح العصر ودعم المبادرات الثقافية والاجتماعية، بوصفها ركيزة تراثية وتنموية مستدامة ... ويمكن اعتبار هذه المعادلة سرّ نجاح مبادرات تثمين تراث وثقافة نخيل التمر بالمنطقة العربية وإدراجها المميز ضمن القائمة التمثيلية للتراث غير المادي للبشرية خلال ظرف قصير.
وتكمن القيمة التاريخية والحضارية لكونية تراث وثقافة نخيل التمر في دلالته الرمزية على تعزيز قيم التعايش والحوار والتواصل بين الشعوب والثقافات المختلفة، فقد مثّلت التمور ما يشبه السلعة الأساس والنادرة في عالم الصحراء لقرون طويلة، كما اعتبرت الحبوب السلعة المرجعية في عالم الزراعة؛ تلك العناصر التي تقايض بها بقية السلع في الأسواق، وتشكّل نسق اشتغال منظومة الاقتصاد والقوافل التجارية بين القبائل.
دلالة قويّة
ولا يتوقف الأمر عند هذا الحد، لأنّ حضور التمور في عالم الزراعة، وكذلك حضور الحبوب في عالم الصحراء، دلالة قويّة على وجود روابط تواصل وتفاعل ثقافي واقتصادي بين البدو وسكان المناطق القروية على مرّ القرون. تبعًا لذلك، يمكن النظر إلى النخلة كقاطرة سياحية وتنموية محلية فيما بين القبائل والدول العربية من ناحية، وكجسر تواصل وحوار ثقافي كوني بين الشعوب والمجتمعات الإنسانية.
تُثبت الأهمية الثقافية للعنصر نخيل التمر وانتشاره عبر القرون مدى التزام المجتمعات المحلية بصونه؛ ويتحقّق ذلك من خلال المشاركة الجماعية في العديد من الأنشطة المتعلّقة بنخيل التمر والطقوس الاحتفالية والتقاليد والعادات، بقول منظمة اليونسكو، التي تعزز فرص التنمية السياحية والمستدامة، فتثمين النخلة لا بدّ أن يتماشى وتحولات العصر التي تفرض الاستثمار في السياحة التراثية كقاطرة تنموية مستقبلية من جهة، ومنافسة لسياحة المركز من جهة أخرى. لهذا، نصادف اليوم تركيزًا على الصناعات والحرف اليدوية المرتبطة بنخيل التمر من حيث هي تراث تنموي، يتوافق ورهانات السياحة المستدامة، بالعديد من المناطق العربية.
في الواقع، يتكامل دعم البحث العلمي في قضايا نخيل التمر مع رهان توسيع قاعدة السياحة التراثية لتشمل تراث وثقافة النخلة.
أنماط سياحية جديدة
تستثمر العديد من دول الشرق الأوسط ومنطقة الخليج العربي في ابتكار أنماط سياحية جديدة قائمة على إدماج المهن والحرف اليدوية وتراث النخلة ضمن نمط السياحة الإيكولوجية الفاخرة. لهذا، أضحت قرى ومنتجعات وشواطئ النخيل السياحية وجهة لمجموعات كبيرة من السياح الباحثين عن عيش تجربة سياحة تراثية فريدة. يسهم هذا الأمر في معالجة مشكلتين رئيستين يعانيهما قطاع النخيل في العديد من المناطق العربية: أولًا، ارتفاع أعداد النخيل المسنة، وثانياً، انخفاض إنتاج بعض أصناف التمور.
وفي هذا الصدد، لا بدّ من الإشارة إلى الفوائد الكبيرة التي تمثّلها سياحة النخيل وسياحة الواحات الصحراوية من خلال ضمان تصريف فائض التمور وتنمية المجتمعات المحلية. ولا ننسى كذلك دور الاحتفالات التراثية في نشر الوعي الفكري والثقافي المتعلق بتعميق الحس الوطني وتعريف السياح والأجانب على تراث المناطق العربية من المشرق إلى المغرب.
خلاصة القول، إنّنا أمام عنصر ثقافي تنموي ومستدام «يشمل حملة المعارف والممارسين أصحاب مزارع نخيل التمر والمزارعين الذين يزرعون فروع النخيل ويشذّبونها، والحرفيين الذين ينتجون المنتجات التقليدية باستخدام أجزاء مختلفة من شجرة النخيل، وتجار التمر، والمبدعين وفنّاني الحكايات والقصائد الفولكلورية المرتبطة بها»، كما تعرفه اليونسكو، يفرض علينا في المستقبل مزيداً من الاهتمام بالشباب والنساء والقبائل الذين جعلوا لقرون من النخلة رمز هويتهم الثقافية ومورد رزقهم الاقتصادي.
مقالات ذات صلة
ارسال التعليق