• ٢٠ تشرين ثاني/نوفمبر ٢٠٢٤ | ١٨ جمادى الأولى ١٤٤٦ هـ
البلاغ

المثقف.. المنزلة والدور

المثقف.. المنزلة والدور
   يمكن إجرائياً أن نفكك العنوان إلى محمولاته كما يلي: - صفة المثقف ما هي وكيف؟ - الموصوف: كيف نصف شخصاً ما بأنه مثقف؟ - المنزلة: ما هو موقع المثقف مادياً وأدبياً في سلم جماعته ومجتمعه؟ - الدور: ما هي الوظيفة الواقعية، والممكنة والمثالية؟ للمثقف في حركة البنية الاجتماعية لمجتمعه؟ ولنبدأ من البداية: 1- ما الثقافة؟ - من أشهر تعاريف الثقافة اليوم تعريف تايلور القائل بأن: "الثقافة هي ذلك المركب الكلي الذي يشتمل على المعرفة والمعتقد والفن والأدب والقانون والأخلاق والعرف والقدرات والعادات الأخرى التي يكتسبها الإنسان بوصفه عضواً في المجتمع". وانطلاقاً من هذا التعريف فالثقافة هي زبدة تجارب الإنسان في تفاعله مع محيطه، وهي الزبدة التي يختزنها الإنسان في ذاكرته، وفي نظامه الترميزي الذي يختزن تجاربه ويحفظها بمنأى عن عجلات قطار الزمن الهارب.   - ويعرفعها أيضاً Cuiney Wright بأنها: "النمو التراكمي للتقنيات والعادات والمعتقدات لشعب من الشعوب يعيش في حالة الاتصال المستمر بين أفراده. وينتقل هذا النمو التراكمي إلى الجيل الناشىء، عن طريق الآباء وعبر العمليات التربوية". يضيف هذا التعريف إلى التعريف الأوّل عنصر الحركة، ودور التفاعل بين أفراد المجتمع، وبين الأجيال عبر التربية. غير أن كلا التعريفين يقصر مفهوم الثقافة على إستظهار المعارف الجاهزة لدى المجتمع، وهو ما لم يعد يرضي العديد من المحللين. إذ يرون أنّ الثقافة هي قدرة يكتسبها الإنسان تمكنه من الفهم واستحصال معارف غير جاهزة أصلا. يقول Natinoviky عنها هي جهاز فعال ينتقل بالإنسان إلى وضع أفضل، وضع يواكب المشاكل الخاصة التي تواجه الإنسان في هذا المجتمع أو ذاك، في بيئته، وفي سياق تلبية لحاجاته الأساسية. "موسوعة العلوم الاجتماعية" أي أنها أداة للتعامل مع المحيط وتكييفه مع الحاجات المتحولة وتسخيره لتبيتها. بل أنّ البعض يربطها مباشرة بالقدرة على صياغة الأسئلة الجوهرية المتعلقة بالإنسان والكون يقول عنها Grunebauom انّها: "نظام مغلق من الأسئلة والأجوبة المتعلقة بالكون وبالسلوك الإنساني" وهو نفس التوجه الذي نجده عند (معن زيادة) يقول: "هي الجهد المبذول لتقديم مجموعة متماسكة من الإجابات عن المآزق المحيِّرة التي تواجه المجتمعات البشرية في مجرى حياتها... فالثقافة هي المواجهة المتكررة مع تلك القضايا الجذرية والأساسية التي تتم الاجابة عنها عبر مجموعة من الرموز، فتشكل بذلك كليا متكامل المعنى متماسك الوجود قابلا للحياة. - إذن، بينما يمزج التعريفان الأولان بين مفهومي الثقافة والحضارة نرى التعاريف الأخرى تميل إلى الفصل بينهما، وهو ما يفهم من ربط الثقافة بالعمل العقلي والاعتقادي والمعرفي: (الديانات الاعتقادات. الأخلاق. الفلسفة. الآداب. الفنون..). وهو ما يعني ربط مفهوم الحضارة بالعمراني التكنولوجي (الانجازات التقنية. المعارف العلمية التي يمكن أن تقاس كمياً) وهو فصل أصبح الآن أقرب إلى الدقة والصواب رغم الصلة العضوية بين المفهومين وهكذا فالثقافة بالمفهوم الأعم هي جملة المعايير والقيم التي تمثل المرجع العقلي والروحي لمجموعة الاجتماعية معينة في تعاملها مع الطبيعة والحياة والكون وهي المعايير والقيم التي تختزن في الرموز اللغوية في المقام الأول ويتناقلها الناس بعضهم من بعض بواسطة هذه الرموز عن طريق: - المشافهة عند المجتمعات الأمية. - الرموز المكتوبة في المجتمعات القارئة وتدخل فيها: عن المجتمعات البدائية: - المعارف السحرية. وعند المجتمعات الدينية: -        المعارف الروحية. وعند المجتمعات العلمانية: - المعارف الفكرية والعقلية والتكنولوجية. ولكن الثقافة بالمفهوم الأخص هي القدرة على استقراء الواقع الحياتي واعادة تشكيله، بعد نقده، في أسئلة جوهرية، والبحث لهذه الأسئلة عن أجوبة تخدم التقدم الاجتماعي والإنساني. ويتضح من هذين التحديدين: العام والخاص أنّ الثقافة صفة تميز الإنسان عن غيره ولئن كان كل مثقف إنساناً بالضرورة، فإنّ العكس غير لازم، فليس كل إنسان مثقفاً.   2- مّن هو المثقف؟ يمكن من خلال التعاريف السالفة للثقافة – وبصورة إجمالية أن يعتبر المرء أنّ المثقف هو كل مجموعة بشرية من يحمل هذه المعايير والقيم المرجعية التي تمثل ثقافة هذه المجموعة أي انّه الشخص الذي تعتبره المجموعة مرجعها في هذه المعايير والقيم المرجعية بحيث يستطيع ان يوفر لنفسه وجماعته. لحمة منطقية حسب منطقها بين المظاهر الكونية الواقعية الملموسة التي تحيط بهذه المجموعة وبين هذه المظاهر والتصور السائد عما بعد هذه المظاهر بصورة يقبلها الذوق العام في المجموعة، والعقلية العامة السائدة، سواء عن طريق السحر والخرافة. أو عن طريق النقل والوحي. أو عن طريق العقل والنطق العلمي. غير أنّ المثقف في العصر الحديث – وبالمعنى الخاص يتجاوز، من حيث المفهوم، هذه المعرفة الاستظهارية إلى القدرة على تدبير مظاهر الحياة وتفسيرها ونقدها والسعي إلى توجيه مسيرتها باعتبار أنّ الواقع ليس شيئاً فيزيائياً بقدر ما هو شيء ذاتي نخلقه بأنفسنا.. فلكي يصح أن نصف شخصاً ما بأنّه مثقف لابدّ أن يكون فاعلاً متلزماً بنقد الحياة، حاملاً هم التغيير، وكشف أوجه الحياة السلبية، وتعريتها وإبراز أوجهها الإيجابية، والدعوة إلى تطويرها. فلم يعد من المسلم به أنّ المثقف هو المتعلم أو انّه الذي يحمل الشهادة الجامعية، بل لقد أصبح الكثيرون يميلون إلى تمحيص الصفة للفكر الذي يجعل رسالته الأولى في الحياة الفكر النقدي التغييري للحياة. هذه هي الخطوط العامة لقسمات المثقف في مفاهيمة العامة والخاصة ولكن: 3- ما هو موقع المثقف مادياً وأدبياً في درجات سلم جماعته ومجتمعه؟ يتضح من جملة التحديدات التي حددنا بها المثقف أنّه لا يخرج من طبقة محددة، بل هو ينحدر من كافة شرائح المجتمع. ولكنه سواء أنظم إلى صفوف وعاظ السلطان أو إلى صفوف التكنوقراطية الإدارية المحايدة أو إلى صفوف المناضلين الملتزمين فإنّه في كل الحالات يتميز عن فئته الأصل وعن المجتمع العام، وعن الصفوة التي تمسك زمام السلطة السياسية والمالية فهو مهما كانت فئته الأم، ومستواه المادي ليس من دهماء القوم، ولا من صفوتهم، وانما هو ومن الشرائح الوسطى في المجتمع الحديث. وذلك لأنّه بامتلاكه رأسمال رمزي مهم لا يمكن أن يكون من الفئة الدنيا في المجتمع وبتناقضه المركزي مع السلطتين السياسية والاجتماعية لا يمكن أن يعد من الفئة العليا، فهو قطب التحول والتغيير، وهما تمثلان قطب الثبات والمحافظة على الوضع القائم. ومع هذا التمييز، فلئن كان من المستحيل مبدئياً أن يعود إلى الفئة الدنيا لأنّ الرصيد المعرفي الرمزي لديه يستبعد أن يضيع منه، فان انتقاله إلى الفئة العليا ممكن لكن بشرط واحد هو أن يتخلى نهائياً عن منزلته ودوره كمثقف ينشد النقد والكشف والتغيير، ويتقمص دور السياسي المتمثل في تكريس الوضع القائم والدفاع عن المصالح الآنية والأهواء الشخصية ثمّ يبدأ الكفاح الوصولي الطويل المدى حتى يصل منزلة الصفوة التي تمتلك السلطة السياسية والاجتماعية أو السلطة المالية. هل يعني هذا أنّ المثقف لا يمكن أن يكون سياسياً بالمرة؟ كلا بل انّ المثقف مفكر همه الأوّل سياسي. ولكنه ليس زعيم حزب سياسي لأنّ المثقف لا يسعى إلى المصلحة ذاتية أو فئوية على حساب مصالح آخرين ولا يساوم على قناعته ومبدئه أما الحزبي فينطلق في المقام الأوّل من المصالح والأهواء الذاتية والفئوية ونشاطه قائم على المساومات والتنازلات والحلول الوسطى الميكافيلية. هل معنى هذا أنّ المثقف شخص مثالي تخلص من انانيته، وتحرر من الضغوط الداخلية والخارجية وحبته السماء حرية طوباوية تجعله بمنأى من ضغوط المجتمع وسلطته بحيث يكون موقفه المتمرد مقبولاً من المجتمع ومغتفراً؟ - الواقع أنّ المثقف – كما تقدم – خبير غير مرغوب فيه، في أغلب الأحيان من قبل السلطتين السياسية والاجتماعية لأن همه الأوّل تعرية وفضح ما قد تمارسانه من ممارسات تحركها الأهواء والمصالح الشخصية والحزبية. مع أنهما في نفس الوقت لا يمكن أن تستغنيا عنه. انّ علاقة المثقف بمكونات السلطة في مجتمعه علاقة معقدة جدّاً ومتوترة، خصوصاً في مجتمعاتنا المتخلفة.   4- فما هي الوظيفة الواقعية والممكنة والمثالية للمثقف في حركية البنية الاجتماعية لمجتمعه؟ سبق ان أبرزنا في الفقرات الثلاث السابقة عن الثقافة والمثقف ومنزلته أغلب العناصر التي تحدد وظيفة المثقف ودوره ويمكن أن نلملم شتاتها ونوجزها في: - ان ينذر نفسه لرسالة العدل وسيادة العقل والقانون والحرية والمساواة ويحتقر في سبيل أداء هذه الرسالة كل ألم وضرر لابدّ أن تصيبه. - أن ينذر نفسه لرسالة العدل وسيادة العقل والقانون والحرية والمساواة ويحتقر في سبيل أداء هذه الرسالة كل ألم وضرر لابدّ أن تصيبه. - وأن يقرأ الحياة قراءة المتبصر ويكشف عن كنهها ودلالاتها ويربط بين الواقع والمثال ويعري الزيف والخداع والكذب والخيانة والعجز، ويقف في وجه الظلم والقمع ويتحداهما، ويقف إلى جانب المظلوم والمضطهد والمحروم ويشد أزره، ويرفع عنه الظلم. ولعل دور المثقف لا يتمثل في اصلاح الآخر الا بعد اصلاح نفسه في المقام الأوّل، لذلك فلابدّ أن يكون عمله على جبهتين: الأولى ان يشن حملة مركزة ضد أهوائه وأطماعه وأن يلتزم بالانضباط الأدبي والفكري. يقول (علي أحمد اسماعيل): "إنّ انضباط المثقف يتطلب بالدرجة الأولى تدريباً شاقاً وانتظاماً وجهداً من أجل جعل عقله أداة خالقة أكثر منها مجرد مرآة عاكسة أو مستودعاً للمعرفة ولهذا فإن كل مثقف يجب أن يكون ملتزماً بجمع وتقييم الأدلة وتقرير النتائج الملائمة والمنطقية، ولكن انضباط المثقف لا يتمثل فقط في انضباط شخصيته ككل فالناحية الأكثر صعوبة فيما يتعلق بالانضباط هي القدرة على ضبط الذات وأهوائها". فالمثقف حامل رسالة، وكل حامل رسالة عليه أن يوفق بين مثل رسالته وسلوكه الشخصي وإلّا فإن كلامه لن يكون ذا جدوى ما لم يصحبه عمل موافق. الثانية: العمل على تغيير عقليات المجتمع وتوعيته، وتعويده على تحكيم العقل والمنطق بدل الأهواء والمصالح الآنية. وهي الغاية البعيدة للمثقف والهدف العسير خاصة في المجتمعات المتخلفة التي هي بحاجة إلى من يوقظها من سباتها، وينعها بأنّ التخلف ليس منزلة أزلية ترتبط بنمط من البشر، أو بمواقع من الكرة الأرضية، وإنما هو وضعية مرتبطة بعقلية الإنسان وارادته وتخاذله. يقول نفس الكاتب السابق: إنّ الإنسان هو المسؤول عن تخلف بلاده أو تقدمها فليست هناك مناطق منتجة وأخرى غير منتجة بل هناك عقلية منتجة وأخرى غير منتجة وليست هناك أرض سيئة، بل هناك أنظمة سيئة لا تستطيع استغلال الأرض ولذا يصبح ضرورياً أن تبذل الجماهير كامل طاقتها الذاتية للتوصل إلى تغيير الأحوال الطبيعية فالإنسان المثالي هو الذي يملك القدرة على تغيير المجتمع وقبل ذلك يبدأ بتغيير ذاته. غير أنّ هذا العمل النوعي لا يمكن أن يتم عن طريق الوعظ السياسي والدعاية المذهبية وإنما يتم عن طريق التحليل والنقد الموضوعي لمواقف ملموسة، يستطيع المتقبل منها أن يستنتج ويقارن ويتخذ موقفاً يحدده لنفسه بنفسه دون اكراه ما. إذا كانت هذه هي الثقافة في حيويتها وأهميتها في حياة الإنسان ومصيره وهذا هو المثقف ومنزلته ودوره فإن دور المثقف الخطر هذا يتأكد في فترات الغليان في التاريخ البشري وخصوصاً تلك التي تمد فيها قوى الشر شراكها فتزوج بالبشر شعوباً ودولاً تحت وطأة ليل الاستعباد والذل والهوان ولعل هذا العقد الأخير من هذا القرن من أشد هذه الفترات خطورة، وأكثرها أثارة للحيرة والخوف في التاريخ الحديث والمعاصر على الأقل بالنسبة لنا نحن أبناء الشعوب المضطهدة التي كانت تتوق خلال الأربعين سنة الماضية، إلى عصر جديد تسود فيه الحرية والانعتاق، فإذا بها في بداية هذا العقد أمام زلزال مريع وكابوس مخيف. فهل سيعي مثقفونا أبعاد وخطورة المسؤولية الملقاة على عواتقهم في مواجهة هذا الاعصار الداهم؟ وهل سيعي المثقف في بلدنا هذا حجم المسؤولية المضاعفة الملقاة على عاتقه باعتباره المسؤول أدبياً عن بلد في مؤخرة طابور الدول "المتخلفة ولكنه في مقدمة أكثر هذه الدول مشاكل مستعصية الحل، وحلها شرط أساسي للحركة نحو سبيل التحرر والانعتاق؟ ولعل السؤال الأهم هو: هل في هذا البلد مثقف بالمعنى الإيجابي للمثقف: أي المفكر المبدع المستعد لتحمل مسؤولية والالتزام بها، وتحمل التبعات؟ هذا ما قد نعالجه في مقاربة أخرى عندما تسنح الفرصة.   *باحث من موريتاني

ارسال التعليق

Top