الإنسان مفطور على حبّ الجمال، وكلّما كان الإطار الذي يُقدَّم فيه النحو أقرب إلى الجمال كان النحو محبباً أكثر. والجمال فيه العناصر الثابتة المرتبطة بالفطرة، والعناصر المتغيرة المرتبطة بالزمن.
ولابدّ من مراعاة الجانبيين، ولقد كان الأقدمون على غاية من الاهتمام بالإطار الجمالي في تقديم النحو خاصة للمبتدئ، اهتموا فيه بالجانب الجمالي من العرض وفق ما يتناسب وعصرهم. وقديماً في تراثنا دعا الأدباء إلى الاهتمام بالعنصر الجمالي في تقديم ما يراد تقديمه، وذهبوا إلى أن طبيعة الإنسان هي تغليب العين على القلب أو العقل، وأنّ الإنسان قد يميل إلى ما تسرّه نفسه حتى ولو كان دون ذلك مهلكة بل حتى إذا انطوا على سم ناقع. وهذه مسألة تربوية هامة تدعو المربين إلى الاهتمام بالجانب الظاهري من العرض بما لا يقل عن الاهتمام بالمحتوى العقلي والعلمي. يقول سهل بن هارون الإيراني المحتد والعربي المنشأ والثقافة واللغة: "والناس لعيونهم أشد تصديقاً منهم لقلوبهم، ولو رفع لأبصارهم بعض ما تسره نفوسهم ثمّ دعا إليه داع، ودونه مهالك جمة، لكان من يتورط تلك المهالك. وهو الجميل، والشارة الظاهرة، والرياض الزاهرة، فلا عجب لمن رأى ظاهر ذلك، وجهل باطنه، فوصل أسباب الطمع إليه، ولكن العجب لمن فهم الباطن، فعلم أن تزوده منه سم ناقع فأكذب علمه وصدق عينه".
والتأكيد على العين لا يعني الاستهانة بعقل الإنسان، بل يعني انبهار الإنسان بشكل طبيعي بالجمال، وهو انبهار يكمن وراءه كل إبداع جمالي في ساحة التاريخ البشرية.
وتدريس النحو يجب أن لا يهمل هذه الحقيقة في عرض المادة. لابدّ أن يسهم أهل الذوق والفن الرفيع في تقديم المادة النحوية سواء عن طريق المقروء أو المسموع أو المرئي. لابدّ أن يكون أصحاب الذوق الرفيع وراء إخراج كتاب النحو وتنظيم مواده وتسلسل فصوله، وهكذا وراء المادة النحوية المقدمة بالسبل الأخرى المسموعة والمرئية.
الغائية:والغائية مسألة هامة في تقديم كل تراثنا، ومنه النحو، وغياب الغائية أدى إلى دخول دراستنا العربية بل والتشريعية في مسالك نظرية ليس لها على أرض الواقع مصداق، بل تحلّق في عالم الخيال، وجعل الاتجاه العام لهذه الدراسات لا يتجه نحو مقصد معيّن، من هنا كثرت المعالجات لأمور هي أقرب إلى الخيال، وكثر التمثيل بجمل لا ينطق بها الجن فضلاً عن الإنس.
كل ذلك لغياب المقاصد والغايات في دراساتنا، بل انحراف المقاصد نحو نوع من الاستعلاء والتبجح والتفاخر العلمي، بدل أن يكون المقصد هو الناس بكل ما يحتاجونه في حياتهم من علاقات تفاهم وتعاون.
وجود الغائية في تدوين النحو يحذف الفضول ويحذف التمثيل بما لا ينطق به البشر، ويقلّص من التطرق إلى الاختلافات، ويجعل المادة النحوية متسلسلة متدرجة تدرجاً منطقياً تتجه نحو غاية معينة هي تقويم اللسان.
وإذ ذُكرت الغائية في العناصر النفسية لمنهج النحو، فبسبب انّ المزاج النفسي الذي ساد عالمنا منذ الغزو المغولي حتى الآن أفقدنا إلى حدّ كبير الحركة نحو غاية محددة مرسومة في جميع مجالات حياتنا.
هذه المشاكل التي نعاني منها في حقل التنمية الاقتصادية والاجتماعية والثقافية مردّها إلى عدم وجود الغائية وفقدان الأهداف الواضحة، وهذا النوسان بين المناهج الشرقية والغربية في حياتنا على مختلف الأصعدة مرده إلى انعدام الأهداف المحددة. وهذه حالة نفسية تعتري كل أمة تصاب بصدمة كبيرة في مسيرتها، ولكن آن الأوان لأنّ نرسم الغايات والأهداف الواضحة المدروسة، ونخطط للوصول إليها في كل مجالات حياتنا ومن ذلك مجال النحو.►
المصدر: مجلة ثقافة التقريب/ العدد 58 لسنة 2012م
مقالات ذات صلة
ارسال التعليق