الأخلاق في الإسلام تنقل الفرد من النظر إلى الحياة على أنها موضوع فردي خاص به بمفرده، إلى كونها موضوعاً جماعياً يُشارك هو في المسؤولية عنه.
ويمارس كل فرد منّا، من ذَكر وأنثى، في مجتمعه، مجموعة من المسؤوليات التي يفرضها عليه مكان وجوده وقدراته.
ومقدار معرفة الفرد مسؤولياته وفهمه لها، ثمّ حرصه على تحقيق المصلحة والفائدة المرجوّة منها، يجعل المجتمع متعاوناً فعّالاً تسوده مشاعر الانسجام والمودّة بين أفراده. ويُعدُّ الحديث الآتي أصلاً من أصول الشرعية التي تُقرر مبدأ المسؤولية الشاملة في الإسلام.
يقول النبي (ص): "كلكم راعٍ وكلكم مسؤول عن رعيته، الحاكم راعٍ ومسؤول عن رعيته، والرجل راعٍ في أهل بيته ومسؤول عن رعيته، والمرأة راعية في بيتها ومسؤولة عن رعيتها، والخادم راعٍ في مال سيّده ومسؤول عن رعيته، وكلكم راعٍ وكلكم مسؤول عن رعيّته".
أرأيت؟ من الحاكم إلى الخادم، مروراً بالمرأة والرجل، ثمّ أعاد قول: "كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته"، لتأكيد المعنى والتشديد عليه.
ولكن، أيّ تحمُّل للمسؤولية نقصد؟ وكيف أتحمل المسؤولية بصورة صحيحة، وما هي حدودها؟
تحمُّل مسؤولية بلادنا، وتحمّل مسؤولية الإسلام، وتحمّل مسؤولية أوطاننا، وتحمّل مسؤولية الأرض كلها.
أنت مسؤول عن الأرض، أنت مسؤول عن البشرية، أنت مسؤول عن الإسلام، أنت مسؤول عن إصلاح الأرض.
لهذا، فأنت عندك 6 مسؤوليات:
1- نفسك.
2- أهلك.
3- عملك.
4- بلدك.
5- الإسلام.
6- الأرض كلها.
والله العظيم ستُسأل يوم القيامة عن هذه المسؤوليات الست. ولن يكون مقبولاً لو كان الرد أننا كنّا نُصلِّي ونعبد الله فقط، وليس لدينا أي اهتمام بأحوال الأرض. وسنُسأل لماذا لم نحاول أن نُصلح بقدر استطاعتنا؟
إنّ الأرض كلها ملكٌ لله تبارك وتعالى، ومَن يسعى ويُجاهد من أجل الإصلاح فيها سيُجازيه الله كل خير، وسيُساعده ويُعينه على ذلك، وينصُره ويُعزه.
وهذا هو كلام الله عزّ وجلّ قال تعالى: (إنِّي جَاعلٌ في الأَرْضِ خَليفَةً) (البقرة/ 30). هذه الآية معناها أنك مسؤول عن الأرض. كلكم ستُسألون عن بلدكم، عن دينكم، عن أرضكم، وليس فقط عن أنفسكم وأهلكم.
وهذه هي الأمانة التي وُكِّلنا بحملها من قبل الله عزّ وجل. قال تعالى: (إِنَّا عَرَضْنَا الأمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الإنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولا) (الأحزاب/ 72).
تخيّل نفسك..
رسول الله يسألك يوم القيامة: ماذا فعلت للإسلام؟ فتقول له: أنا كنت أصلي وأصوم. فيقول لك: لقد تعبتُ وبذلتُ الجهد.. وأنت تقول لي إنني كنت أصلّي وأصوم.
قال تعالى: (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ) (البقرة/ 143)، هذه الآية دليل قرآني على أننا سنشهد يوم القيامة على البشرية. وكيف نشهد على البشرية إذا لم نكن مُتحمّلين المسؤولية؟
لقد مَنَحَنا الله شهراً في العام لتدريب المسلمين على الإرادة، وهو شهر رمضان. ذات مرة، كنت أجلس مع رجل غربي، فقال لي: إنّكم تملكون ديناً عظيماً له القدرة على تدريبكم وتقوية إرادتكم، وتملكون كتاباً فيه كل الوسائل التي تُدرّبكم على الإرادة وتحمّل المسؤولية، ولكنكم لا تُنفّذون ما فيه.
يقول الله تبارك وتعالى: (وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْئُولُونَ) (الصافات/ 24). أي سيُسألون أوّلاً قبل دخولهم الجنّة أو النار. فماذا سنقول لله يوم القيامة؟
ماذا ستفعل حين تسمع هذه الآية: (فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ * عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ * فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ..) (الحجر/ 92-94). أي تَحرّك وتحمّل المسؤولية، إلى أن تصل بعملك إلى درجة أن تُشقّق الجدران وتُغيّر في الدنيا من شدّة حركتك وأثرك.
ستقول: أنا طالب صغير السن، ولا أملك شيئاً. وستقولين: أنا مازلت صغيرة ولا أعرف شيئاً.
ولكن..
الله عزّ وجلّ سيسألك يوم القيامة عن الأرض.. ماذا فعلت لإصلاحها؟ لِمَ لَمْ تأخذ جزءاً يسيراً على قدرك وأخذت في إصلاحه، وإذا نجحت في إصلاحه ساعدتُك وأوكلتُ لك مزيداً من المسؤولية، وشيئاً فشيئاً ستكبر؟
يوم غزوة الخندق، أحاط الكفار، وكان عدهم 10 آلاف، بالمسلمين، إلا من جهة الجنوب، ناحية اليهود، حيث كان هناك اتفاق بين المسلمين واليهود بترك تلك الجهة مفتوحة. فاتفقت قريش مع اليهود على الدخول على المسلمين من جهة الجنوب، وبذلك سيَسهُل إبادة المسلمين وهزيمتهم. فجاء رجل من الكفار وأعلن إسلامه للنبي (ص)، وطلب أن يبقى مع المسلمين. فقال له رسول الله: أنت رجل واحد، فماذا ستفعل معنا؟ فيُمكنك أن تساعدنا من الخارج. فتخيّل.. ماذا فعل ذلك الرجل ذهب إلى يهود بني قُريظة الذين كان بينهم وبين المسلمين اتفاق، وقال لهم: ستجيء قريش عن طريقكم ثمّ ستعقد صلحاً مع محمد، فأنصحكم عندما تجيء إليكم قريش أن تأخذوا منهم 70 فرداً كرهينة عندكم حتى يكونوا ضماناً لكم من هذا الصلح. ووافقوه على ذلك، ثمّ ذهب إلى قريش وقال لهم إنّ بني قريظة تخشى العداء مع محمد، وإنّهم عقدوا اتفاقاً معه لكي يُرضوه، ألا وهو أن يأخذوا من الكفار 70 رهينة ويُعطوهم لمحمد.
فتشككت قريش في كلام الرجل، وعزمت على التفاوض مع اليهود لكي يتحققوا من كلام الرجل، فوجدته صحيحاً، وقالوا: صَدَق كلام الرجل، وفشلت خطتهم ورجعوا عن المدينة.
أرأيت ماذا فعل رجل واحد؟
يقول الله تعالى: (رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ) (الأحزاب/ 23). فهيّا نتحمل المسؤولية، وإيّاك أن تضعف وتَمَل من المسؤولية، لأن ذلك سيكون عهداً مع الله تبارك وتعالى، أوّلاً وأخيراً.
يقول الله تعالى: (وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آتَانَا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ * فَلَمَّا آتَاهُمْ مِنْ فَضْلِهِ بَخِلُوا بِهِ وَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ * فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقًا فِي قُلُوبِهِمْ إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِمَا أَخْلَفُوا اللَّهَ مَا وَعَدُوهُ...) (التوبة/ 75-77).
فَمَن سيتحمّل المسؤولية مثل سيدنا يوسف (ع) عندما خرج من السجن، وتولّى مسؤولية الاقتصاد في مصر؟
مَن سيتحمّل المسؤولية مثل سيدنا علي بن أبي طالب، كرّم الله وجهه، في حفظه للإسلام وللنبي (ص)؟
وبعد هذا العرض السريع لهذا الخلق العظيم، يأتي السؤال: كيف أستطيع تطبيق هذا الخلق في حياتي حتى يصبح صِفَة من صفاتي؟ نستطيع ذلك بخطوات عديدة منها:
1- اختَرْ آية أو حديثاً أو قولاً مأثوراً من داخل المقال، أو متعلّقاً بخُلق تحمّل المسؤولية، ويكون قد أثّر فيك، واجعله شعارك هذا الأسبوع.
2- جرّب بنفسك وحاول أن تتحلّى بهذا الخُلق في كل تعاملاتك وتصرفاتك، حتى يصبح فطرة وطبيعة فيك.
3- شجّع غيرك على تحمّل المسؤولية لتضمَن انتشار هذا الخلق بين الناس، ويَعمّ الخير على الجميع، وعندما تُشجّع غيرك يزداد في داخلك الدافع إلى التطبيق.
4- الدعاء.. ادْعُ ربنا بصدق واخلاص أن يجعلك صادقاً أميناً في حياتك كلها مع الناس ومع أهلك ومع نفسك.
فهَيّا معاً لنُحيي خُلقاً عظيماً من أخلاق الإسلام، ولنُجاهد أنفسنا عليه لننال عظيم الأجر من الله تعالى.
وإلى أن نلتقي في المقال المقبل، أكثِر من دُعاء النبي (ص): "واهدِني لأحسَن الأخلاق، لا يَهدي لأحسَنها إلّا أنتَ، واصرِف عنّي سيئها، لا يَصْرِف عنّي سيئها إلّا أنت".
ارسال التعليق