• ٢٠ تشرين ثاني/نوفمبر ٢٠٢٤ | ١٨ جمادى الأولى ١٤٤٦ هـ
البلاغ

أمراضنا النفسية.. كيف نعالجها؟

أسرة

أمراضنا النفسية.. كيف نعالجها؟
 لا تستغلّ أصدقاءك. لا تصنع جميلاً وتنتظر الجزاء، فالسعادة الحقّة تأتي عن الرضا النفسي الناشئ عن معاونة الآخرين، وتقديم التضحية دون انتظار الجزاء. حاول أن تغيِّر طريقتك. أن تصنع جميلاً حتى لمن لم يقدّره. العلاج في المصحّة الإسلامية مقاربٌ لهذا: فلقد عُدّ الإيثار كسراً لحالة الأنانيّة، وسداً لحاجة الآخر – مع أنّ الموجود من الزاد أو العطاء قليل – واعتبر تقديمه على النفس المحتاجة إليه، ابتغاء وجه الله، أعلى المكارم وأحسن الإحسان، وأعلى مراتب الإيمان. وإنّ ما نزلَ في الإمام علي (ع) والسيدة الزهراء – عليها السلام – من تكريم آني في سورة (الإنسان)، بإطعامهم الطعام للمسكين واليتيم والأسير، من جزاء جزيل، جارٍ في كلِّ مؤمن فعل ذلك لله عزّ وجلّ!! إنّه قاعدة عامة وليس مناسبة خاصة. إنّنا نؤمن بشيء إسمه (دورة العطاء)، فإذا كان عطاؤك حبّاً لله، عاد إليه بأضعافٍ مُضاعفةٍ وفي أوقاتٍ تكون في أشدِّ الحاجة إليه من الساعة التي آثرت غيرك به. إنّنا يمكن أن نُشبِّه ذلك بعنقود العنب الذي قطفته الأُمّ من حديقة البيت، فآثرت به ابنتها التي كانت قريبة منها. ثمّ آثرت هذه أخاها الصغير، وآثرَ هذا أباهُ فقدّمهُ له حين عودته من العمل، وآثرَ هذا به زوجته الحبيبة، فعادَ العنقود لليد الأولى التي قدّمته عن طيبِ نفس، فما كان منها إلا أن تشرك به الجميع لتطيب نفسها بذلك أكثر! فما تعطيه – إن قلّ – تأخذه وفيراً، ومباركاً، وحينما تكون بأمسِّ الحاجة إليه تذكّر (اللّطف) الذي يصنعه السر، والذي تدخله على غيرك، والذي يهرع إليك حينما تكون بحاجةٍ إلى نجدة أو إسعاف.   - صيدلية العيادة: في عيادتنا صيدلية فيها أنواع من الأدوية الخاصة بمعالجة الأمراض النفسية التي نعاني منها، وكلّ دواء عبارة عن تركيبة من ذكر المرض والإشارة لعلاجه، وهذه الأدوية، كالتداوي بالأعشاب إذا لم تنفع – وهي بالتأكيد نافعة – فإنّها لن تضرّ، وعلى أيّة حال، فهي أجدى وأصلح ما يمكن أن نُعالج به أمراضنا النفسية، ولعلّك وأنتَ تطّلع عليها، ترى أنّ الكثير منها تُوحي به عيادات الطبّ النفسي المعاصر، ولكن بصيغ وعبارات مختلفة.   1- كُن على سجيّك: يقول هذا الدواء: "أهنأ العيش إطّراح التكلّف"! التكلّف بذل الكُلفة، أي أنّكَ تتصرّف مع الشخص الآخر بشيءٍ من الرسميّة وبقدر من التحفّظ، فلا تكون عفوياً أو تلقائيّاً، وهذا يُتعبك.. أليسَ كذلك؟ وحينما تتحرّر من التكلّف لتبدو على سجيّتك، تشعر وكأنّك تخلّصتَ من كابوس أو من شيءٍ يثقل كاهلك. لا أدري إذا كنتَ حضرتَ حفلة رسميّة أم لا.. الجميع هناك يتصرّفون بتكلّف واضح في اللِّباس والكلام والحركات والإبتسامات، هذا ليس جوّاً طبيعيّاً، هذا جوّ إصطناعي يُشعر البعض بالإختناق وهو في داخله، حتى إذا خرج عنه، تنفّس الصُّعَداء. العفويّةُ مظهر من مظاهر الصحّة النفسية، ولذلك فتركيبةُ هذا الدّواء هي: طرح التكلّف = الهناءة (السعادة)   2- لا تسترسل: يصفُ هذا الدّواء نفسَهُ فيقول: "مَن أقلَّ الإسترسال سَلِمْ". الإسترسال هو الإنسياق وراء الشهوة أو النّزوة أو الخطأ، فحين تلهثُ خلف شيء من ذلك لتطلبه فتناله، ثمّ لا تكتفي به، فتُعاود الكرة في كلِّ مرّة، من غير أن تحسب للنتائج السلبية المترتِّبة على المداومة على هذا العمل، تصبحُ أسيراً له، شعرتَ بذلك أم لم تشعر.. إنّك يُذلّك وأنتَ تتصوّر أنّه يُمتعك.. هذا هو حال المدمنين على التدخين أو الخمر أو المخدّرات أو الجنس.. يلهثون دائماً، ويخضعون دائماً، ويدفعون الضريبة من جيب صحّتهم دائماً. ولأنّ الإسترسال طبيعة بشريّة، فإنّ الدواء لا يتحدّث عن الكفِّ نهائياً، بل عن (التقليل)، ولذلك فتركيبتهُ هي: قلّة الإسترسال = السلامة   3- تذوّق الجمال: مكتوبٌ على علبة هذا الدواء: "بصحّة المزاج توجد لذّة الطّعم"! المزاج يُقال الحالة النفسية للإنسان، فإذا كان مزاجُكَ رائعاً، وجدتَ الجوّ حولكَ رائعاً، وإذا كان مزاجُكَ لذيذاً، استشعرتَ بلذّة الطعم في الأشياء التي تتناولها، وإذا كان مزاجُكَ مُعتدلاً، استمتعتَ بالشيء البسيط. ألا ترى أنّك حين تكون مُنفعلاً نفسيّاً ويُقدّم لكَ أشهى الطعام، فإنّك لا تحسّ بشهيّته أو لذاذته أو طعمه، ماذا يعني هذا؟ إنّه يعني أنّ ما يُطيِّب الطيِّبَ هو (العافية).. هذا هو معنى: كُن جميلاً ترى الوجود جميلاً. فالجمال انبعاث داخلي، وإحساس باطني ينعكس على الأشياء الجميلة بذاتها لتبدو أكثر جمالاً، أو على الأقل يجعلنا نحسُّ ونتذوّق ذلك الجمال، فعينُ الشاعر الأديب وعين الفنّان الرسام لا تختلفُ من حيث التركيب عن عيوننا، لكنّ (النفسية) الشاعر والفنان تتذوق الجمال أكثر منا. وبهذا نخرج بالتركيبة الدوائية التالية: صحّة المزاج = لذّة الطعم   4- الإعتدال.. الإعتدال: ليس اعتباطاً أن يكون الربيع أجمل الفصول، لإعتدال مناخه، فلا هو بالحارِّ ولا هو بالبارد، وليس غريباً أن يكون الإعتدال في الأفراح سبباً في الإستمتاع بها، ذلك كلّ شيءٍ إذا زاد عن حدِّه انقلبَ إلى ضدِّه، ألم يقل ذلك الشاعر: هجمَ السرورُ عليَّ حتى أنّهُ **** من فرطِ ما سرّني أبكاني! الإعتدال في الحياة قاعدة ذهبية قليلٌ من الناس مَن يأخذ بها، فحينما تقرأ على دواء من أدوية صيدليّتنا النفسية: "لا تجتمعُ الصحّة والنهم"، تعرف أنّ الإسراف والإفراط والتطرّف والشراهة، أمراض وآفات مضرّة بالصحة، فليس الإفراط في تناول الطعام وحده يضرّ بصحّتك، بل النهم والشراهة المالية تضر بصحة الإنسان النفسية أيضاً، لأنّها تعني اللّهاث والقلق والجوع والرغبة والظمأ، فإنّ الشارب من ماء البحر لا يرتوي، بل يزداد عطشاً، ولذلك يُفترض أن نقلب المعادلة على النحو التالي: الإعتدال = الصحّة ومن بين أدويتنا، دواء مكتوب عليه: "الجوعُ والمرضُ لا يجتمعان"! وليس المُراد الجوع الذي يفتك بالإنسان، بل الإقلال من الطعام، والصوم، ونقاء المعدة.   5- الوقاية.. الوقاية!! اللافتة المكتوبة على هذا الدواء تقول: "لا وقاية أمنَع من السلامة". بمعنى: مَن توقّى سَلِمْ، والمعروف لدينا القاعدة الصحية البدنية التي تقول: "الوقايةُ خيرٌ من العلاج"، "درهم وقاية خيرٌ من قنطار علاج".. والقاعدة ليست بدنيّة فقط، بل نفسية أيضاً، فتوقِّي الفواحش والمنكرات والبذاءات والموبقات، تكسبكَ سلامة نفسيّة، ذلك أنّ المتورِّطين في هذه المباذل هم (أشقياء).. وهم أكثر المرتادين لعيادات الطبّ النفسي، وبهذا نكون أمام العلاج النفسي التالي: الوقاية = السّلامة إنّها بديهة نفسية، فالذي لا يُدخِّن يُحافظ على سلامة رئتيه، كما أنّ الذي لا يرتاد المناطق المشبوهة، والتي تدور حولها علامات الإستفهام، والمعروفة أنّها موبوءة، يُحافظ على سلامته النفسية والإجتماعية أيضاً.   6- أكفُفْ بَصَرَك: هذا دواء لراحة البال وهدوء الأعصاب مكتوبٌ عليه: "مَن غضّ طرفَه[1] أراح قلبَه". وهو موصوف لأمراضٍ من قبيل: "مَن أطلقَ طرفَه، جلبَ حتفه"، و"كم من نظرةٍ جلبت حسرة".. العينُ لا تشبع من النظر، وإذا تُركت على هواها بعثت برسائل مُقلقة لراحة القلب: هذا أقوى منك.. هذا أغنى منك.. وهذهِ أجملُ منك.. أنظر إلى سيارته.. آخر موديل.. أُنظري إلى زينتها من الذهب عيار (21).. إنّه محظوظ.. إنها سعيدة الحظّ.. محبوب أكثر منِّي.. عيناها أوسعُ من عينيّ.. وهكذا فإنّ القائمة والرسائل البريدية التي تُفسد أو تُقلق فيها العينُ راحةَ القلب أكثر من كثير. غضُّ الطرف أو البصر لا يكون بإنزاله فقط وعدم رؤية ما لدى الآخر، بل هو كناية عن أنّك إذا رأيتَ ما يتمتّع به الآخر لا تذهب بعيداً لتعيش الحسرة والحسد والألم النفسي، بل أن تنظر إلى ما عندك ممّا تتمتّع به، أو أن تسعى لتحسين وتطوير ما عندك، فهو أفضل بكثير من أن تذهب نفسك حسرات على ما عند الغير ولن تناله بمجرّد أنّك تحسدهم. العلاج إذاً: غضّ الطرف = راحة القلب   7- أيقِنْ بعظمة الله ورحمته: لطرد الهموم لدينا الدّواء: "نِعْمَ طاردُ الهموم اليقين"! اليقين بالله تعالى وأنّه على كلِّ شيءٍ قدير، وأنّ بيده كلّ شيء، وإليه يرجع الأمر كلّه، وإنّ رحمته وسعت كلّ شيء، وأنّه الهادي إلى سبل الرشاد والسلام والسعادة، وأنّه عند ظنّ مَن يحسنُ الظنّ به، وأنّه لا حول ولا قوّة إلا به، وأنّه الطبيب إذا عزّ الدواء وعجز الأطبّاء.. إلى غير ذلك من المعرفة بعظمة الله ورحمته ولطفه الظاهر والخفيّ، وكل ذلك لا يعمل عمل (المُخدِّر) أو (الأفيون)، وإنّما يعمل عمل (المُهدِّئ) و(المُسكِّن) و(المُلطِّف) لمشاعركَ إذا احتدمت، و(المؤمِّن) لقلبكَ إذا خاف، و(المُثبِّت) لقدمكَ إذا زلّت أو تزعزعت، إنّه يمنحكَ قوّة حقيقية وليس قوّة وهميّة، فما دام كلُّ شيء تحت قبضته وهو خالق كلّ شيء، وكلّ شيء مؤتمر بأمره، فأيّة قوّة كقوّته يمكنني أن أسند ظهري إليها؟! أو أثق بها فلا تخذلني أبداً؟! وهي معي أينما كنت. الملجأ إلى الله ملجأ إلى حصنٍ حصين، ولذلك كان من رحمته ولطفه أن جعل ذكره، واستحضاره في ضمير الإنسان المسلم، وتوجّهه إليه، سبباً لطمأنينة الإنسان: (أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ) (الرعد/ 28)، إنّ بينَ الأدوية التي تحتوي عليها صيدليّتنا: "الذِّكر يشرح الصّدر"!! الدراسات التي أجريت على المعمِّرين لاحظت أنّ هناك سببين أو عاملين مهمّين لعبا دوراً في امتداد أعمارهم: الصحة الغذائية والصحة النفسية، وحينما بحثوا في الثانية تبيّن لهم أن (المطمأنينة) والعلاقة الروحية الصادقة التي كانوا يعيشونها من خلال الإرتباط بالله تعالى هي التي وازنت بين صحة أبدانهم وسلامة أرواحهم. التركيبة الدوائية لهذا العقار النفسي العجيب، هي: اليقين بالله = طرد الهموم لأنّكَ لو تأمّلتَ فيما يصنعه الإيمان بالله لرأيت أنّ الهموم مهما كانت أسبابها، فإن مزيلها الأكبر هو الثِّقة بالله، والإطمئنان لوعده، والأنس برحمته، فما من همٍّ إلا وهو كفيل بأن يّذهبه، ولذلك كان من الأدوية المشابهة: "مَن لم يتعزَّ بعزاء الله، تقطّعت نفسهُ على الدنيا حسرات، ومَن رمى ببصره إلى ما في يد غيره، كثر همّه ولم يشفَ غيضُه". ومثله في الفعالية: "أمان لأمتي من الهمّ، لا حول ولا قوّة إلا بالله، لا ملجأ ولا منجا من الله إلّا إليه". ومثلهُ في الشفاء: "الإسلامُ فيه شفاءُ المستشفي، وكفاية المكتفي"، والشفاء هنا من الأمراض النفسية والخُلقيّة والسلوكية طبعاً، لأنّ الإسلام نظام شامل ومتكامل يراعي ذلك كلّه ويضع لهُ منهاجاً.   8- التأمّل بـ(الموجود) أكثر من (المفقود): هذا دواء للقلق من المجهول: "ما مضى فات، والمؤمّلُ غيبٌ، ولك الساعة التي أنتَ فيها"! ما حصلت عليه أو خسرته بالأمس، مضى وانقضى، وما يأتيكَ به الغد لا يعلمهُ إلا الله تعالى، فلم يبقَ لكَ إلا الساعة أو اليوم الحاضر الذي بين يديكَ، وأنتَ لا تملكُ إلا عينين: فإذا مددتَ واحدةً إلى الأمس وأخرى إلى الغد، وكلاهما ليسا تحت يديك، فإنّكَ تكون قد أضعتَ ما بين يديك، لأنّك ستكون أعمى عنه طالما أنّ عينيكَ مشغولتين تارةً بالماضي، وتارةٌ بالمستقبل المجهول، وليس في العقلاء مَن يُضحِّي بـ(الموجود) من أجل (المفقود). هذا لا يتنافى مع التطّلع إلى الغد، واستشراف المستقبل بعين الرجاء، وأن تجعل من يومك جسراً لغدك لأنّك تسعى نحو الأفضل دائماً، لكنّ ما ترتجيبه غداً إذا جاء الغد ولم يأتِ فلا تقُم عليه مأتماً، ولا تترك حاضركَ بآماله ومتطلّباته وسعادته الراهنة، لتنتظر ما يأتي به الغد. إنّ النسيخ لا يكتمل من غرزةِ إبرةٍ واحدة.. لكن الغرزات الأولى كفيلة بأن توصلكَ إلى ما تريدُ نسجه لترتديه، وإذن، فتركيبةُ هذا الدواء هي: التركيز على الحاضر = هدوء وسكينة   9- أردْ ما يكون: وهذا دواءٌ آخر لمعالجة المستحيل أو المتعذِّر الذي يصعب تحقيقه، مكتوبٌ عليه: "إذا لم يكن ما تُريد، فأردْ ما يكون"! ليست كلّ الأشياء في متناول اليد.. بعضها قد لا يكون مستحيلاً، لكنّ مشقّة الوصول إليه والمخاطر التي تكتنفه تحولُ دون تحقيقه، وبعضها مستحيل، لأنّ ظروفه لم تنضج، كما لو أنّك تطلب التفاح من شجرة التفاح زرعتها قبل يومين، ولئلّا تعيش الألم النفسي على ما تريده ولم يتحقّق، ينصحك صانعوا هذا الدواء بأن تطلب (المُمكن).. لأن حصولك عليه يخفِّف من حالة أو وطأة الإحباط التي تُسبِّبها رحلة البحث عن المستحيل أو المعذِّر التحقيق في فترةٍ ما، ولذلك قال العُقلاء: "خُذ.. وطالِبْ"، فـ(المُمكن) يُحقِّق لي حالة من الرضا والإشباع النفسي، على عكس ما يتركه التفتيش عن المتعذِّرات من إحباط، فمن تشخيصات عيادتا أنّ: "مَن طلبَ ما لا يكون، ضيّع مطلَبه".   10- عِشْ الرّجاء بالحصول على غير المتوقّع: ربّما يبدو هذا الدّواء مناقضاً أو مخالفاً من حيث التركيبة للدّوائين السابقين، لكنّكَ إذا قرأتَ نشرة التعليمات الداخلية، فإن هذا الشعور سيُزايلُك، فتركيبةُ هذا الدواء تقول: "كُن لما لا ترجو أرجى منكَ لما ترجو، فإنّ موسى بن عمران (ع) خرج ليقتبس لأهله ناراً، فكلّمه اللهُ وعزّ وجلّ فرجع نبيّاً، خرجت ملكة سبأ فأسلمت مع سليمان (ع)، وخرج سحرة فرعون يطلبونَ العزّة لفرعون، فرجعوا مؤمنين"! هذا الدواء يوفِّر حالةً من الرجاء والأمل والتطلّع لما عند الله من عطاء مدخر لا أعلمه.. فـ(الخروج) في الأمثلة الثلاثة يعني (الحركة.. والحركة – كما يُقال – بركة، فقد تذهب إلى السوق وفي ظنّك أنّك ستحصل على رزقٍ مُعيّنٍ، وإذ بكَ تُفاجئ برزقٍ غير متوقّعٍ أو أكثر من المأمول، فهذا الدواء يُقدِّم لنا هذا المُلطِّف النفسي على طريقة: "تفاءلوا بالخير تجدوه"! أو "ما عندَ اللهِ خيرٌ وأبقى"!   11- وحدة الشخصية: هذا الدواء من الأدوية المُضادة.. شبيه بالمضادات الحيوية التي تُعالج فيروساً مُعيّناً، تقول لافتة: "ما أقبح بالإنسان باطناً عليلاً وظاهراً جميلاً"! إنّ واحداً من أسباب شكاية الشاب أو الفتاة من أنّهم لا يشعرون بالسعادة وأنّهم وهم، ويعجبون كيف يقول البعض من أصدقائهم ومقرِّبيهم أنّهم سُعداء مع ما يعيشونه من ازدواجيّة.. فعندما اهتمّ يمظهري كثيراً وأهمل داخلي مبعثراً، فإنّ زينتي الخارجية لن تجلب لي من السعادة إلا بقدر ما تلتمع به عيون الناظرين، أمّا إذا زيّنت داخلي بالحبِّ والخير والجمال، فإنّني سأشعر بالتوازن، والتوازن بحدِّ ذاته سعادة، ولذلك فإنّ السُّعداء لا يتناولون عقاقير السعادة، لأنّها غير موجودة في الصيدليات، وإنّما يتعاطون هذه التركيبة المنسجمة بين الداخل والخارج.. قارِبْ أو قلِّصْ الفجوة بين المظهر والجوهر، أو الداخل والخارج، تكن سعيداً.   12- إقرنْ (الإرادة) بـ(المُمارسة): هذا العقار من أدوية السعادة أيضاً، تقول وصفتهُ: "إذن اقترنَ العزم بالحزم، كمُلت السعادة". (العزم) هو (الإرادة).. هو التصميم على فعل شيء ما مادياً كان أو معنوياً.. لكنّه لوحده لا يكفي.. هو كالكهرباء في الأسلاك.. طاقة مخزونة.. بتحريره يتحوّل إلى ضوء وإلى حركة وإلى حرارة.. (الحزم) هو نقل العزم أو الطاقة من حيِّز (القوّة) إلى حيِّز (الفعل). قرّرتَ مثلاً أن تُقلع عن عادةٍ سيِّئةٍ ثبتَ لديكَ أنّها ضارّة وأنّك تعاني منها كثيراً، ثمّ اتجهتَ إلى الخطوات التي تكفل لك التخلص من هذه العادة.. وبعد عدة محاولات نجحت.. كيف يكون شعورك؟ نحنُ نصفهُ لك: إنّه شعور المُنتَصِر.. شعور الفائِز.. شعور الناجِح.. والفوز والنصر والنجاح سعادة، ولا شكّ.   13- الصبر.. لذّة! كأنّ هذا الدواء يُمارسُ دعايةً للترغيب بنفسه، فهو يقول: "ما صبرتَ عنه، خيرٌ ممّا التذذتَ به"! إنّه يخالف ما عند الناس من نظرة إلى الصبر على أنّه (حرمان)، وإلى ما هو سائد عندهم من أنّ (النوال) أو التحصيل أو الظّفر بشيءٍ هو اللّذة. لاشكّ أنّ حصولك على شيءٍ كنتَ تبحث عن وترغبُ فيه يُحقِّق لك نوعاً من اللّذة، خاصة في الأمور الإيجابية، أو الحَسَنة، أو الخيِّرة، لكنّ الصبر هنا هو الصبر على (المُحرّمات) و(الممنوعات).. فصبركَ عن شراب محرّم، أو طعام محرّم، أو علاقة محرّمة، علاوة على أنّه يحقِّق لك الشعور بـ(الإنتصار) على ضعفك وهو نوع فريد من اللّذة، لابدّ أنك جرّبتها، فإنّه يمنحك لذّة أخرى وهو أنّه تصبح قريباً من الله، وهي لذّة لا تُعد لها في عالم اللّذات لذّة، لأنّها.. اللّذةُ القُصوى!   14- حسِّن خُلقُكَ.. يطيبُ عيشَك: وهذا هو الآخر من أدوية الراحة النفسية المجرّبة، تركيبتهُ تقول: "بحُسنِ الأخلاق يطيبُ العيش"! حسنُ الأخلاق هو كلُّ قولٍ طيِّب، وكلّ عملٍ طيِّب، فإذا تمكّنتَ من هذا وذاك، طاب عيشك وأحسست بالسعادة، ومالت نفسُك للأنس والراحة، فمن حَسُن خُلقه كَثُر محبّوه وأنست النفوس به، ومحبّةُ الناس لكَ سعادة، ولذلك فإنّ من الأمراض النفسية الحادة هو (سوء الخُلق) أو (الطِّباع الخشنة)، أو (السلوك المُنافي للآداب)، ففي تشخصيات عيادتنا أن "مَن ساءَ خلقه، عذّبَ نفسه"، و"مَن ضاقت ساحتُه، قلّت راحتُه"! والعذاب النفسي هو أقسى العذابات، فالمُسيء لغيره لا يُعذِّب غيره فقط، بل يُعذِّب نفسه أيضاً، لأنّه يشعر أنّه مكروه ومُقرِف ومنبوذ، فكيف يجدُ لذّةً مَن هذا هو شعوره. السُّعداء في الناس – لو علتَ بحثاً أو إحصاءً فيهم – هم الذين يتعاملون بلُطفٍ، ويتصرّفون برفقٍ، ويُحسنون إلى غيرهم، لأنّ انعكاس ذلك في كلمةِ شكرٍ، أو إبتسامةِ شكرٍ، أو عرفان بالجميل، يشيعُ في أنفسهم السرور، فينامون قريوي العين.   15- أزِلْ هموم المهمومين: حاول أن تزيل هموم المهمومين وإن كنت في الموقف نفسه، ففي هذه المحاولات سوف تجد الفرج وتتعلم دروساً في الشفاء. لا تقل في استخفاف: "طبيبٌ يداوي الناس وهو عليلُ"؟! فالمرض النفسي، كما هو المرض الجسدي درجات، وبامكانك أن تساعد الأشد درجة على تخفيفها من خلال ما تمارسه من استشفاء نفسي، فالطريقة الوحيدة لكي تشفي الآخرين من مرضٍ ما، هو أن تُشفى أوّلاً. إنّ المدخِّن الذي أدمنَ التدخين ثمّ أقلعَ عنه، قدوةٌ حسنةٌ للمدخِّنين! والمُدمن على المخدِّرات أو الخمر التائب عنهما، التارك لهما بلا رجعة، عالج نفسه فشفي منهما، وبالتالي فهو أفضل مثال يمكن أن نقدِّمه لِمَنْ يحتج علينا أنّ الكفّ عن المعاقرة أمرٌ عسير أو مستحيل. والذي ابتُلي بخصلة شريرة أو عادة سيئة، وحاول بتربيةٍ ذاتيٍة واعية وإرشادات خارجية مخلصة، أو يتلخّص منها هو نموذجٌ حيٌ يمكن أن يُشار إليه لمن يدّعي أنّ التخلص من العادات الضارة ضربٌ من العبث، فبدلاً من أن يستشهد لنا بالعاجزين من أمثاله، يمكن أن نقدِّمك له مثلاً لأصحاب الإرادة والعزيمة، الذين أرادوا فكان لهم ما أرادوا. إنّ برامج تخفيف الوزن أو ما يُسمّى بـ(الخاسر الأكبر)، أي من وزنه (والرّابح الأكبر) أي من الجائزة المخصّصة لأكبر عدد من الكيلوغرامات الدهنية الناقصة، تقدِّم نماذج مُشرِّقة أنّ الذي كان يبدو في (المخيّلة) قدراً مستحيلاً، أصبح في الواقع جسماً نحيلاً جميلاً. إنّك يمكن أن تكون صاحب طاقة مرتفعة في تجارب الإنتصار على أيِّ مرض كنت تعانيه وتخلّصاً منه، وأصحاب الطاقات المرتفعة أقدر على (الشفاء) و(الإشفاء) معاً! يقول (د. هوكينز) أحد أشهر الأخصائيِّين النفسيِّين: "في كلِّ حالة شفاء خضعت للدراسات لمرضٍ مستعصي وميئوس منه، وُجد أنّه قد حدث تحوّل بارز في الإدراك والوعي بحيث فقدت أنماطُ الإجتذاب المسبِّبة للمرض قدرتها على الهيمنة على الإستحواذ": إنّ عجزكَ عن رؤية نفسك في حالة اتصال مع الصدر المموّن بالشفاء هو المرض النفسي الأكبر، وإن محاولتك لإستعادة هذا الإرتباط ولو تدريجياً، ومحافظتك على ما حقّقته بالتمرين والمحاولة والتجربة والعزيمة سيشفيك من كثير ممّا يعانيه المبتعدون عن المصدر وهو الله تبارك وتعالى، وعن كلّ قناة نظيفة صحيّة وصحيحة توصلك به: نبيّاً كريماً، أو كتاباً مجيداً، أو قدوات صالحة. واعلم أنّ الهموم سموم قواتِل، والهمّ لغة الحزن الذي يُذيب الإنسان، من هممتُ الشحم أي أذبته، ولذلك كان "الهمّ نصف الدم".. فبإمكانك أن تُحطِّم إنساناً بأن تعلِّق أمان ناظريه صورة سوداء معتمة يراها في كلِّ حين، أو تضع على عينيه نظارات سوداء غامضة لا يرفعها، وأن تستقبله دائماً بوجه عبوس متجهِّم وشكوى موصولة عن رتابة الحياة، وأرقام مخيفة عن زيادة نسبة الكآبة في شريحته العمرية، وأن تصور له بأنّه عاجز عن تجاوز عجزه، وأنّه مشلول لا يقوى على مقاومة مشاكله، إذ يكفي أن تقتل روح التحدي في داخله لتقتله وأن تخنق روح الحياة فيه فتحفر قبره بيديه. إنّ الهمّ يبدأ كسحابة رقيقة، ثمّ لا يلبث – إن تُرِك من غير علاج ولا ارتباط بالمصدر – أن يتحوّل إلى يوم سوداء كثيفة، ثمّ إلى أزمة نفسية، ثمّ إلى أزمة قلبية، ثمّ إلى اكتئاب ملازم يفضي إما إلى اعتزال الناس والإنسحاب من الحياة، أو إلى الإدمان ومعاقرة المخدرات هروباً من الواقع، أو اللّجوء إلى الدجل والشعوذة والخرافة والتنجيم، أو إلى الإنتحار. إذا سمعتَ مَن يقول لك إنّ (الإرتباط بالمصدر) وتعميق العلاقة والثقة وحسن الظنّ به (وصفة سحريّة) فصدِّقه. لا بمعنى أنّ السحر المذموم والمرفوض، بل لأنّه الشفاء الأكبر من كلّ ما يعانيه الإنسان في كلِّ عصر وليس إنسان العصر فقط. خذ مثلاً هذا الذي جرّب الإندكاك بالمصدر، فوصل بعد تجربة طويلة إلى الثقة المطلقة بالمصدر، برهنت له على أنّه لن يعاني شيئاً اسمه مرض نفسي طالما أنّ علاقته بالمصدر ثابتة غير قابلة للإهتزاز، حيث يقول: رَضيتُ بما قسم الله لي **** وفوّضتُ أمري إلى خالقي كما أحسنَ اللهُ فيما مضى **** كذلك يُحسنُ فيما بقي!! وقيل في المفوّضِ أمره إلى الله، أي الذي يفزع إليه في المهمات، ويتوكّل عليه في الشدائد والصعوبات، والذي يلوذ به في المشاكل والأزمات، بل الذي يناجيه أيضاً في أوقات السلامة والخلوات، بأنّه: "في راحة الأبد، والعيش الدائم الرغد، والمفوّضُ حقاً هو العالي عن كلِّ همّةٍ دون الله، لا يصبح إلا سالماً من جميع الآفات ولا يُمسي إلّا معافى بدينه". وقارن هنا بين (الهمّ) كخافض للطاقة و(الهمّة) كرافعة للطاقة. كُن عبدالله الذي يطيعه فيما أمره، ويخلص له في حياته، فإذا اشتكيت مرضاً نفسياً بعدها، فعلينا دفع ثمن علاجك، وسوف لن نخسر فلساً واحداً، لأنّنا متأكِّدون أنك لن تحتاجنا! ولقد جاء في التفاسير أنّ مفهوم (السلام) في قوله تعالى: (هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلامُ الْمُؤْمِنُ) (الحشر/ 23)، يعني: الصحة أو السلامة من كلِّ آفة ومرض روحي، وضعف نفسي، ويؤمن عباده في أمان واطمئنان، ولذلك فإننا حينما تحدِّثنا في عيادتنا عن (السلام الداخلي)، قلنا أنّه الذي ينبع من داخل النفس ويشيع في جوانبها، غير أنّ هذا لا يعني أنّ الإرتباط بالمصدر هو ارتباط بالسلام الخارجي، وإنّما هو سلام أشبه بنور الشمس الذي يتسلّل عبر زجاج النافذة إلى الغرفة، فهو في داخل الغرفة نفسه الذي في خارجها. استقبل النور المتسلِّل بأن تفتح نوافذك الداخلية له، وأبق تلك النوافذ مفتوحة ليتجدّد النور في داخلها، أو يسكنها إن استطعت. تذكّر أنّ نور الشمعة الذي يشقّ الظلام أو يثقبه أو يمزِّقه يمكن أن يحيل الغرفة المعتمة من طاقة منخفضة إلى غرفة تشعّ بالطاقة المرتفعة. وقبلَ أن تُفكِّر بلطبيب، فكِّر في أن تغيِّر نظرتك للأشياء، وستجد أن حياتك تتغيّر من دون اللجوء إلى العقاقير والمهدِّئات والمنشِّطات. هذه عيِّنات من الأدوية النفسية في الصيدلية المُلحقة بعيادتنا، وهي تحتوي على الكثير غيرها مما لا يسع المجال لاستعراضها هنا كلّها، وبإمكانك الاطِّلاع على المزيد منها فيما تقرأه من الأحاديث والروايات الشريفة التي تتعامل مع الإنسان من خلال معرفة وإحاطة بكلِّ دقائقه النفسية، فهي تشخِّص المرض بدقّة، وتصف العلاج له بمعرفة. وإذا أردنا أن نُصنِّف هذه الأدوية في مجموعات، فإنّها – كما تبيّن من عرض بعضها – إمّا مُخفِّفات أو مُزيلات للألم النفسي، وإمّا مُسبِّبات للسعادة والإنشراح أو الراحة النفسية، أو ما اصطلحنا عليه بـ(السلامة النفسية). (إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ) (الرعد/ 11).
[1]- الطّرف: العين.

ارسال التعليق

Top