صحيح أنّ القلق يؤثر على كلّ أعضاء الجسم وأجهزته تقريباً لكن اختيار القلب على وجه الخصوص ليكون موضوع حديثنا في حالة القلق يرجع إلى أهمية القلب وما يرتبط به في الأذهان من وضع خاص في علاقته بالحياة، فالحياة قائمة طالما أنّ القلب ينبض، فإذا توقف فذلك يعني النهاية.
كما أنّ القلب يرتبط في الأذهان بالحب والعواطف، حتى لقد ظل لوقت طويل ينظر إليه على أنّه مركز الانفعال والمشاعر، وتغنى بذلك الكتاب والشعراء فنظموا في علاقة الحب بالقلب ما تتسع له المجلدات، ونفس هذا الاتجاه لا يزال شائعاً في كلمات الأغاني في الشرق والغرب، في التعبيرات الشائعة التي يتداولها الناس، ولعل رسم الشكل الشائع للقلب وبه سهم يخترقه إشارة الحب هو نتيجة لما يحيط بالقلب وعلاقته بالعواطف في التفكير العام.
القلب.. في العيادة النفسية:
حضر أحد المرضى إلى العيادة النفسية، وقال لي وعلامات الهم والقلق تكسو ملامحه:
· أنني مريض بالقلب.. ولا أدري ما علاقة الدكتور النفساني بذلك؟
· إذن فلماذا حضرت إلى العيادة النفسية؟
· لقد حضرت إلى هنا لأنّ الدكتور... طبيب القلب طلب مني ذلك، وقبله كنت قد ذهبت إلى عدد من الأطباء، وكلّ واحد منهم يخبرني إني "سليم" وأخيراً ها أنا في العيادة النفسية... وأضاف (منفعلاً): أنا لست بمجنون! هدئ من روعك.. ثمّ نظرت إلى الورقة التي قدمها إليَّ عند دخوله فوجدتها تقريراً طبياً يفيد بأنّ حالته الصحية بما فيها القلب سليمة تماماً، وبالنسبة لهذا المريض وغيره لا تكون هذه هي البداية بل حلقة في مسلسل يطول لسنوات من المعاناة نتيجة للقلق والوهم الذي يتركز على حالة القلب، ويدفع المريض إلى طلب العلاج لما يتوهم أنّه مرض عضال أصاب قلبه ويهدد حياته.
الوهم.. ومرض القلب:
على الرغم من الانتشار الهائل لأمراض القلب في العصر الحديث إلا أنّ الإحصائيات تدل على أنّ الغالبية العظمى من المرضى الذين يزورون الأطباء للشكوى من أعراض مرض القلب ليس لديهم بالفعل أي خلل عضوي في القلب وحتى في المراكز المتخصصة في علاج أمراض القلب فإنّ نسبة تصل إلى 20% من الحالات التي يتم تحويلها للعلاج على أنّها مرض عضوي بالقلب ليست سوى حالات نفسية أو وهم يصاب به المرضى نتيجة للقلق. وفي حالات الوهم هذه تكون هناك أعراض فعلية لاضطراب بالقلب مثل الخفقان نتيجة لازدياد معدل وشدة ضربات القلب، والإغماء، والصداع، وشعور الوهن، أو ضيق الصدر الألم في موضع القلب، حتى أنّ الأمر قد يختلط أحياناً مع حالات مرض القلب العضوي الفعلي لذلك قد يكون السيناريو الذي تبدأ به قصة المريض مع وهم مرض القلب هو كلمة سمعها من أحد الأطباء أثناء إجراء فحص طبي لأي سبب عن مجرد شك في حالة القلب، أو إذا طلب إليه الطبيب عند فحصه بصورة روتينية أن يخضع لبعض الفحوص مثل رسم القلب، فتكون هذه البداية لبذرة الشك في إصابته بمرض بالقلب، حيث تتملكه هذه الفكرة فيما بعد، ويأخذ في التردد على الأطباء، ولا يصدق مطلقاً من يخبره بأنّه سليم معافى، فهو يبحث عن تأكيد لأوهامه ولا تفلح كلّ الجهود فيما بعد في إقناعه بحقيقة حالته.
الانفعال... والقلب:
لا شكّ أنّ القلب هو أحد أكثر أعضاء الجسد تأثراً بالانفعالات والعواطف ولعل هذا هو السبب الذي دفع الناس إلى الاعتقاد منذ القدم أنّ القلب هو مركز كلّ هذه الانفعالات من حب وكراهية ورقة ولين وحساسية، ومشاعر إيجابية وسلبية، ولعل مرجع ذلك هو أنّ القلب يستجيب فوراً للانفعالات بتغيير في ضرباته وشعور الذي يصاحب ذلك، كما تسبب الانفعالات زيادة في ضغط الدم وتدفقه في الشرايين، ولقد تم دراسة هذه الظاهرة علمياً بواسطة كانون عام 1920 وقد توصل إلى معرفة السبب في ذلك وهو إشارات الجهاز العصبي الذاتي غير الإرادي، وإفراز مواد الأدرينالين والنورادرينالين، ويمكن أن يحدث ذلك بالتجربة عن طريق تنبيه مراكز معينة في الجهاز العصبي تؤثر على ضربات القلب وضغط الدم تماماً مثل تأثير الانفعال.
والانفعالات هي أهم أسباب القلق التي تزايدت مصادرها في العصر الحديث، أما في الماضي حين كانت الحياة بدائية فلم يكن الإنسان بحاجة إلى الانفعال الحاد إلا في حالات محددة مثل القتال أو الحروب أو الهروب من أخطار حقيقية تواجهه، لكن ما يحدث اليوم هو أنّ الإنسان في مواقف متصلة تحتاج إلى انفعال دائم، فقد كثرت التحديات والأمور التي تسبب الانفعال وكثير منها يمثل أخطار وهمية لكنها تشغل مساحة من اهتمام الناس وتفكيرهم، وهذا يجعل الإنسان في هذا العصر في حالة تشبه الاستنفار الدائم الذي لا يهدأ ولعل ذلك هو سر الانتشار الهائل لأمراض القلب وعشرات غيرها من أمراض العصر البدنية والنفسية.
الجوانب النفسية في أمراض القلب:
من الطبيعي أن يشعر مريض القلب بانفعالات نفسية شتى بسبب مرضه في مقدمتها القلق، وليس ذلك بغريب لكن تزايد القلق لدى مريض القلب قد ينجم عنه مضاعفات تؤدي إلى تفاقم حالته، وفي مرضى القلب الذين يصابون بالذبحة الصدرية أو جلطة شرايين القلب – وهي حالات يحدث فيها ألم شديد وضيق في التنفس في نوبات تقعد المريض عن الحركة وقد تؤدي إلى الوفاة – توجد عوامل نفسية وراء حدوث هذه الحالات أهمها نوع شخصية المريض الذي يطلق عليه "نمط أ" والذي له خصائص معينة تجعله أكثر قابلية للإصابة بهذه الأمراض. وقد لا يكون من السهل علينا تصور أنّ بعض الناس الذين لهم صفات معينة في شخصيتهم وأسلوب حياتهم هم أكثر عرضة الإصابة بأزمات القلب الحادة نتيجة للذبحة الصدرية وجلطة شرايين القلب، لكن ملاحظة هؤلاء المرضى أثبتت أنهم يشتركون في سمات تنطبق على غالبيتهم (والذي يطلق عليه نمط أ من الشخصية)، فهم من النوع الذي يعيش في قلق وتوتر دائم لا يهدأ، ولديهم الرغبة والاستعداد لتحقيق التفوق وإنجاز المكاسب بهدف التفوق على من حولهم في منافسة دائمة فهم يرغبون في التمييز لذلك يعيشون حياتهم في صراع لا يعرف طعم الراحة، ويظل الواحد منهم في لهث دائم وراء تحقيق ما يريد ويتجاهل مشاعر الحب والود مع المحيطين به لأنّه ينفق كلّ وقته في البحث عن القوّة والنفوذ.
لا شكّ – عزيزي القارئ – أنّ بين معارفك أناس من هذا النوع، وتستطيع أن تتعرف على هذا النوع من الشخصية في الأفراد الذين ينطبق عليهم الوصف الذي ذكرنا، وأيضاً يمكنك ببساطة عند مراقبة أحد هؤلاء الأشخاص لفترة قليلة أن تدرك أنّ كلامنا ينطبق عليه، فأنت تراه إذا جلس يكون على حافة المقعد كأنّه يتحفز للحركة، ويعجل الأمور في كلّ شيء، فإذا تكلم تراه "يأكل" الحروف الأخيرة من الكلمات، وإذا جلس يأكل يكون مسرعاً كأنّما يرى أن يفرغ على عجل ليلحق بموعد آخر، وتراه عادة يقوم بعمل أكثر من شيء في وقت واحد، فهو يتحدث معك ويقرأ صحيفة ويرتب بعض الأوراق في نفس الوقت إنّ هذه الصفات التي نصادفها كثيراً في أشخاص طبيعيين تقريباً يجب أن تجعلنا ننتبه إلى أهميتها إلى أنّ هؤلاء الناس من هذا النمط للشخصية لديهم قابلية للإصابة بمرض القلب، وتكون الوقاية ممكنة إذا اكتشفت هذه الخصائص مبكراً وعندئذ يمكن القيام بمحاولة تغيير أسلوب هؤلاء الناس في الحياة، وإقناعهم بأنّ على المرء أن يهدأ ويهون عليه من أمور الحياة قبل أن يفاجأ بنفسه على سرير أبيض داخل إحدى غرف العناية المركزة بالمستشفى للعلاج من أزمة قلبية.. أليس كذلك!؟
الكاتب: د. لطفي الشربيني
المصدر: كتاب وداعاً أيها الاكتئاب
مقالات ذات صلة
ارسال التعليق