◄يقول الله سبحانه وتعالى في محكم كتابه: (أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأرْضِ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلا هُدًى وَلا كِتَابٍ مُنِيرٍ) (لقمان/ 20).
تمهيد..تعتبر النِّعَم من موارد الاختبار الإلهيّ التي يتعرّض لها الإنسان في حياته. والنِّعَم لها آداب في كيفيّة التعاطي معها، فكما أنّ الصبر من مستلزمات النجاح في الابتلاء بالمصائب، فكذلك الشكر هو من مستلزمات النجاح في تلقّي النِّعَم الإلهية.
إنّ الله تعالى يختبر عباده بالنعمة والمنحة، كما يختبرهم بالمصيبة والنَّقمة والمحنة.
يقول الله تعالى: (أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأرْضِ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلا هُدًى وَلا كِتَابٍ مُنِيرٍ).
هذه من الآيات التي تتحدّث عن نِعَم الله – سبحانه – على عباده.
في اختبار النِّعم يبتلينا الله بما أنعمَ ليختبرنا كيف سنتصرَّف. وإذا راجعنا الآيات والأحاديث الشريفة، نحصل على مجموعة عناوين حول النّعم الإلهية وكيفيّة التصرّف بها، نبدأ بعرضها على النحو التالي:
أوّلاً: علينا أنْ نشعر بالنِّعَم الإلهيّة ونعترف بها، فنحن نغفل عن الكثير من نِعَم الله علينا. لذا يجب أن نذكّر أنفسنا بها دائماً.
ثانياً: علينا أن نسلِّم، أيضاً، بأنّ هذه النِّعَم هي من الله عزّ وجلّ، فما من فضلٍ أو حسنةٍ إلا هي من عند الله.
أمّا السبب في ضرورة الالتفات إلى تذكُّر النِّعمة فذلك لأنّنا نغفل عنها لكوننا اعتدنا عليها فلم نعد نراها، إذ تصبح أمراً طبيعيّاً. لقد أنعم الله علينا بالوجود وخلَقنا في أحسن تقويم، وزوَّد أجسادَنا بكلّ ما نحتاج إليه، أعطانا البصر لنرى ونتمتَّع بكلّ شيء في هذا الكون، فالعين وسيلة لاختبار العلم والمعرفة والهداية، وكذلك وهَبنا – سبحانه – بقيّة الحواسّ، وأعطانا من الطاقات الروحية ما يمكّننا من التمتُّع بالنِّعَم المادية والروحية، فكما أنّ هناك لذّات مادية، هناك أيضاً لذّات روحيّة. فإحساس الإنسان بكرامته وكرم الله عليه يولّد لديه لذّة روحية. أمّا الشعور بالمعصية والذلّ فهو نقص معنوي وألم الروحيّ.
إنّ التمتُّع بالصحة وسلامة العقل والروح من نِعَمِ الله علينا، وكذلك وجود الرسل والأنبياء والأولياء الصالحين، من النعم الإلهية. يقول تعالى: (وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا) (إبراهيم/ 34).
ومن نِعَم الله – سبحانه – دفعُه عنّا بعض المصائب والبلاءات. فإذا كنّا في بلدٍ ليس فيه زلازل أو براكين أو فيضانات، فهذا أيضاً من نِعَم الله.
- شكرُ المنعم:ثالثاً: بعد معرفة تلك النِّعم ونسبتها إلى الله، يبقى علينا أن نشكره على نِعَمه. والقرآن يذكّرنا في أكثر من سورة قرآنية بضرورة الشكر: (لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) (البقرة/ 52)، و(لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ) (إبراهيم/ 37). وفي بعض الآيات هناك أمر بالشكر: (وَاشْكُرُوا لِلَّهِ) (البقرة/ 172)، و(كُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ) (الأعراف/ 144). وقد مدح تعالى بعض أنبيائه بالاسم كإبراهيم (ع) ونوح (ع) من خلال صفة الشكر. كما ندّد بالعباد الذين لا يشكرون في قوله: (أَفَلا يَشْكُرُونَ) (يس/ 35)، وقوله: (مَنْ شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ) (النمل/ 40). أمّا السبب في الحضّ على الشكر فلأنّه "بالشكر تدوم النِّعَم"، بل تنمو وتتكاثر. قال تعالى: (لَئِنْ شَكَرْتُمْ لأزِيدَنَّكُمْ) (إبراهيم/ 7). ونحن لدينا أدعية الشاكرين، ومناجاة الشاكرين. أن نقول: "الشكر لله"، فهذا من الشكر.
رابعاً: أن نُحدِّثَ بالنعمة؛ فإنّ الشعور بالنعمة ومعرفتها ونسبتها إلى الله تعالى، هذا كلّه شيء داخليّ ويبقى الانطلاق للإظهار. يقول تعالى: (وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ) (الضحى/ 11). فإذا كان الإنسان غنيّاً وراح يتذمَّر ويُنكر، فهذا خلاف شكر النّعَم. جاء في بعض الروايات أنّ النبي (ص) قال: "إنّ لله يحبّ أن يرى أثر نعمته على عبده".
والتحدُّث عن النعمة لا يعني أن نُخبر الناس بها، بل أن نُظهرها في حياتنا ليرى الله أثر نعمته علينا. وهنا لابدّ من التوسّع قليلاً لأجل تصويب بعض من المفاهيم الخاطئة والشائعة بين الناس.
إنّ إظهار النعمة والتحدُّث بها يجب أن يكون ضمن ضوابط الاعتدال، أي بدون بَطَر وإسراف وتضييع. في سُنن أبي داود، عن أبي الأحوص عن أبيه أنّه أتى النبيَّ في ثوب دون (عنيق رثّ غير مناسب) فسأله النبيُّ: "ألَكَ مال؟ قال: نعم. قال (ص): أيُّ مال؟ فقال الرجل: آتاني الله من الإبل والخيل والرقيق. فقال (ص): "إذا آتاك الله مالاً فليُرَ أثرُ نعمة الله عليك وكرامته".
- الله جميل ويحبّ الجمال:يتحدّث الناس عن الزهد والتديُّن والوَرع، بأن يرتدي الواحد منهم ثياباً رثَّة ممزَّقة، ولا يضع الطِّيب، ويبقى بدون استحمام. ليس هذا ما أراده الله. عن أبي عبدالله (ع): "إنّ الله عزّ وجلّ يحبّ الجمال والتجمّل، ويُبغض البؤس والتباؤس".
إنّ الله يكره أن يُظهر الإنسان نفسه فقيراً، وهو ليس كذلك.
خامساً: الحفاظ على النِّعم وعدم التفريط بها وإهدارها هو من الواجبات تجاه الله عزّ وجلّ. فلا يجوز، مثلاً، أن يقتل الإنسان نفسه أو يُلحق بها الضرر.
كذلك عندما نذهب إلى النِّعم العامة التي تُفيد الناس جميعاً كالبيئة وسلامتها، فعلينا جميعاً أن نحافظ عليها. أمّا تخريب البيئة فهو كُفران بهذه النعمة. لذا لا يجوز إهدار الثروات الطبيعيّة التي هي ملكٌ لجميع الناس. والإسراف بالماء وإهداره غير جائز، وقِسْ على ذلك.
- كيف نحافظ على النِّعَم؟سادساً: عدم استخدام النِّعم بالمعاصي: إذا أردت أن تختم آخرتك بخير، فعظِّم آلاء ربّك، وحافظ على نعمائه، ولا تستبدلها بالمعاصي.
في الحديث القدسيّ: يابن آدم، تسألني فأمنعك لعلمي بما ينفعك، ثمّ تلحّ علىّ بالمسألة فأعطيك ما سألت فتستعين به على معصيتي، فأهمّ بهتك سترك، فتدعوني فأستر عليك، فكم من جميلٍ أصنع معك وكم من قبيح تصنع معي".
علينا أن نحافظ على نعمة الصحّة والعافية، فلا نأكل الحرام. وإنّ من يملك المال لا يجوز له استغلاله في الفتنة والنميمة وقتل الناس. ويجب ألا يستخدم الإنسان قوّته وجاهه وماله في معصية الله؛ فإنّ هذا يسلب النِّعم.
سابعاً: إنّ استعمال النِّعم في طاعة الله وإعمار الدنيا والآخرة، من أعظم مصاديق الشكر، منها: خدمة الناس وقضاء حوائجهم، إغاثة الملهوف، كفالة اليتيم، الدفاع عن المظلومين والمصطهدين والمعذَّبين، إصلاح ذات البين، توحيد الكلمة ودفع الكيد. روي عن الرسول الأكرم (ص) "إنّ الله عباداً خصَّهم بالنِّعم، يُقرُّها فيهم (يجعلها عندهم) ما بذلوها في خدمة الناس، فإذا منعوها عن الناس حوَّلها عنهم إلى غيرهم".
- الدنيا المذمومة:
ثامناً: إنّ الله تعالى قال: أنا مَن أعطاكم النِّعم، فاشكروها بألسنتكم، واذكروها واحفظوها وحدِّثوا الناس بها، وَلْتَظْهَرْ في جودكم، وحياتكم، واستخدموها في الطاعات.
والنِّعَم كثيرة كذلك، فإنّ نسبةَ ما حرَّمه الله علينا – مقارَنةً بما حلَّله لنا – ضئيلةٌ جدّاً لا تُذكر. فالأصل هو الحلِّيَّة. ولكن الله تعالى يُحذّرنا من أن نتعلَّق روحيّاً وجسدياً بهذه النِّعم. يجب أن لا نصبح أسارى وعبيداً لها وأن لا نحوّل السلطة والمال إلى إلهٍ يُعبَد.
هذا هو المعنى الحقيقي للدنيا التي يحذِّرنا منها الله – سبحانه – ورسوله (ص). التحذير من الدنيا ليس بمعنى ألا نملك المال والدار أو أن لا يكون لدينا زوجة وأولاد.. بل كلّ هذا مطلوب ومُستحبّ وفي بعض الأحيان واجب، فإنّه كما قيل في تفسير الزهد: "ليس الزهد أن لا تملك شيئاً، بل الزهد أن لا يملكَكَ شيء".
يُكتب على بعض القصور: "لو دامت لغيرك ما وصلَتْ إليك". ومع ذلك فإنّ كثيراً من السلاطين والحكّام يعيشون حياة الخالدين. ولكنّ السلطة لا تدوم، وكذلك الصحّة والمال.. هذه هي الدنيا المتقلِّبة من حالٍ إلى حال: (وَتِلْكَ الأيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ) (آل عمران/ 140).
وبما أنّ هذه الدنيا فانية فلِمَ تربط نفسك ومصيرك بنعَمٍ زائلة؟!. هذه هي مشكلة الناس حتى أيّام الرسل والأنبياء والأولياء ودعاة الإصلاح. عندما سقط إبليس في الامتحان الأوّل نتيجة العجرفة ورفض السجود لآدم (ع)، وضع هدفاً نصب عينيه، وقد أعطاه الله وقته ليبتليه ويبتلينا به. قال (إبليس): (قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لأقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ) (الأعراف/ 16). فشأن إبليس هو إضلال الناس، وغوايتُهم، وأهم سلاح في يده هو الدنيا بمُغرياتها.
وفي الختام نذكّر أنّه عندما نشكر الله، الله يشكرنا. وشكرُه لنا بأن يزيد علينا نعمه، أن يزيدنا عزّة وكرامة ومنعةً وتماسكاً وعافيةً في الدين والدنيا والآخرة، إن شاء الله.
نسأل الله أن يجعلنا من الشاكرين لأنعمه، بالقول والفعل والعاطفة واللسان والعمل، وأن يُبقينا عبيداً له وحده، وأن لا يجعلنا، - في يوم من الأيّام – عبيداً لحُطام هذه الدنيا الفانية، وأن نكون مع الحقّ ونصرة الحقِّ، ومع أوليائه نقدّم الحق لتكون لنا عمارةٌ في الدنيا، وعمارةٌ في الآخرة أيضاً.►
المصدر: كتاب (مواعظُ شافية)مقالات ذات صلة
ارسال التعليق