• ٢٥ تشرين ثاني/نوفمبر ٢٠٢٤ | ٢٣ جمادى الأولى ١٤٤٦ هـ
البلاغ

الأخلاق ثمرة الإيمان

الأخلاق ثمرة الإيمان
◄الإيمان شجرة ثابتة في أرض القلب، والعلم هو الأُصول والعروق لتلك الشجرة، والعبادة هي فروع تلك الشجرة، وثمرة هذه الشجرة هي الأخلاق، يقول النبي (ص): "إنّما بُعِثتُ لأُتمِّمَ مكارمَ الأخلاق".

إنّ تزكية الأخلاق هي الغاية الأُولى التي حدَّدها صاحب الرسالة الخاتمة، محمد (ص)، لبعثته، إذ قال: "إنّما بُعِثتُ لأُتمِّمَ مكارمَ الأخلاق". وحَريٌّ بأُمّة تقتدي بنبيّها أن تقف على غايات رسالته، وأن تُدقِّق فيها، محاولةً إستخلاص كل ما فيها من نفائس التطبيق، راجيةً بذلك حُسن الإتِّباع وسلامة العاقبة.

لكلّ ركن من أركان الإسلام الخمسة رسالته الأخلاقية، التي متى انفكّت عنه حوَّلته إلى شيء لا معنى له ولا طائل من ورائه في الدنيا. الصلاة، مثلاً، الحكمة من إقامتها تتضح في قوله تعالى: (وأقِمِ الصَّلاةَ إنّ الصَّلاةَ تَنهَى عَنِ الفَحشاءِ والمُنكَر) (العنكبوت/ 45). فما حظّ إنسان من صلاة يؤدِّيها ولا ينتهي عن الفحشاء أو المنكر؟ والأخلاق السيِّئة مُنكر. وما قيمة هذه الصلاة عند الله تعالى؟ وما أثر هذه الركعات في المجتمع؟
إذن، قِيَم الصلاة الأساسية هي الإنعكاس الأخلاقي الحَسَن على مَنْ يؤدِّيها. وهذا الإنعكاس هو السبيل الجَدّي لقبولها عند الله تعالى. هذه الحقيقة هي التي جاءت في الحديث القدسي: "إنّما أتقبَّلُ الصلاة مِن مَن تواضعَ بها لعظمتي، ولم يستطل على خلقي، ولم يبت مُصرّاً على معصيتي، وقطع نهارهُ في ذكري ورحم المسكين وابن السبيل والأرملة، ورحم المُصاب".
فالصلاة، في مفهومها الحقيقي، تحثُّ المرء على التواضع وعدم الإستعلاء على الخَلق، وعدم الإصرار على المعاصي، وتُرَقق قلبه على المسكين وابن السبيل والأرملة والمصاب، فيُبادرهم بالحسنى والرحمة. وما في الصلاة ينصرف إلى الأركان الأخرى، وينطبق عليها. فالزكاة ليست ضريبة تُؤخَذ من الجيوب عنوةً، بل هي تطهير للنفس من أدران الذنوب، وغرس لمشاعر الحنان والرأفة، وتوطيد لعلاقات التعارُف والألفة بين شتّى الطبقات، وكل هذه حَسَنة يقصدها الإسلام، وذلك كما يتضح من قوله تعالى: (خُذ مِن أموالِهِم صَدَقَةً تُطَهِّرُهُم وتُزَكِّيهِم بِها...) (التوبة/ 103).
وغاية الصوم التقوى، والتقوى تكون بالإبتعاد عن مخالفة الله تعالى في أمره، أو نَهيِهِ في كل مجالات الحياة، ومنها بالطبع الأخلاق. وهذا ما جاء في الحديث الشريف: "إذا كان يوم صوم أحدكم فلا يَرفُت ولا يَصخَب، فإن شاتمه أحدٌ أو قاتلهُ فليقل: إنِّي امرؤٌ صائم".

والصيام بهذا المفهوم، دعوة إلى التجمُّل بحُسن الخلق والبُعد عن الأخلاق الدنيوية. الإنسان بيده أن يجعل صيامه عبادة متقبِّلة، ولن يكون ذلك إلا بحُسن خلقه أثناء صيامه. وبيده أيضاً أن يُشقي نفسه بتفريغها من مضمونها، فلا يناله منها إلا العطش والجوع.

وركن الحج جاء فيه: (الحَجُّ أشهُرٌ مَعلوماتٌ فَمَن فَرَضَ فيهنَّ الحَجَّ فلا رَفَثَ ولا فُسُوقَ ولا جِدالَ في الحَجِّ وما تَفعَلوا مِن خَيرٍ يَعلَمهُ الله وتزوَّدُوا فإنّ خَيرَ الزَّادِ التقوَى واتَّقُونَ يا أُولِي الألبابِ) (البقرة/ 197). إنّ الحج لن يُدرك جوهره من دون هذه الإلتزامات الأخلاقية، ولن يكون له أثر وفيه فسوق وجدال وانفلات أعصاب، وأُمور بغيضة وتفاخر بالأجناس والقوميات.
تَبَيَّن من هذا العرض المجمل لبعض العبادات التي اشتهر بها الإسلام وعرفت أنّها أركانه الأصلية، متانة الأواصر التي تربط الدين بالخُلق. إنّها أساسه في جوهرها ومظهرها، ولكنها تلتقي عند الغاية التي رسمها صاحب الرسالة (ص) في قوله: "إنّما بُعِثتُ لأُتمِّمَ مكارمَ الأخلاق".
الأخلاق مرتبطة بالإيمان ذاته، وضعفها دليل على ضعف الإيمان، وإلا فتفسير حديث رسول الله (ص): "واللهِ لا يؤمِنُ، واللهِ لا يؤمِنُ، واللهِ لا يؤمِنُ"، قيل: مَن يا رسول الله؟ قال: "الذي لا يأمنُ جارُهُ بَوَائقَهُ". والبوائق هي الشرور على إطلاقها، وغالباً ما تكون هذه الشرور أخلاقية. ويُروى أنّ رجلاً أتى النبي (ص)، فقال له: يا رسول الله، إنّ فلانة تُذكَر من كثرة صلاتها وصيامها وصدقاتها، غير أنّها تؤذي جيرانها بلسانها، فقال: "هي في النار"، ثمّ قال: يا رسول الله، فلانة تَذكر من قلّة صلاتها وصيامها، وإنّما تتصدّق بالأثوار من الأقط بالقطع من الجبن ولا تؤذي جيرانها، قال (ص): "هي في الجنّة".
والدِّين والأخلاق عنصران متلازمان متماسكان، ولا يستطيع أحد تمزيق عراهما. وكون أدنى شُعب الإيمان إماطة الأذى عن الطريق، هو عمل أخلاقي يدل على النظافة والحرص على المجتمع، لدليل قاطع على أنّ ما يعلوه من أخلاق هو من صلب الإيمان وصميمه. إنّ حُسن عاقبة وفلاح المؤمن، مُرتبط بدمج الشق التعبُّدي مع الجانب الأخلاقي في الإسلام، وهذا ما جاء واضحاً في صدر سورة (المؤمنون) في قوله تعالى: (قَد أفلَحَ المُؤمِنُونَ * الذينَ هُم في صَلاتِهِم خاشِعُون) "عبادة"، (والذينَ هُم عن اللَّغوِ مُعرِضُون) "أخلاق"، (والذينَ هُم لِلزَّكاةِ فاعِلُون) "عبادة"، (والذينَ هُم لفُرُوجِهِم حافِظُون * إلا على أزوَاجِهِم أو ما مَلَكَت أيمانُهُم فإنّهُم غَيرُ مَلُومِينَ * فَمَن ابتَغَى وَرَاءَ ذلك فأُولئِكَ هُمُ العادُون) "أخلاق ومعاملات"، (والذينَ هُم لأماناتِهِم وعَهدِهِم رَاعُون) "أخلاق"، (والذينَ هُم على صَلَوَاتِهِم يُحافِظُون) "عبادة"، (أولئِكَ هُمُ الوارِثُون * الذينَ يَرِثُونَ الفِردَوسَ هُم فيها خالِدُون).
هذه الملاحظات والمعاني التي تَكَشَّفَت إلينا بوقوفنا على بعض نصوص الكتاب والسنّة، لابدّ أن تُحال إلى واقع ملموس يُدلّل به صاحبها على حُسن إيمانه وفهمه الصائب للدين الذي ينتمي إليه.►

ارسال التعليق

Top