العلامة الراحل السيد محمّدحسين فضل¬الله
الصبر كقيمة عُليا:
والصبر هو القيمة التي تُمثِّل خطَّ التوازن أمام التحديات – فهناك – كما ورد في الكتاب والسُّنّة – صبرٌ على الطاعة؛ لأنّ الطاعة – في تنوّعاتها – تكلِّف الإنسان جهداً، وربّما تصطدم ببعض أوضاعه وحاجاته الذاتية، فتضغط عليه حتى يرتدع عن خطّ الطاعة لئلا يُسيء إلى تلك الحاجات أو الأوضاع.. وهذا ما نراه في كثير من الناس الذين يمتنعون عن أداء الفرائض، كالصلاة والصيام والحجّ، أو مقاومة ظالم، فإنّ الإنسان قد يهمل ذلك بحجّة أنّ وقته لا يتّسع لأداء الصوم، ولأنّ مصالحه الذاتية لا تبيح له أن يقف بوجه الظالم أو يقف مع العادل. ولذلك، فإنّ الطاعة قد تُمثِّل حالة الإحساس بالحرمان لمن يمارسها؛ الحرمان من الراحة أو المكاسب التي قد يفقدها إذا التزم بالطاعة. وربّما يعيش البعض في مجتمعات تُنكر على المؤمن أخذه بأسباب الطاعة، فيحاول أن يتكاسل عن أداء الفرائض وطاعة الله، حتى لا يسخر منه أحد أو ينتقده.. ولهذا كان لابدّ من التزام الصبر على الطاعة، لكي يستطيع المسلم التماسك أمام الإغراءات وعناصر الضغط، فيحافظ – بالتالي – على مسؤوليته في الامتثال لأوامر الله سبحانه وتعالى.
الصبر عن المعاصي:
وهكذا الصبر عن المعاصي التي هي في مضمونها الحسي أو النفعي تثير الإنسان وتحرّك أطماعه وشهواته حسب تنوّع المعاصي، فيشعر الإنسان – في كثير من الحالات – بالحرمان من عدم ممارسته عادات الآخرين، فيرى بعض الناس – مثلاً – يشربون الخمر وهو لا يشرب، يراهم يمارسون الزنى وهو لا يفعل ذلك، أو يرتشون بينما هو مخلص في عمله، أو يرى مَن يسيرون مع الظالم وهو لا يسير مثلهم، أو مَن يأخذون بأسباب الفتنة التي تحرق الأخضر واليابس وهو يقف ضدّ الفتنة، وهكذا.. فإنّ اجتناب المعصية يُشعِر الإنسان بإحساس عميق بالحرمان في كلِّ الأمور التي نهى الله عنها، سواء في اللذّات، أو الشهوات، أو المكاسب، أو الأطماع الإنسانية، ولذلك فإنّه يحتاج إلى الصبر حتى يسيطر على كلِّ مشاعر الحرمان التي تفترس توازنه.
الصبر على البلاء:
أمّا القسم الثالث من الصبر، فهو الصبر على البلاء؛ فإنّ الحياة – كما نعرف – ليست مفروشةً بالورد، وليست نزهةً يرتاح فيها الإنسان، لأنّ الإنسان لو أراد الحصول على الورد فلابدّ أن يجرح يده الشوك الذي يحمي الورد، ولن يستطيع أن يجني العسل إلّا إذا ذاق لسعات النحل، ولا يستطيع أن يبلغ طموحاته العلمية والسياسية والاجتماعية إلّا إذا بدل جهداً يجعله يسهر الليل ويقطع المسافات ويتحمَّل الصدمات، كما قال الشاعر:
إنّ الحياة لشوكٌ بينه زَهَرٌ *** فحَطِّم الشوكَ حتى تَبْلُغَ الزَّهرا
ومن الطبيعي أنّ تحطيم الشوك يجرح هنا وهناك. ويقول شاعرٌ آخر في هذا المجال أيضاً:
تُريدين إدراكَ المعالي رخيصةً *** ولابدّ دونَ الشهِد من إبَرِ النحلِ
وقولُ الله تعالى قبلَ ذلك: (وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الأمْوَالِ وَالأنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ) (البقرة/ 155)، وكذلك قوله تعالى: (لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذًى كَثِيرًا وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأمُورِ) (آل عمران/ 186). ولذلك لابدّ من الصبر على البلاء، حتى لا يسقط الإنسان تحت الضغط، فيتنازل هنا أن ينحرف هناك. ونحن نعلم أنّ الإنسان حينما يقوم بالدعوة إلى الله وإلى الخير ويتحرّك من أجل أن يرفع مستوى شعبه ويعمل من أجل تحرير أُمّته ووطنه، فلابدّ له من أن يقاسي السجن والتشريد والكثير من الخسائر التي تصيبه في أهله وفي أمواله وفي كلِّ أوضاعه، فلابدّ من الصبر على البلاء.
الصبر على النعمة:
ويذكر العلماء من أنواع الصبر: الصبر على النِّعَم، فالله يريد من الإنسان أن يشكره عندما ينعم عليه، وأنْ يتعامل مع النعمة على أساس أنّها لطف من الله، وليست في معناها إكراماً للإنسان لتنتفخ فيه شخصيّته، لأنّ النعمة قد تصيب الإنسان بالغرور أو التكبُّر، وهذا ما نراه في سلوك الأغنياء تجاه الفقراء، أو في سلوك الكبار بالنسبة للصغار. ولذلك لابدّ أن يصبر على النعمة على أساس أنّها لطف وهبةٌ من الله ليبتليَه أيشكر أو يكفر، كما في قوله تعالى: (لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ) (النمل/ 40)، ولأنّ هذه النعمة تحتاج لأن يقوم الإنسان بالمبادئ التي تُمثّل الشكر العملي، وهذا ما عبَّر عنه النبيّ موسى (ع) حينما أنقذه الله من (فرعون) في رحلته الأولى التي فرّ فيها من قوم فرعون، حينما جاءه من يقول له: (وَجَاءَ رَجُلٌ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعَى قَالَ يَا مُوسَى إِنَّ الْمَلأ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ فَاخْرُجْ إِنِّي لَكَ مِنَ النَّاصِحِينَ) (القصص/ 20)، فعندما وصل إلى ماء (مدين) استند إلى شجرة (قَالَ رَبِّ بِمَا أَنْعَمْتَ عَلَيَّ فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيرًا لِلْمُجْرِمِينَ) (القصص/ 17)، فحوّل شكر النعمة إلى شكر لله في ساحة الصراع، بأن لا يكون ناصراً للمجرمين، وإن كلّفه ذلك الابتعاد عن الوطن، وذلك ما يوحي بأنّ الإنسان الذي يمتحنه الله ويناصر المجرمين هو إنسان كافر بنعمة الله سبحانه..
الصبر على الفكر:
وهناك الصبر على الفكر الأصيل في التزامه العقيدي في مقابل الموروثات التاريخية التي درج عليها الآباء، ممّا قد يلتقي بالخرافة ويبتعد عن الأصالة ويتحرّك من خلال ذهنية التخلّف، ممّا لابدّ من مواجهته بالفكر الحقّ المرتكز على أساس علمي عقلاني خاضع للقاعدة الفكرية المنهجية الإسلامية، والتزام النتائج الصحيحة من خلال ذلك، والصبر على مهاجمة المتخلّفين والجاهلين الذين يثيروا الغوغاء في انفعالاتهم العاطفية المتخلّفة ضدّ أصحاب الفكر الأصيل بأساليب التكفير والتضليل ممّا لا يملكون فيها أيّة حجّة وأيّ برهان سوى الإرث التاريخي.
هذه هي الأمور التي لا يخلو منها إنسان في مسؤولياته، وهو في حياته بحاجة إلى الصبر من أجل أن يستقيم على المبدأن ولا يسقط في توازناته العقلية والعملية أمام الحرمان هنا والتحديات هناك، وأنْ يجعل عقله في نطاق التفكير في النتائج السلبية، التي ربّما يواجهها إنْ لم يصبر، وفي النتائج الإيجابية التي يحصل عليها فيما لو صبر. والمسألة الأساس هي مسألة إنسانية الإنسان في المحافظة على كلِّ عناصرها من الداخل وفي ما يُعرض عليه من الخارج.
الصبر والعقل:
وهكذا يشير قوله تعالى: (وَالَّذِينَ صَبَرُوا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ) (الرّعد/ 22)، إلّا أنّ صبرَ أولي الألباب هو صبر واعٍ يرتبط بالله، ويرتبط بإيمانهم، وبمسؤولياتهم، وبعلاقاتهم بربّهم، فهم يصبرون ليحصلوا على رضا الله سبحانه، وعلى ثوابه في القيام بما كلّفهم سبحانه به من المسؤولية، ولا يصبرون لكي يمدحهم الناس على الصبر، أو من خلال حالات مزاجية طارئة، لأنّ المؤمن يتطلَّع إلى الله في كلِّ أموره، فهو صاحب إيمان ومبادئ. ومن الطبيعي أن يبني العاقل حياته ومواقفه على ما يحقّق له النتائج الإيجابية والحصول على رضا الله سبحانه الذي هو أساس النجاة في الدار الآخرة.
وحيث اعتبر الله سبحانه هذه الصفة من صفات أولي الألباب – أي العقول – فهذا يعني أنّ مَن لا صبر له لا عقل له، لأنّ العقل يقود الإنسان إلى أن يواجه حياته بما يُكسبه النتائج الإيجابية والجيدة، وفي مقدّمتها الحصول على السعادة في الدنيا والآخرة معاً، وذلك من خلال القيم التي نتمسَّك بها ونحرّكها في حياتنا، كما نتقرّب إليه بالأعمال التي كلّفنا بها، حيث تنطلق القيمة من العبودية لله عزّ وجلّ.
فالإنسان العاقل هو الذي يفكّر بأنّ الله سبحانه وتعالى هو سرّ الوجود، وسرّ امتداد الحياة، فهو سبحانه الوجود كلّه، وكلّ ما عداه يمثّل شبحاً من وجوده، فالله سبحانه هو وليُّ الخلق، وهو وليُّ الرزق، ووليُّ الحياة، ووليُّ الموت، ووعي ذلك يقود الإنسان إلى أن يعيش الصلة بربّه والإحساس بحضوره في عقله وفي كلِّ حياته.
والصلاة في كلِّ معناها – حيث قرنها الله سبحانه بالصبر في قوله تعالى: (وَالَّذِينَ صَبَرُوا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ) – تمثّل روح كلِّ الأعمال التي كلّفنا الله بها في الإسلام كلّه، فيما بعض الناس يستهينون بالصلاة، وهو سوء فهم في معناها في امتداداتها في المفهوم الإسلامي، ولذلك جاء في الحديث النبوي الشريف: "الصلاة عمود الدين إنْ قُبِلَت قُبِلَ ما سواها، وإنْ رُدَّت رُدَّ ما سواها". فكيف نفهم ذلك؟ نفهم ذلك إذا فهمنا أنّ جوهر الدِّين هو العلاقة بالله والإحساس بحضوره في وجدان الإنسان، وحياته، وقيمة الصلاة أنّها تجعلك في تنوّعاتها الزمنية والعبادية، تقف بين يدي الله سبحانه لتخاطبه ولتناجيه ولتشكو إليه آلامك ومشاكلك وحاجاتك، تماماً كما نقرأ في الأدعية عن أهل البيت (عليهم السلام)، حيث يركّزون فيها إحساس الإنسان بأنّه يتكلّم مع الله من دون واسطة، ومن دون رسميات، كما لو كان الله متغلغلاً في كيانه؛ ولذلك كلّما ازداد الإنسان خشوعاً لله أكثر، كلّما انعدمت الحواجز بينه وبين الله أكثر.
وفي ضوء ذلك، فإنّ مَن لا يصلّي لا يعيش معنى الإسلام، خصوصاً أنّ المعنى العميق للإسلام يتحرّك من خلال إيجاءات الصلاة، كما في حديث الله عن النبي إبراهيم (ع)، حيث يقول: (إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ) (البقرة/ 131)، فيجب على الإنسان أن يعيش مع ربّ العالمين، بحيث إنّه لا يشعر بذاته أو وجوده أمام الله، وإنما يندمج في مواقع قربه ورضاه. وهكذا نقرأ في القرآن الكريم: (قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ) (الأنعام/ 162-163)، فكلّ شيء لله، وعندما يختزن الإنسان ذلك في عقله من خلال حساباته السلبية والإيجابية، ويعيش ذلك، فإنّه يعيش القرب من الله سبحانه.. ولذلك تمتدّ حركته في كلِّ ما أوجبه الله وما أحبّه، باعتبار أنّ الإسلام لله يعني ذلك. ولهذا فإنّ الصلاة هي جوهر الإسلام، وليست شيئاً هامشياً، وإنْ كان البعض حوّلها إلى هامش، وحوّلها إلى رياضة، فهي ليست رياضة بدنية، وقد لا تنسجم مع قواعد الرياضة، لأنّها رياضة روحية، لترتفع بالإنسان إلى الله سبحانه وتعالى.►
المصدر: كتاب العقل في القرآن الكريم/ إصدار المركز الإسلامي الثقافي مجتمع الإمامين الحسنين (ع)
مقالات ذات صلة
ارسال التعليق