• ٢٠ تشرين ثاني/نوفمبر ٢٠٢٤ | ١٨ جمادى الأولى ١٤٤٦ هـ
البلاغ

الإسلام.. دين التواصل

الإسلام.. دين التواصل

◄إنّ من يراجع مصادر الإسلام، من خلال القرآن الحكيم والأحاديث الشريفة، يرَ بكلِّ وضوح وجلاء، حقيقة وهي: أنّ كثيراً من وصايا الإسلام وواجباته وأحكامه تدعو إلى إزالة الحجب والحواجز القائمة بين الناس جماعات وأفراداً.

يقول تعالى: (وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ) (الحجرات/ 13).

فالقاعدة الأولية في الإسلام هي التعارف والتعاون وتبادل الخبرات بين الأمم فلا ينبغي للمسلمين التقاطع والتحارب مع الشعوب الأخرى، بل السلام والوئام هما الحاكمان على علاقات المسلمين مع غيرهم.

فالإسلام لا يخاف أيّ فكر آخر؛ لأنّه يملك الحجّة والدليل والبرهان على صدقيّته، وإنما يخاف مَن لا منطق عنده ولا حجّة.

وكما دعا الإسلام إلى الوئام مع غير المسلمين فبالضرورة دعا إلى ذلك بين المسلين أنفسهم.

قال تعالى: (وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلا تَفَرَّقُوا) (آل عمران/ 103).

وعن رسول الله: "مثل المؤمن في توادّهم وتراحمهم كمثل الجسد الواحد إن اشتكى منه عضو تداعت سائر الأعضاء بالسهر والحمّى".

فإذا ما تكاتف المجتمع داخلياً، وأمِن من داخله، فحينئذ من السهولة أن ينتصر على أعدائه، أمّا إذا كان المجتمع مقاطعاً بعضه بعضاً، فحينئذ على هذا المجتمع السلام، ولن يستطيع أن ينتصر على أعدائه.

والتاريخ الإسلامي يؤكِّد لنا هذه الحقيقة، أنّ المسلمين تراجعوا حينما تقاطعوا، وإذا أرادوا الرجوع إلى ميدان قيادة الأُمم فما عليهم إلا أن يتواصلوا ويتكاتفوا.

وهذا التوصل ينبغي أن يبدأ في العشيرة والأسرة والعائلة، أي بين الأرحام ليكون البيت الداخلي آمناً، ومن ثمّ ينجرّ الكلام إلى الوحدة والتواصل الاجتماعي الإسلامي بشكل عام والإنساني بشكل أعمّ.

 

-       بين العصبية وصلة الرحم:

رغم أنّ الإسلام دعا إلى التواصل والمرحمة، لكنّه في الوقت نفسه نهى عن التعصُّب الأعمى للعائلة والأرحام.

العصبية من الأخلاق الفاسدة والسجايا غير الحميدة، وتكون سبباً في إيجاد مفاسد في الأخلاق وفي العمل...

إنّ المرء إذا تعصّب لأقربائه أو أحبّته ودافع عنهم، فما كان بقصد إظهار الحقّ ودحض الباطل، فهو تعصّب محمود ودفاع عن الحقّ والحقيقة...

أمّا إذا تحرّك بدافع قوميته وعصبيته بحيث أخذ بالدفاع عن قومه وأحبّته في باطلهم وسايرهم فيه ودافع عنهم، فهذا شخص تجلّت فيه السجيّة الخبيثة، سجيّة العصبية الجاهلية، وأصبح عضواً فاسداً في المجتمع.. وصار في زمرة أعراب الجاهلية...".

جاء في الكافي عن أبي عبدالله الصادق (ع) قال: "من تعصَّب أو تعصّب له فقد خُلِع رِبقُ الإيمان من عنقه".

وعنه (ع) قال: "من تعصّب عصّبه الله بعصابة من النار..".

فصلة الرحم والأقرباء والتعاون معهم والتكافل مطلوبة إسلامياً، ولكن إذا كان التعاون معهم على الباطل والظلم فهذا غير مطلوب، يقول تعالى: (وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الإثْمِ وَالْعُدْوَانِ) (المائدة/ 2).

وقد أمرنا الله تعالى في كتابه الكريم، أن لا نكون متعصِّبين لمن يمتُّ إلينا بصلة القربى، وأن يكون رائدنا هو الحقّ والعدل، وأن نقول الحقّ ولو على أرحامنا، قال تعالى: (وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى) (الأنعام/ 152).

 

-       أسباب القطيعة:

هناك أسباب عديدة تؤثّر سلباً على علاقات الناس وتواصلهم، وتنسحب هذه الأسباب على علاقات الأقارب والأرحام منها:

1- سيطرة روح المادية على المجتمع والأفراد، مما يسبِّب تمحور كلّ إنسان حول ذاته، بالشكل الذي يؤدّي إلى عدم الاهتمام بالآخرين. وهذا ما نراه في المجتمعات الغربية التي لا تقيس علاقاتها مع الآخرين إلّا بالقياس المادي، ويختصرون علاقاتهم بقياس الجيب وما يحويه من المال.

وهذه الروح المادية رفضها الإسلام العزيز، داعياً إلى عدم الاستغراق في حبِّ الدنيا، وحبِّ المال، المؤدّيين إلى كثير من المساوئ، ومنها قطع الرحم.

إنّنا نرى كثيراً من الأغنياء المنكبّين على جمع المال، لا يتواصلون مع أقاربهم، وما ذلك إلا لأنّهم فقراء، لا يستفيدون منهم شيئاً، بمقياس الجيب والمصالح المادية.

وهذا ما نبّه عليه أمير المؤمنين (ع): "أيّها الناس إنّه لا يستغني الرجل إن كان ذا مال عن عشيرته ودفاعهم عنه... ومن يقبض يده عن عشيرته فإنّما تقبض منه عنهم يد واحدة وتقبض منهم عنه أيد كثيرة".

2- التكبُّر: يؤدّي بالإنسان الذي تغلّب عليه حبّ العظمة، إلى التكبُّر على الآخرين واحتقارهم، وقد قال رسول الله (ص): "لا يدخل الجنّة من كان في قلبه مثقال حبّة من كبر". وإذا كان التكبُّر مذموماً في الإسلام، فإنّ التكبُّر على ذي الرحم أشدُّ قبحاً؛ فكم نرى غنياً، أو ذا جاه، لا يصل رحمه الفقير أو الذي لا جاه له، ولا يعرف له قرابته ويتكبَّر عليه، أمّا إذا رأى رحمه الغني الوجيه احترمه، وهذا في الحقيقة ليس صلة للرحم، بل اعتناء بالمال والمصالح الضيّقة، لا بشخص الرحم، فهذا قد احترم المال ولم يحترم قريبه، ألا يعلم هذا المتكبِّر أنّ الله (لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ) (لقمان/ 18).

3- سوء الظنّ: وهو مسبِّب للكثيرمن العداوات والأحقاد، وكم من أخوين تقاطعا لأنّهما أساءا الظنّ؟ وكم من عائلات وأسر تفكّكت بسبب هذه الخصلة المدمِّرة؟

ولذلك حذّرنا الله من هذه الرذيلة: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ) (الحجرات/ 12).

والأحاديث في هذا الصدد كثيرة منها ما روي عن أبي عبدالله (ع)، قال: قال: أمير المؤمنين (ع): "ضع أمر أخيك على أحسنه حتى يأتيك ما يغلبك منه ولا تظنّن بكلمة خرجت من أخيك سوءاً وأنت تجد لها في الخير محملاً".

4- الحسد: وهو أيضاً ما حق للدِّين، ومقطِّع أوصال الأحبّة والمؤمنين، ولقد حذّرتنا الشريعة الإسلامية من هذه الخصلة.

(أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ) (النساء/ 54).

(وَمِنْ شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ) (الفلق/ 5).

وعن رسول الله (ص) أنّه قال لأصحابه: "ألا إنّه قد دبّ إليكم داءُ الأُمم من قبلكم وهو الحسد ليس بحالق الشعر لكنه حالق الدين".

ألم يكن الحسد سبباً لقتل قابيل لأخيه هابيل؟ فعن الإمام الصادق (ع): "والحسد أصله من عمى القلب... وبالحسد وقع ابن آدم في حسرة الأبد وهلك مهلكاً لا ينجو منه أبداً...".

ألم يحاول إخوة النبي يوسف (ع) قتله انطلاقاً من صفة الحسد، وقصّته معروفة؟

5- الغيبة: وهي أيضاً مسبّبة لتفكّك العوائل، في حين أنّ الله تعالى ينهانا عنها لمصلحتنا.

(وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ) (الحجرات/ 12).

6- النميمة، والحقد، والغضب وفحش الكلام، وعدم وجود الاحترام المتبادل، فضلاً عن الغزو الثقافي الغربي لنا، بحيث نكاد نصير كالغرب في أخلاقه وقيمه وتوجّهاته.

 

-       خاتمة...

لقد تبيّن ممّا مر أنّه لا العصبية الجاهلية مقبولة ولا القطيعة للرحم مقبولة أيضاً، وإنّما المطلوب من الإنسان المؤمن أن يتقرّب من عشيرته وأهله وأقاربه أرحامه، بشتّى أنواع التقرّب الذي يرضي به الله سبحانه وتعالى، لأنّه إن انقطع عنهم فقد خسروا هم رجلاً واحداً بينما هو قد خسر العشيرة كلّها، وأمّا إذا تواصل وتقرّب منهم بالحقّ فقد كسب رضا الله في الآخرة وعشيرته وأقاربه وأهله في الدنيا، حيث يجد عونهم ومؤازرتهم له في الشدائد والنوائب.

أعاننا الله على التواصل الحسن مع الناس ومع أقاربنا.►

 

المصدر: كتاب (مواعظ من نهج البلاغة/ سلسلة الدروس الثقافية (36))

تعليقات

  • 2024-01-27

    maram

    شكرا كثيرا على هذا المقال

ارسال التعليق

Top