• ٥ تشرين ثاني/نوفمبر ٢٠٢٤ | ٣ جمادى الأولى ١٤٤٦ هـ
البلاغ

التقوى ومنهجية الخوف

التقوى ومنهجية الخوف

◄منهج الخوف من الله:

في القرآن الكريم نداءات متنوعةٌ للمؤمنين، ومن هذه النداءات، نداءٌ لرسول الله (ص) يريد الحقُّ تبارك وتعالى أن يبلّغه للناس، ويحمل الحثَّ على الخوف من الله، فيقول سبحانه: (قُلْ يَا عِبَادِ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا رَبَّكُمْ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ وَأَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةٌ إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ) (الزّمر/ 10).

أيُّها المؤمنون لا يكفي أن تعلنوا إيمانكم بالله لتقولوا، إنّنا نشهد ألا إلهَ إلّا الله، وأنّ محمّداً رسول الله، وأنّ الله يبعث الناسَ يوم القيامة ليجزيهم على أعمالهم، إنْ خيراً فخيرٌ، وإنْ شرّاً فَشَّرٌ، لا يكفي ذلك، بل لابدّ لكم من أن تستشعروا في قلوبكم وعقولكم وأحاسيسكم الخوفَ من ربِّكم. والخوف ليس حالة شعورية تعيشونها وتتجمّدون أمامها، بل يجب أن تجعلوها حالة في الموقف والعمل، بحيث عندما تخافون منه سبحانه، فإنّكم تتجنّبون مواقع غضبه، تماماً كما هي حالات الخوف الطبيعيّة في حياتكم.

فالإنسان عندما يخاف من الموت، فإنّه يبتعد عن كُلِّ الأجواء التي تتحرّك فيها أسباب الموت، وهكذا عندما يخاف من السلطة، فإنّه يهرب من المواقع التي يمكن أن تلاحقه فيها السلطة، أو عندما يخاف من العدوّ، فإنّه يختفي عن أنظار عدوِّه. ولكن، إذا خاف من الله هل يستطيع أن يهرب منه كما يهرب من حالةٍ يخاف منها؟ (وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إِلَهٌ وَفِي الأرْضِ إِلَهٌ) (الزخرف/ 84)، ففي السماء عظمتُه وفي الأرض ملكُه، وفي البحار والكهوف والأعماق سلطتُه، فأين يهرب من ربِّه؟ وهو إذا ما عصى اللهَ وتمرّد على رسالاته وأنبيائه، فهو لن يستطيع الهرب في الدنيا ولا في الآخرة.

إذاً، كيف نؤمِّن أنفسنا من الخوف؟ هناك طريقٌ واحد، هو أن نطيع الله ولا نعصيه، وهذا هو الطريق الذي يُعبَّرُ عنه بالتقوى (قُلْ يَا عِبَادِ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا رَبَّكُمْ) خافوه، احسبوا حسابه في كُلِّ أوضاعكم وأعمالكم، فإذا أردتم أن تقوموا بعمل، فاحسبوا حسابَه سبحانه قبل أن تحسبوا حساب البشر، وهذه هي التقوى "ألّا يجدَك اللهُ حيثُ نهاك، وألّا يفقدَك حيث أمرك".

وهنا، من الضروري أن نستوعب مسألة مهمّة جدّاً، وهي أن يتحرّك القرآن في كُلِّ مفردات حياتنا، فنفتح قلوبنا له قبل أن نفتح أسماعنا، لأنّ قيمة الأُذُن أن تكون واعية، ولن تعيَ الأذُن ما تسمع إلّا إذا كان من سمعته أخذ طريقه إلى القلب (وَتَعِيَهَا أُذُنٌ وَاعِيَةٌ) (الحاقة/ 12)، والوعي ليس من حالات الأُذُن، بل هو من حالات العقل الذي يُعَبّر عنه بالقلب، باعتبار أنّ هذه الأذن تمثّل طريقاً إلى العقل، فالإنسان عندما يسمع، ينبغي أن يسمع بطريقة واعية، لا أن يسمع كما هو حال الكثيرين يسمعون ولا يسمعون (وَلَهُمْ آذَانٌ لا يَسْمَعُونَ بِهَ) (الأعراف/ 179).

 

جزاء التقوى:

إذاً، (قُلْ يَا عِبَادِ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا رَبَّكُمْ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ) فجزاء التقوى (فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى) (آل عمران/ 195)، ستنالون الجزاء الأوفى من الله إذا سرتم في خطِّ التقوى التي تفرض عليكم أن تقفوا موقفاً أو تعملوا عملاً فيه رضىً لله، أو تبنوا علاقة يحبُّها الله، أو رفضتم حالة أو علاقة يريدكم الله أن ترفضوها وتبتعدوا عنها، أو عملاً تتركونه، لأنّ الله يأمركم بتركه، وسيعطيكم الله حسنةً على ذلك. (لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا) (الزّمر/ 10)، فإذا فعلتم ما يريده الله تعالى، فإنّ ذلك يشكِّل الإحسانَ لأنفسكم وللحياة من حولكم، لأنّكم إذا عشتم الضوابطَ الشرعية التي نظّم الله الحياة على أساسها، فإنّ هذه الحياة تعيش في توازن وخير وبركة. وهذه الفقرة من الآية (لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ) تلتقي بالآية الكريمة (فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ) (الزلزلة/ 7)، وتلتقي كذلك مع الآية المباركة (وَأَنْ لَيْسَ لِلإنْسَانِ إِلا مَا سَعَى * وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَى * ثُمَّ يُجْزَاهُ الْجَزَاءَ الأوْفَى) (النجم/ 39-41)، مفهومٌ قرآنيٌّ واحدٌ بعباراتٍ متعدّدة.

وهذه التقوى تفرض على الإنسان إذا ما صدّه الناس عن طاعة الله، أن يبتعد إلى مكانٍ آخر ليحفظ دينه (وَأَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةٌ) (الزّمر/ 10)، إذا لم تستطع أن تعبد الله في مكان فانتقل إلى مكان تستطيع أن تعبد الله فيه، وإذا حاصرك الناس في موقع، فهناك ألف موقع تستطيع أن تطيع الله فيه، لذلك، لست معذوراً أن تبقى في مكان تُضطر فيه أن تعصي اللهَ وتترك طاعتَه سبحانه، وإلّا كنت مثلَ أولئك (إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ) (النساء/ 97)، ظلموا أنفسهم بالكفر الذي فرضه عليهم الأقوياء (إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا * إِلا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ لا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلا يَهْتَدُونَ سَبِيلا * فَأُولَئِكَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكَانَ اللَّهُ عَفُوًّا غَفُورًا) (النساء/ 97-99).

ومن الذين رفضوا الرضوخ للأقوياء الذين عملوا على تطويقهم ومحاصرتهم وإجبارهم على المعصية والكفر، أولئك الذين فرّوا بدينهم (وَمَنْ يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي الأرْضِ مُرَاغَمًا كَثِيرًا وَسَعَةً وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا) (النساء/ 100).

إنّ الله لم يضيّق عليك كلّ الساحات، فإذا استطعت أن تتحرّر من الضغط الذي يَفرُضُ عليك معصية الله ويمنعك من طاعة الله، وتقدر على أن تنتقل من أرض، إلى أرض، فلا يجوز لك أن تقيم في مكان تُفْرَضُ عليك فيه المعصية، أو تهاجر إلى أرض يَضْعُفُ فيها دينُك (وَأَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةٌ).

 

ضريبة التقوى:

من هنا، علينا أن نعرف أنّ التقوى تكلّفنا شيئاً من مزاجنا ومَالِنا وجهدنا ومصالحنا، قد تُضطرّنا التقوى أن نترك المال الحرام ونحن أحوج الناس إليه، وقد تفرض علينا التقوى أن نرفض الجاه الحرام وهو بين أيدينا، والشهوةَ الحرام وأنفسنا تهوى إليها، أو نترك أرضاً ونحن بحاجة للعيش فيها.. هناك آلامٌ في هذا الطريق يجب أن نتحمّلها، لأنّ الإصرار على حقِّ الإيمان يُلزمنا بذلك.

وهذا ما توضحه بعض الآيات المباركة: (لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذًى كَثِيرًا وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأمُورِ) (آل عمران/ 186).

ويقول سبحانه: (وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ) (محمّد/ 31)، وقال تعالى أيضاً: (وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الأمْوَالِ وَالأنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ) (البقرة/ 155) وهنا تشعر – أيُّها الإنسان – أنّ التقوى تكلّف كثيراً، لأنّك تتحرّك بها ضدّ تيار المجتمع الذي تعيش فيه، وضدّ الواقع الاجتماعي والسياسي والاقتصادي الذي تواجهه، ولذلك فإنّ موقف التقوى يحاصرُك بكثيرٍ من الآلام، ويحرمك الكثير من اللّذات، ويفوِّت عليك الكثير من الحاجات.. وهنا، ماذا تصنع؟ (وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأمُورِ) (لقمان/ 17).

وما جزاءُ الصبر؟ (إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ) الذي يقرِّر ذلك، هو ربُّك الذي خلقك وأنعم عليك، ورعاك في نومك ويقظتك، في طفولتك وشبابك وكهولتك، ربُّك يقول لك، لقد وعدتك بالأجر العظيم، وها أنت تجد ربَّك أصدقَ مَن وعد، وأنا أعدُك إذا صبرت، سأعطيك أجرَك بغير حساب (نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ) (فصّلت/ 31)، تَمَنَّ على الله كُلَّ ما تريد، اضبط أعصابَك، إنتصر على غرائزك، ثَبِّتْ نفسَك في حالات الاهتزاز، ولذلك اطلب ما تشاء، لأنّك صبرت (سَلامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ) (الرعد/ 24).

 

رسول الله المثال والقدوة:

هناك مَن عاش التقوى وأحسن وانتقل من أرض إلى أرض، وتألَّم أشدَّ الآلام فوجدَ عند الله كُلَّ خير، مَن هو؟ هو الذي جاء بالقرآن، محمّد بن عبدالله (ص) رسول الله (وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ) (الزّمر/ 33)، كيف كان موقفه؟ التيار كلُّه ضدّه، أقرب الناس إليه يعاديه، كلُّ المجتمع بفقرائه وأغنيائه ووجهائه، مجتمع مكة والجزيرة لا يرى رأيه، تماماً كما يأتي الداعية الرسالي إلى واقع النّاس ليجد أنّ أغلب المجتمع ضد خطِّ الإيمان بالله والالتزام بالإسلام، وإذا لم يكن ضدّه بالأخلاق فهو ضدّه بالاقتصاد والسياسة.. كلُّ مؤمن يتحرّك في أيِّ موقع، هناك حاجزٌ ينتصب أمامه، حاجزٌ يقول له، لماذا تتحرّك بأخلاقك بهذه الطريقة، وأخلاق الناس شكلٌ آخر؟ لماذا تمتنع عن هذه المعاملة المحرّمة وتلك؟ الاقتصاد له نهجٌ آخر، لماذا تؤيّد هذا الفريق وترفض ذاك؟ السياسة لها اتجاهٌ آخر، لماذا تقيم علاقة مع هذا الجانب ولا تقيمها مع ذلك الجانب؟ المجتمع له رأي آخر.. وكم من حاجز تلتقي به في حياتك حتى من أقرب الناس إليك؟ هكذا، انطلق رسول الله (ص) والمسألة التي واجهته لم تكن مسألة حواجز، كان هناك جدرانُ منصوبة في كُلِّ موقعٍ يتحرّك فيه، ولكنه وقف أمامهم وتحدّاهم (قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ) (الزّمر/ 11)، لا يمكن أن أعبد الأصنام والأوثان، هكذا أمرني الله الذي آمنت به عن وعي ومعرفة وعقل، أمرني أن أعبده وأخلص له في عبادتي، وعلامة الإخلاص أن أطرد من نفسي كلَّ خضوعٍ لغير الله، وكلّ التزام بكلام لا يرضاه، أو التزام بشخص من دون الله (قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ) هذا أمرٌ أساس، والأمر الآخر (وَأُمِرْتُ لأنْ أَكُونَ أَوَّلَ الْمُسْلِمِينَ) (الزّمر/ 12)، لقد فتحت للناس بابَ الإسلام على مصراعيه ليسجّلوا أسماءهم فيه وليدخلوا إليه، لأنّ دخول الجنةّ مرتبطٌ بدخول الإسلام (وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإسْلامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ) (آل عمران/ 85)، لذلك (ادْخُلُوهَا بِسَلامٍ آمِنِينَ) (الحجر/ 46)، متى تدخل؟ تدخل إذا كنت تعي السلام مع الله، أما إذا كنت تعيش الحرب معه سبحانه، فهل يمكن أن تدخل الجنّة؟ عند وقوفك على باب الجنة، تُطلب منك بطاقتُك، مَن أنت؟ هل كنت ممن يعيش السّلام مع الله والناس؟ والسلام أن تعيش في الحياة، مطيعاً مسلماً لله، وهذا ما يجعل بينك وبين الله علاقة سلام.. فالنبيُّ (ص) سجّل اسمه قبل أن يدعو الناس إلى الإسلام، طبَّقَ الإسلامَ على نفسه، قبل أن يطلب من الناس أن يطبّقوه على أنفسهم، صدَّق بالعقيدة، قبل أن يطلب من الناس أن يصدِّقوا بها (وَأُمِرْتُ لأنْ أَكُونَ أَوَّلَ الْمُسْلِمِينَ) عندما دعوت الناس للتقوى، فقد دعوت نفسي للتقوى قبلكم (قُلْ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ) (الزّمر/ 13)، إنّكم تدعونني إلى المعصية، وأنا أخاف من عذاب يومٍ عظيم إذا عصيت (فَمَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ اللَّهِ إِنْ عَصَيْتُهُ فَمَا تَزِيدُونَنِي غَيْرَ تَخْسِيرٍ) (هود/ 63)، مَن يؤمنني من عذاب الله؟ هكذا كان رسول الله (ص) يخاطب قومه، لنتعلّم منه أن نخاطب بذلك مَن يدعوننا إلى الانحراف عن خطِّ الله، ومن أقوامنا وآبائنا وأمهاتنا وأزواجنا وزوجاتنا وإخواننا وأصدقائنا وزعمائنا وأحزابنا. ونقول لهم جميعاً: (قُلْ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ) (الأنعام/ 15).

وأمام كُلِّ هذا الحشد من الشرك والضلال والانحراف، ورسول الله (ص) واقفٌ وحده مع جماعةٍ صغيرة مُسْتَضعَفَة، يُوحي لنفسه بالقوة المستمدّة من الله تعالى، ويرفض كلَّ أوامر الكفر مجسِّداً موقفه بالطاعة للخالق (قُلِ اللَّهَ أَعْبُدُ مُخْلِصًا لَهُ دِينِي) (الزّمر/ 14)، والفرق بين التعبير في هذه الآية، والآية السابقة (قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ) أنّ التعبير في الآية الأولى قدّم المفعول على الفعل، وهذا يفيد الحصر، يعني اللهَ أعبد ولا أعبدُ غيرَه (مُخْلِصاً لَهُ دِينِي) هذا هو موقفي، إنني أُخلص لله ولا أُخلص لغيره، أما أنتم فقد بلّغتكم رسالات ربِّي وهذه مسؤوليتي، ولكم مسؤوليتكم وحريتكم في أن تختاروا مصيرَكم (فَاعْبُدُوا مَا شِئْتُمْ مِنْ دُونِهِ) (الزّمر/ 15)، أعبدوا أصناماً من حجر أو خشب أو ذهب، أو أصناماً من لحم ودم، هذا ليس شأني، لأنّ مصيري لا يرتبط بمصيركم، دوري أن أبلّغكم وقد بلّغتكم، ولكني أحذّركم، مَن يعبد الله يربح نفَسه، ومَن يأمر أهله بعبادة الله يربح أهله، ومَن يعبد غير الله ويربِّي أهله على عبادة غير الله، يخسر نفسه ويخسر أهله (قُلْ إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلا ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ) (الزّمر/ 15)، وقد نبّهنا الله تعالى إلى نتائج الخسارة (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ) (التحريم/ 6)، نحن نهتم بمستقبل الولد وبوظيفته وبوضعه المالي، ولكن إلى أيِّ مدىً نفكر ونهتم بدين الولد، فإذا تعارض المال مع الدين، كم نغلّب الدين على المال؟ صحيحٌ أنّ الله جعل من مسؤولياتنا الإهتمام بشؤون معيشة أولادنا، ولكنّ الصحيح أيضاً أنّه سبحانه جعل من مسؤولياتنا أن نربّيهم على تقوى الله.

 

مظاهر الخسارة والربح في الآخرة:

وهكذا، فالإنسان مسؤولٌ أن يَقِيَ نفسه وأهلَه من نار جهنم، ويربح نفسه وأهله يوم القيامة.. وأما مظاهر الخسارة يوم القيامة (لَهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِنَ النَّارِ) (الزّمر/ 16)، فإذا كفرتَ وتمرّدت، وكفرت زوجتك وأولادُك وتمرّدوا على الله، فهذه النار من فوقهم تحاصرُهم بلهبها وتشكِّل ظلالاً لتسيطر على كُلِّ الجوّ (وَمِنْ تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ ذَلِكَ يُخَوِّفُ اللَّهُ بِهِ عِبَادَهُ) (الزّمر/ 16)، ليخافوا عذاب جهنم وليتقوه.. ورغم ذلك يخاطبهم، لماذا تدمرون وتخسرون وتحرقون أنفسكم، فاتعبوا قليلاً في طاعة الله ولكم الجنّة، إمتنعوا عن شهوة محرّمة ولكم النعيم الخالد، ولماذا تخسرون كُلَّ ذلك بلذةٍ عابرةٍ لا تدوم. وهذا أمير المؤمنين عليٌّ (ع) يقول: "ما لِعَليٍّ ولنعيم يفنى ولذة لا تبقى" ونداء ربّاني حنون (يَا عِبَادِ فَاتَّقُونِ) (الزّمر/ 16)، أطيعوني والتزموا أوامري ونواهيَّ، ولا تتّبعوا آباءَكم وعشائركم، لأنّهم لا ينفعونكم شيئاً.

ويبقى الخطاب لهؤلاء الذين ابتعدوا عن الخوف من الله وأصرّوا على التمرّد والمعصية، فأنتم الذين تكفرون وتضلّون وتنحرفون، أنتم تعبدون الطاغوت، سواءً كان ملكاً أو رئيساً أو دولة أو خطّاً، أو شهوةً، وعبادتكم للطاغوت تضرّكم ولا تنفعكم (وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ) (البقرة/ 257)، كُلُّ مَن عدا الله فهو طاغوت، وكلُّ شريعة غير شريعة الله، أو دولة غير دولة الله، أو قائد لا يتحرّك في خطِّ الله فهو طاغوت.. ويبشّر الله تعالى مَن يواجهون الطاغوت بقوله سبحانه: (وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ أَنْ يَعْبُدُوهَا وَأَنَابُوا إِلَى اللَّهِ لَهُمُ الْبُشْرَى فَبَشِّرْ عِبَادِي) (الزّمر/ 17)، هؤلاء لهم كُلّ ما يتمنونه، وهنا يبرز معنى الوعي في حياتهم (وَتَعِيَهَا أُذُنٌ وَاعِيَةٌ) (الحاقة/ 12)، ما يسمعونه يدخل إلى عقولهم وقلوبهم لأنهم من (الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُولَئِكَ هُمْ أُولُو الألْبَابِ) (الزّمر/ 18)، هم أصحاب العقول، ومَن يملك عقله، يملك فكره وطريقه وقراره في كلِّ شيء.

أمّا الذين أغلقوا مسامع قلوبهم فلا يمكن الحديث معهم (أَفَمَنْ حَقَّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ الْعَذَابِ أَفَأَنْتَ تُنْقِذُ مَنْ فِي النَّارِ) (الزّمر/ 19).

وماذا للمتقين؟ (لَكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ غُرَفٌ مِنْ فَوْقِهَا غُرَفٌ مَبْنِيَّةٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأنْهَارُ وَعْدَ اللَّهِ لا يُخْلِفُ اللَّهُ الْمِيعَادَ) (الزّمر/ 20).

وهذا خطابُ الله لنا، ماذا تريدون؟ هل ظُلَلٌ من النار من فوقكم وتحتكم، أم غرفٌ فوقها غرفٌ مبنيّةٌ تجري من تحتها الأنهار؟ حدّدوا تمنياتكم، لكي تحدِّثوا الطريق الذي يحقّق لكم أمانيكم في الدنيا والآخرة.►

 

المصدر: كتاب من عرفان القرآن

ارسال التعليق

Top