• ٢٩ آذار/مارس ٢٠٢٤ | ١٩ رمضان ١٤٤٥ هـ
البلاغ

المقاييس الإلهية في حياتنا

د. محيي الدين الأنصاري*

المقاييس الإلهية في حياتنا
◄ما كان الله سبحانه لِيَذَرَ الناس هَمَلاً دون هدف في حياتهم على هذه الأرض، وما كان ليذرهم دون أن يحدّد لهم سبُلَ الوصول إلى هذا الهدف، ومناهج التعامل مع بعضهم البعض. فكان الهدف "العبوديّة" له، والطاعة له وحده، وكانت السبل رسلاً وكتباً مُوحى بها من لدنه. وقد اتضحت على ألسنة هؤلاء الرسل، وعلى صفحات الكتب السماوية كلٌّ مقاييس التعامل في الحياة، وكل الخطوط العريضة التي تنظم حياة الأفراد والجماعات والدول، وربما تركت بعض الجزئيات للإنسان نفسه يملأها بما يستجدّ في حياته، ولكنه – في الأحوال كلها – لا يتجاوز تلك المقاييس السماوية، ولا تلك الخطوط العريضة التي تنظّم حياته. ولقد كان الكتاب الرباني الأخير – القرآن العظيم – أوضح هذه الكتب في إبراز المقاييس وثباتها، لأنّه الكتاب الإلهي الوحيد الذي سَلِم من عبث الإنسان، وأغراضه، ورغبته في الخروج على "مقاييس" الله وحدوده، لأنّه هو الكائن الوحيد في الكون الذي يملك حرية الإرادة في الاستجابة لهذه المقاييس أو رفضها أو "التحرّر" منها على زعمه!! وهنا تأتي قيمة الثواب والعقاب على موقفه هذا. وهنا يتجسّد المظهر العملي لتكوينه الخلْقي والروحي، إنساناً منسجماً مع حركة الكون، أو خارجاً عن نواميسها، كما يَشذ كوكبٌ عن مساره فيتلاشى في آفاق السماوات... ولن يشذّ كوكبٌ... لأنّه ليس حراً ولا مختاراً!! لقد أبان هذا الكتاب رؤى الحقّ والاستقامة، وأهداف الصلاح ودوافع الإنسان بشكل لا يدعُ مجالاً للّبس والغموض، ليسير الإنسان على هدىً وبيّنة، ولكي يكون مساره في الليل كمساره في النهار! وتلك هي المحجة البيضاء التي عناها خاتم الأنبياء (ص) في حديثه الشريف. هذه المقاييس يُجسّدها الحكم القرآني المتمثل بعدة آيات قرآنية كريمة، كقوله تعالى: (فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ) (النساء/ 59)، وقوله: (فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ) (النساء/ 65).. وقوله: (قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ * لا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ * وَلا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ) (الكافرون/ 1-3). وقوله: (اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ) (الفاتحة/ 6). وجاءت السُّنّة المطهرة لتزيد هذه المقاييس وضوحاً بشرحها، أو إضافة مقاييس أخرى عليها، كقوله (ص): "لا يؤمنُ أحدُكم حتى يكون هواهُ تَبَعاً لما جئتُ به"، وقوله: "من قاتلَ لتكون كلمةُ الله هي العليا، فهو في سبيل الله". وبهذا تكون المعالم والمقاييس واضحة للإنسان في مسيرته الحياتية، يحاول ويجدّ ويكدح مستنيراً بهدي تلك المقاييس، سائلا الله أن يعينه على بلوغ الهدف (اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ) دعاءً خالصاً في أن تكون مسيرة الجماعة (لاحظ صيغة الدعاء بالجمع، اهدنا)، وبضمنها الفرد، ضمن المقياس الإلهي، الصراط المستقيم، إذ الاستقامة بالمعنى الذي يحدّده الله وشرعه وليس بالمعنى الذي يتعارف عليه البشر وتحدده مصالحهم وغرائزهم وأهدافهم. وحين تتحدّد المقاييس تصبحُ قيمة الإنسان – في المنطق الإسلامي – في جدّه لتحقيقها في حياته بدقة ونباهة واجتهاد، إذ ان قيمة هذا الإنسان تتضح من خلال أهدافه ودوافعه وسبله ومناهجه في الوصول إلى هذه الأهداف، كما تتضح من خلال اهتماماته منظوراً إليها من خلال المقاييس التي آمن بها وجعلها شعاراً لحياته. ولكننا حين نطّلع على السجل البشري في التاريخ نرى التباين الواسع في أهداف الناس والوسائط التي يتبعونها من أجل تحقيق تلك الأهداف، وهو أمرٌ طبيعي بعدما عرفنا الطبيعة البشرية وخبرناها واستنرنا بالإيضاح القرآني عن طبيعة الإنسان وتكوينه وميوله. وهكذا ترى الناس (كُلٌّ يَعْمَلُ عَلَى شَاكِلَتِهِ) (الإسراء/ 84). فكافر ومؤمن، وشقي وسعيد، ومَن همّه الدنيا، ومَن همّه الآخرة، ومَن يركب الدنيا للدين، ومن يركب الدين للدنيا، ومنافق ذو وجهين، وربّاني مخلص صادق... و... أنماط شتى، وسبل متفرقة، وطاقات مستثمَرة لله، وجهود أخرى في ركاب الشيطان... وأعمال هادفة، وأخرى لاهية لاعبة!! هذا السجل البشري حافلٌ بالأمثلة من كلا الجانبين، وهي عِبَرٌ لمن ألقى السمع وهو شهيد. مدارس واتجاهات، وقيم، ولا قيم، وانسانية وحيوانية، ودنيا وآخرة، والله والطاغوت.. كل ذلك يتصارع في ذهن بني البشر وبين أيديهم ومن خلال أعمالهم.. حدثتنا بذلك كتُب الله.. وحدثتنا كتب البشر، ورأينا بأعيننا، وسيرى الناس الآتون بعدما ما رأينا!!. فلقد كان أناس يعيشون مع الرسول الكريم، ويستمعُون إلى آيات الله تُتْلى على مسامعهم صباح مساء، ولكن قلوبَهم غُلْف، لا تتأثر لا بسيرة الرسول، القرآن الناطق ولا بالوحي الذي يهبط من السماء، فمنهم من يكفر علناً، ومنهم من يدخلُ الإسلام نفاقاً فتتضح حقيقته من خلال محك الجهاد والبذل المالي ساعة العسرة. ومنهم من ينظر إلى الدِّين بمنظار المصالح ومقاييس النفع، فإن كان خيراً فرحُوا، وإن كان امتحاناً وابتلاءً قنطوا وأظهروا الكفر، أو تعلّلوا بالعلل!! فكان القواعدُ منهم والمخلّفون، وكان ناقضو العهود... وكان... وكان.. وليس أدلَّ على تصوير تلك المواقف البشرية التي اضطربت المقاييس في ذاتها، أو قلْ اتخذت شاكلةً أخرى غير شاكلة المقياس الإلهي، ليس أدلّ على ذلك من قوله تعالى: (لَوْ كَانَ عَرَضًا قَرِيبًا وَسَفَرًا قَاصِدًا لاتَّبَعُوكَ وَلَكِنْ بَعُدَتْ عَلَيْهِمُ الشُّقَّةُ) (التوبة/ 42). فلو كان ما دعوتهم إليه من جهاد في سبيل الله متاعاً من الدنيا سهل المأخذ، وسفراً هيّناً غير متعب لاتبعوك طلباً للغنيمة، ولكن بعدت المسافة، وبانّ الجهد والتضحية من ملامح السفر قبل البدء به، فتركوك!! ذلك أنّ المقياس كان الدنيا... ومن يكن مقياسُهُ الدنيا... يَعْشُ عن ذكر الرحمن، ولا ينظر أبعد من قدميه!! وتتوالى الأمثلة للمقاييس الهشّة، المقاييس البطنيّة، المتاعيّة، في تاريخ الإنسان، وأقربُ الأمثلة إلينا في تاريخنا الإسلامي ذلك الذي قال: الصلاةُ مع عليٍّ أتمّ، واللقمةُ مع مائدة معاوية أدسم.. وهو متحير ايّ الاتجاهين يسلكُ، وما احسبُه في النهاية إلّا أن انحاز إلى اللقمة الأدسم بطريقة مباشرة، أو بطريقة غير مباشرة. لا أقصد شخصاً واحداً.. وإنما هذا منهج يكون في حياة الشخص والجماعة.. وأقرب صورة حيوانية إلى هذا المنهج شيئان القطة والمطبخ.. فحين يكون الزاد في المطابخ تكون القطط.. وحيث لا زاد ولا حتى بقايا زاد.. فليست هناك رائحة لِقِطّة!! فليست "الميكيافيلية" – إذاً – بجديدة في تاريخ الفكر الإنساني والسلوك البشري، ولا "البراكماتية" الأمريكية بدعاً في هذا التاريخ.. الإنسانُ هو الإنسان، معنى التاريخ يعيد نفسه، ليست أحداثُهُ هي التي تعود نفسها، ولكن ملامح سلوك الإنسان ومقاصده ومقاييسُه وسبله هي التي تتكرر مراراً في تاريخ البشرية وإن اختلفت الأشكالُ والأزمنة والقرون.. وتبرز جلية معالم اللوحة الأخرى من ذوي المقاييس الربانية الثابتة وأصحاب المواقف التي كانت تمليها المقاييس، تلك المواقف التي دفعوا معها الثمن باهظاً، وحصلوا على الثواب وعداً إلهياً لا يُخلفُ.. نستحضر في الذاكرة الآن أبا الأنبياء إبراهيم (ع)، محطم الأصنام، ومعلي مقياس الحقّ، بعزيمة لا تلين، ومقياس لا يُخطئ أبداً.. ويرثه خاتم الأنبياء محمد بن عبدالله (ص)، فترى المقياس ذاته (والله لو وضعتم الشمس في يميني والقمر في شمالي على أن أترك هذا الأمر ما تركتُهُ، أو أهلك دونه)، فليست المسألة من باب التشدّد والمرونة، أو التطرف والاعتدال، بل هو مقياس الحق الثابت، واتّباعُهُ بتشدّد هو المرونة، واتّباعه بتطرف هو الاعتدال!! ويأتي من بعده الإمام عليّ (ع) لتُجَسّدَ حياتُه اتّباع المقياس الإلهي في العلاقات الفردية والسياسية.. فيرحل ليخلف بعده مقولات لا تذكر حتى يذكر معها الإنسان – المقياس.. (لا تستوحشوا، في طريق الهدى لقلة أهله).. فليست المسألة بكثرة السائرين في الطريق أو قلّتهم، بل هي في وضوح الطريق نفسه، ولا شأن للسائرين به في عملية السير.. المقياس... حتى ولو سار الإنسان وحده، ومات وحده!! المقياس.. كان بين عيني (عليّ) وفي قلبه.. يا شيخ.. اعرفِ الرجال بالحقّ، ولا تعرف الحقّ بالرجال!! ما أعظمه من مقياس!! الحقّ حين تعرفه تعرف أهله، وتسير معه أينما سار.. شمالاً أم جنوباً، شرقا أم غرباً، أكان قوياً أم ضعيفاً، أبعدت الطريق أم قربت. الحقّ.. الحقّ!! فإن لم نتبع الحق، فلنتخذْ من أنفسنا دليلاً للحقّ.. (يا بنيَّ اجعل نفسك ميزاناً بينك وبين غيرك).. وذلك في وصيته للإمام الحسن (ع).. فهل تحب أن تُظلم؟، وهل تحب أن يعتدى عليك، أو يُسلبَ حقُّك، أو تُغشَّ؟! وحين يكون الجواب.. لا.. فلماذا تفعل ذلك مع غيرك؟! وهذا مقياس.. مقياس حق. ويأتي الحسين بن عليّ (ع) ليعلو مقياس الحقّ ايَّ علو. ويهبط مقياس المصالح والشهوات والدنايا هبوطاً أيَّ هبوط فتنتقل البشرية كلها نقلةً إلى الأمام، حيث رأت بالتجسيد كيف تصارعت المقاييس، واتضحت معالمها وراياتها ولم يبق إلا أن يقرر الإنسان إلى أيّ جهة تخطو قدماه!! (واللهِ إني لا أرى في الموتِ إلا سعادة، ولا أرى الحياة مع الظالمين إلا برما)!!، وكان المقياس يحثُّهُ إلى الموت الذي كان الحياة!! يا ابتِ ألسنا على الحقّ؟! قال بلى قال – إذن – لا نهاب اوقعَ الموت علينا أم وقعنا على الموت"!!.. تلك صورة، في إطار المقياس، تلك كلمة ابن الإمام الحسين عليّ الأكبر، وهو يحاور والده!! هذا الصنف من أصحاب المقاييس يعيشون في الدنيا للمقياس ويموتون للمقياس، فليس الربح الذي نعرفه عندهم ربحاً، وليست الخسارة التي نعرفها عندهم خسارة، فهم يُقدّمون دماءهم ويسخون بأموالهم، وهم يعرفون أنّه الربح.. وما هو بربح في مقاييسنا النفعيّة. وهم يحبون ويبغضون للمقياس.. فحبهم حبّ عقائدي، وليس فردياً ألا عشائرياً أو حزبياً.. حبهم حبّ في الله! وذلك هو أعظم الإيمان بناءً على تشخيص الرسول الحبيب (ص) في جوابه لمن سأله من أعظم الإيمان، فقال: من أحبّ في الله، وكره في الله، وأعطى في الله، ومنع في الله!! وهذا يعني أن أصحاب المقاييس هم أصحاب الإيمان الأعظم!! وهو حكم حق، في أناس اتبعوا مقياس الحق! ولا عجب أن يكون العطاء الإلهي لهذا الصنف من البشر بمستوى الثبات على المقياس، وأستغفر الله أن أقول بـ(مستوى)، بل العطاء أعلى درجة من العمل (لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ) (يونس/ 26). ولا ندري مقدار هذه الزيادة إذ يكفي أنها زيادة من الله الذي عنده الخزائن التي لا تفنى.. هؤلاء الذين ثبتوا على المقاييس يثبّتُهم الله في الدنيا، وفي الآخرة، ويجعل لهم قدم صدق أمام الناس في الدنيا، وفي حضرته في الآخرة (يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ) (إبراهيم/ 27). وخلاصة القول في المقاييس انّنا لا ينبغي أن نسير مع كل ناعق، ونكون إمّعات مع الأكثرية، تغرينا الكثرة، ونستوحش الطريق من قلّة سالكيه، فالإسلام يدعونا إلى التأمل، واتباع الحق، ونبذ الهوى، والخروج من طوق "الشعور الجمعي"، مهما كان هذا الطوق حديدياً، تمتنه عرى الإعلام اليومي المتكرر.►   *كانو – نيجيريا   المصدر: مجلة نور الإسلام/ العددان 19 و20 لسنة 1412هـ

ارسال التعليق

Top