• ١٩ نيسان/أبريل ٢٠٢٤ | ١٠ شوال ١٤٤٥ هـ
البلاغ

روح الإنسان السليمة

روح الإنسان السليمة
 ◄لو أنّ شجرة سليمة الجذع سالمة الجذور تعرضت إلى بعض الحوادث فتساقطت ثمارها وتناثرت أوراقها أو بريت أغصانها أو عصف البرد بخضرتها أو التهمت الطير ثمارها وأفسدتها، فإنّ ذلك أمر يدعو إلى الأسف ولكنه لا يدعو إلى القلق أبداً، لماذا؟ لأنّ جذعها سالم ولذا فهي ستورق من جديد وستعود إليها خضرتها مرة أخرى، ثمّ تكتظ بالثمار ملقية ظلالها الوارفة من جديد، وما دام الأمر كذلك فإنّ من حقِّ الإنسان أن يشعر بالأمل.

إنّ الوجود يشبه إلى حدّ بعيد شجرة مثمرة، فإن كانت سالمة من العيوب كانت نضرة قوية تهب الخضرة والثمار وتلقي بظلالها الوارفة على الطريق فيستريح عندها العابرون ويتفيأون ظلالها بعد أن أحرقتهم حرارة الشمس، ولكن هذه الشجرة قد تتعرض لبعض الحوادث من قبيل عبث الأطفال فتذهب تلك المعاناة في رعايتها أدراج الرياح.

وهكذا الإنسان يعاني ويتألم سنوات طويلة لكي يعدّ نفسه ويكوّن حياته وإذا كلّ ذلك يذهب في لحظة واحدة في ضربة من ضربات القدر تجعل منه بائساً فقيراً، ذلك أنّ متاع الحياة الدنيا معرض لآلاف الآفاق كالغرق والحرق والخطف وغيرها. وبالرغم من أنّ كلَّ ذلك يبعث على الأسى، ولكنه لا يدعو إلى القلق خاصّة بالنسبة لأولئك الذين يتمتعون بالروح القوية والأمل.

إنّ الجسم السليم الذي يخضع لجراحة ما لا يدعو إلى القلق لأنّه يملك استعداداً ذاتياً على التئام أنسجته، بعكس الجسم الذي يعاني من مرض السكري – مثلاً – فإنّ الجراحة هنا أمر يصعب علاجه وتجنب أخطاره، ولذا فهو يدعو إلى القلق، ذلك أنّ أدنى جرح بسيط يستغرق وقتاً طويلاً لالتئامه.

إنّ الإنسان الذي يتمتع بالمعنويات العالية وبالأمل يمكنه أن يجبر كلّ كسر يتعرض له، غير أنّ الطامّة الكبرى تحلّ فيما إذا تعرض الجذر نفسه للآفات، وإذن فلن يبقى للخضرة والثمار من أثر.

لو أصيب الإنسان – لا سمح الله – في روحه وقلبه وذبلت عواطفه وأحاسيسه، وأصبح ساخطاً على الناس متشائماً منهم، ورأى نفسه وحيداً دون سند ومعين، إنّ مثل هذا الإنسان سيكون عديم النفع لنفسه وللآخرين، وعندها يتساوى موته مع حياته.

وقد عبر القرآن الكريم عن ذلك بالخسران المبين، وهم أولئك الذين خسروا أنفسهم وأرواحهم، فليس مهماً أن يخسر الإنسان بعض ثمار حياته ولكن الخسارة الكبرى أن يخسر الإنسان الأمل والرجاء، والأكبر من ذلك أن يخسر الإنسان الإيمان الذي هو نبع الأمل، ذلك أنّ الإيمان يصنع التوكل والاعتماد والأمل.

إنّ الإنسان المؤمن لا يعتبر نفسه وحيداً أبداً وهو يردد دائماً: (إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ) و(رَبَّنَا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ) (الممتحنة/ 4). فالمؤمن يتأثر للحوادث ولكنه لا يتزعزع أبداً ولا يشعر بالقلق، ذلك أنّ مصابه ليس في دينه وإيمانه وعقيدته.

قال تعالى مخاطباً رسوله الكريم: (قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلا صَالِحًا وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا) (الكهف/ 110).

إنّ الإيمان وفي الوقت الذي يمنح الإنسان الأمل ويهبه الرجاء فإنّه يقف بوجه بعض الأماني الباطلة ويمنح من نموّها، ذلك أنّ الإنسان تحدّه الأماني، حيث تموج في أعماقه الأماني المحال، فقد يتمنى أنّ تلك الحادثة التي وقعت له فيما مضى لم تقع أبداً أو يتمنى وقوعها على نحو آخر، أو يتمنى أن تعود إليه أيام الشباب أو أنّه كان من أسرة فلان أو من عائلة الفلاني.

ومن هنا نعرف أنّ الأماني لا تخضع للمنطق ولا تنقاد لقانون العقل والفكر، ولذا ينبغي إصلاحها وإخضاعها لقاعدة المنطق.

إنّ هذه الآمال الوهمية التي يعبر عنها الدين بأماني الشيطان تخدع الإنسان وتبدد عمره وتجعله هباءً منثوراً، فيستهلك وقته وفكره في الخيال.

وهنا ينسحب مَثَلُ الشجرة أيضاً، إذ تبرز ضرورة البستاني الذي يرعاها إذ لا يقتصر عمله على سقيها وحمايتها من الآفات فقط بل يتعدى ذلك إلى تشذيب أغصانها إذ يقطع ما يراه زائداً من أغصانها لكي لا تستهلك طاقتها في نمو الأغصان التي لا طائل من ورائها.

الإنسان هو الآخر يزخر بالكثير من الأماني الباطلة التي تستهلك فكره وعمره تماماً مثل الأغصان الزائدة التي يعمد البستاني إلى التخلص منها والإبقاء على الأغصان المكتظة بالثمار.

ولهذا فإنّ على الإنسان أن يكافح ويتخلص من أمانيه الباطلة ذلك أنها مجرد أوهام شيطانية فارغة.

قال تعالى: (وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلا غُرُورًا) (النساء/ 12).►

 

المصدر: كتاب سلوك وأخلاق الإسلام

ارسال التعليق

Top