• ٢٥ نيسان/أبريل ٢٠٢٤ | ١٦ شوال ١٤٤٥ هـ
البلاغ

الارتقاء الروحي

الارتقاء الروحي
◄الارتقاء منه ما هو مادي، ومنه ما هو روحي.

فالارتقاء المادي يتمثل في الكشوف العلمية، واختراعات الآلة، وفي هذه الصناعات الكبرى والأنظمة والقوانين.

وهي وإن كانت عظيمة ومحكمة، ووفرت للناس بعض الرخاء والرفاهية المادية – فهي لا توصل إلى الله، ولا تصلح النفس الإنسانية، ولا ترحم الضعيف، ولا تحقق المحبة، ولا تجلب السلام، ولا تقضي على العداوة والبغضاء، ولا تصل بالإنسان إلى كماله المنشود.

إنّها تجعل من الإنسان حيواناً راقياً، ولكنها لا تخلق منه إنساناً فاضلاً – كما يقول أحد الفلاسفة –.

أما الارتقاء الروحي فهو غاية من الغايات التي يستهدفها الإسلام.

وهو يتجلى في الإيمان واليقين، والطيبة والسماحة، والمحبة والمودة، والرحمة والشفقة، والإيثار والتضحية، وإقرار السكينة في النفوس، والطمأنينة في القلوب، والعدل بين الناس، والسلام العام.

ومن أجل أن يتحقق الارتقاء الروحي كان لابدّ من الإيمان بالله إيماناً يدفع الإنسان إلى الخير، ويجنبه الشر، ويحمله على أداء الواجب، ويمنعه من التقصير فيه.

وهذا هو الإيمان الذي أراده الإسلام.

وأي انحراف عنه فهو انحراف عن الإسلام نفسه، ومن ثمّ يقول الرسول (ص): "آية المنافق ثلاث: إذا حدث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا ائتمن خان، وإن صام، وصلى، وحج، واعتمر، وزعم أنّه مسلم".

ويقول: "لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن".

والإيمان لابدّ أن يتجسد، ويبرز في صور عملية، فليس الإيمان بالتمني، ولكن ما وقر في القلب، وصدقه العمل.

وقد زعم جماعة أنّ التمني يبلغ بالإنسان إلى الغاية، فأكذب الله هذا الزعم ورد على هؤلاء فقال:

(لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ وَلا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلا نَصِيرًا * وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلا يُظْلَمُونَ نَقِيرًا) (النساء/ 123-124).

ثمّ بين طريق الخلاص، وأنّه إسلام الوجه لله، وإحسان العمل فقال:

(وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلا) (النساء/ 125).

ورسول الله (ص) يؤكد هذا المعنى، وأنّ ذلك هو العقل والكيْس، وأنّ ما عداه حماقة لا تليق بإنسان فيقول: "الكيِّس مَن دان نفسه وعمل لما بعد الموت، والأحمق مَن أتبع نفسه هواها، وتمنى على الله الأماني".

قيل للحسن: إنّ قوماً يقولون: نحن نحب الله ويضيعون العمل. فقال: "هيهات هيهات، تلك أمانيهم يتأرجحون فيها، مَن رجا شيئاً طلبه، ومَن خاف شيئاً هرب منه".

ترجو النجاة ولم تسلك مسالكها *** إنّ السفينة لا تجري على اليبس

وليس العمل مجرد عمل، بل لابدّ وأن يفرغ الإنسان روحه فيه، وأن يكون يقظاً حريصاً على انتهاز الفرص معنياً بالإصلاح والتقدم، وتوفير الوقت اللازم لذلك.

وقد كان الرسول (ص) يقول: "إذا أتى عليَّ يوم لم أزدد فيه علماً، ولم أزدد فيه هدى، فلا بورك لي في طلوع شمس ذلك اليوم".

ويدعو أُمّته إلى الحرص على كلّ نافع مادي وأدبي، وينهاهم عن العجز والكسل فيقول: "احرص على ما ينفعك، واستعن بالله، ولا تعجز، وإذا أصابك شيء فلا تقل لو أني فعلت كذا كان كذا وكذا، ولكن قل قدر الله، وما شاء فعل، فإن لو تفتح عمل الشيطان".

وحتى حين يدعو الإنسان، فمطلوب منه أن يعظم المسألة. يقول الرسول (ص):

"وإذا سألتم الله فاسألوه الفردوس الأعلى، فإنّه أعلى منازل الجنّة".

وبهذا فتح الإسلام أبواب الأمل والعمل لمن يبتغي الوصول إلى أسمى ما قدر له من كمال.

وملاك ذلك كلّه ضبط النفس، ومجاهدتها حتى تستقيم على الصراط الذي يبلغ بها إلى الغاية.

فما لم تكن ثمة مجاهدة فليس الإنسان ببالغ شيء.

والله يقول: (وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ) (العنكبوت/ 69).

فمواهب الله لا تعطى جزافاً، ولا تهبط اعتباطاً، وإنّما هي كفاء جهادٍ كريم، وتضحية غالية.

كذا المعالي إذا ما رمت تدركها *** فاعبر إليها على جسر من التعب

لا تحسب المجد تمراً أنت آكله *** لن تبلغ المجد حتى تلعق الصبرا

والمجاهدة إنّما هي ثمرة قوة الإرادة، والتمرس بالصبر، والثبات والجلد، وتحدي المثيرات، والتغلب على المغريات، والوقوف منها كالصخرة الصماء الراسخة أمام الرياح العاتية. يقول الرسول (ص): "ما يكون من خير فلن أدخره عنكم... ومن يستعفف يعفه الله، ومن يستغن يغنه الله، ومن يتصبر يصبره الله".

فالعفة والغنى والصبر ثمرة الاستعفاف والاستغناء، والتصبر أي: مجاهدة النفس وحملها على الاتصاف بهذه الخلال الكريمة.

وقوام الإرادة القوية الطمع في رحمة الله، والخوف منه.

وغاية ذلك كلّه أن يصل الإنسان إلى المستوى الإنساني الرفيع، وأن يحقق إرادة الله فيه؛ ليندمج في عباد الله الصالحين الذين سبقت لهم من الله الحسنى.

ولقد كانت غاية أنبياء الله أن يحققوا هذا الهدف الأعلى. ويصلوا إليه، فكانت أعمالهم وأقوالهم تتجه هذا الاتجاه.

يقول يوسف (ع): (رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الأحَادِيثِ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ أَنْتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ) (يوسف/ 101).

فلم يكتف بما أفاض الله عليه من نبوة وبما وهبه من علم، وبما أعطاه من ملك. وإنّما طلب إلى ذلك كلّه أن ينتظم في سلك عباد الله الصالحين، وأن يلقى الله وهو مسلم.

ويقول سليمان (ع):

(رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ) (النمل/ 19).

وهذا أسمى ما يمكن أن يصل إليه إنسان.

(وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَنُدْخِلَنَّهُمْ فِي الصَّالِحِينَ) (العنكبوت/ 9).►

ارسال التعليق

Top