• ٢٨ آذار/مارس ٢٠٢٤ | ١٨ رمضان ١٤٤٥ هـ
البلاغ

الصوم.. مدرسة عمل ومنهاج عبادة

عمار كاظم

الصوم.. مدرسة عمل ومنهاج عبادة

قال رسول الله (ص): "إنّ شهر رمضان، شهر عظيم، يضاعف الله فيه الحسنات، ويمحو فيه السيئات، ويرفع فيه الدرجات، مَن تصدق في هذا الشهر بصدقة غفر الله له، ومَن أحسن فيه إلى ما ملكت يمينه غفر الله له، ومَن أحسن فيه خلقه غفر الله له، ومَن كظم فيه غيظ غفر الله له، ومَن وصل فيه رحمة غفر الله له". فالصوم مدرسة عمل، ومنهاج عبادة، وفترة إعداد وتربية، تصقل في رحابها قوى الإنسان، وتتربى في مرابعها ملكات الخير، وتزهر في رياضها نوازع الإنسان النبيلة. يقول تعالى: (شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن هدى للناس وبينات من الهدى والفرقان فمن شهد منكم الشهر فليصمه) (البقرة/ 185). فكل ما في الصوم منهج متكامل الخطوات، وواجب مترابط الأهداف، يسعى لتحقيق التكامل الإنساني على اتجاهين أساسيين، أحدهما سلبي والآخر إيجابي: ففي الإتجاه السلبي يعمل الصوم على كف النفس الإنسانية، ومنعها من التعدي والعدوان والتفريط، وممارسة اللذة والشهوات لتعرف الحد الطبيعي، وتتعود الترفع على فعل المحرمات، والتعالي على ممارسة الملذات المادية، والاستغراق في الشهوات لئلا ينحدر بالإنسانية تيار الشهوات، والملذات، فيقودها إلى هاوية الخراب والدمار.. لأن انطلاق الشهوة – شهوة المال والطعام والجنس والسلطة.. الخ، وانجرار السلوك الإنساني من سلوك خير بناء، تستثمر فيه طاقات الإنسان الخيرة لخير الإنسانية وصالحها، إلى سلوك شهواني هدام، يحصر فيها الإنسان همه لإشباع لذاته الأنانية، ورغائبه الحسية، فيستهلك قواه الجسدية، ودوافعه النفسية، وقدراته الإبداعية كلها في مجال الإشباع الغريزي الأناني فتخسر البشرية بذلك أثمن طاقة حضارية على هذه الأرض وتفادياً لهذا الانحدار المفرط في استعمال الشهوات، وتحريراً للبشرية من أسر الملذات، شرع الصوم.. ليكون مرحلة تربية وتوجيه لإحساسات الإنسان الشهوانية، ودوافعه الغريزية، والحفاظ على طاقاته الإنسانية الخلاقة، وفق أهدافها الطبيعية البناءة. وقد عبر الإمام الصادق (ع) عن هذه الحقيقة أجمل تعبير بقوله: "ليس الصيام من الطعام والشراب أن لا يأكل الإنسان، ولا يشرب فقط، ولكن إذا صمت فليصم سمعك وبصرك، ولسانك وبطنك، وفرجك، واحفظ يدك وفرجك، وأكثر السكوت إلا من خير، وأرفق بخادمك". وبعد كف النفس ومنعها من الطغيان والانفلات، يتجه الإسلام اتجاهاً إيجابياً ليوجه الصائم إلى الالتزام بمكارم الأخلاق ، ومحاسن العادات، فقد ورد عن رسول الله (ص) قوله: "أيها الناس من حسن خلقه في هذا الشهر كان له جوازاً على الصراط يوم تزل فيه الأقدام". وورد عنه (ص) "خمس يفطرن الصائم: الكذب، والغيبة والنميمة، واليمين الكاذبة، والنظر بشهوة". وروي أن رسول الله (ص) سمع امرأة تسب جاريتها وهي صائمة فدعى بطعام وقال لها: كلي، فقالت: إني صائمة، فقال: كيف تكونين صائمة وقد سببت جاريتك. وروي عن الإمام الصادق (ع) في وصفه للصيام أنه قال: "إن الصيام ليس من الطعام والشراب وحده، إنما للصيام شرط يحتاج أن يحفظ حتى يتم الصوم، وهو الصمت الداخل، أما تسمع قول مريم بنت عمران "إني نذرت للرحمن صوماً فلن أكلم اليوم إنسياً" يعني صمتاً، فإذا صمتم فاحفظوا ألسنتكم عن الكذب وغضوا أبصاركم، ولا تنازعوا ولا تحاسدوا، ولا تغتابوا ولا تماروا، ولا تكذبوا ولا تباشروا، ولا تخالفوا ولا تغاضبوا، ولا تسابوا ولا تشاتموا، ولا تنابزوا ولا تجادلوا، ولا تظلموا ولا تسافهوا، ولا تزاجروا ولا تغفلوا عن ذكر الله وعن الصلاة، والزموا الصمت والسكوت والحلم، والصبر والصدق، ومجانبة أهل الشر، واجتنبوا قول الزور والكذب والإغراء، والخصومة وظن السوء، والغيبة والنميمة، وكونوا مشرفين على الآخرة، منتظرين لأيامكم منتظرين لما وعدكم الله، متزودين للقاء الله، وعليكم السكينة والوقار والخشوع والخضوع، وذل العبد الخائف من مولاه،... راجين، خائفين، راغبين، راهبين، قد طهرت القلوب من العيوب وتقدست سرائركم من الخب، ونظفت الجسم من القاذورات، تبرأ إلى الله من عداه، وواليت الله في صومك بالصمت من جميع الجهات، مما قد نهاك الله عنه في السر والعلانية، وخشيت الله حق خشيته في السر والعلانية، ووهبت نفسك لله في أيام صومك، وفرغت قلبك له، ونصبت قلبك فيما أمرك ودعاك إليه، فإذا فعلت ذلك كله فأنت صائم لله بحقيقة صومه، صانع لما أمرك"... إلى أن قال (ع): "إن الصوم ليس من الطعام والشراب، إنما جعل الله ذلك حجاباً مما سواها من الفواحش من الفعل والقول". وهكذا يتضح لنا دور الصيام في التربية والتوجيه الروحي والأخلاقي، والحفاظ على الصحة البدنية والنفسية،... فالصوم:

1- يربي قوة الإرادة، ويغرس فضيلة الصبر، والقدرة على التحمل، واحتمال الجوع والعطش، ومغالبة الشهوات، والدوافع النفسية المتسافلة، .. ولذلك وصف رسول الله (ص) شهر الصوم بقوله: "وهو شهر الصبر، وإن الصبر ثوابه الجنة، وهو شهر المواساة".

2- يعمل على تغيير سلوك الإنسان من سلوك وليد العادة إلى سلوك يقوم على الوعي والتفكر، واختيار المواقف، بتحكم الإنسان في سلوكه أثناء الصوم، وتعامله مع الأشياء تعاملاً واعياً وإرادياً.

3- يعمل على تنظيم نشاط الغرائز، وتوجيهها، وترويض الجسد على التبعية للقوى الروحية والنفسية المتعالية. 4- يحافظ على صحة الجسم، بحفظ طاقات البدن من الإسراف وإعطاء أجهزة الجسم فترة للإستراحة، واستعادة النشاط،... إضافة إلى أن الصيام علاج لكثير من الأمراض الجسدية والعصبية كما أثبتت التجارب الطبية ذلك. وصدق الرسول العظيم (ص) بقوله: "صوموا تصحوا".

5- الصوم تربية للفضائل الأخلاقية وتربية لقوى النفس الخيرة وتعويد للإنسان على ترك الرذائل بعد أن يعمل خلال شهر كامل على ضبط مشاعره ولسانه وغرائزه ووجدانه من الإساءة والانحراف.

6- يعمل الصوم على توثيق الصلة والعلاقة الدائمة بالله تعالى بشعور الصائم المستمر بأنه يعبر خلال صومه عن الاستجابة الدائمة لإرادة الله سبحانه، وينفذ أوامره.

فلمثل هذه الأغراض شرع الصوم، ولهذه المنافع التعبدية والتربوية جعل الصوم فريضة على كلّ مسلم قادر على أدائه. ولذلك جعل الصوم جزءاً من منهج الإسلام الإصلاحي والتربوي، الذي يستهدف خير البشرية وإصلاحها

ارسال التعليق

Top