• ٢٦ كانون أول/ديسمبر ٢٠٢٤ | ٢٤ جمادى الثانية ١٤٤٦ هـ
البلاغ

الصلاة وأثرها في وحدة المجتمع

الصلاة وأثرها في وحدة المجتمع

◄هي عبادة بدنية يخلص فيها المؤمن إلى ربّه وتتعلق روحه بخالقه حينما يقف بين يدي مولاه خمس مرات في كلّ يوم وليلة فهي رحلة قدسية إلى مدارج العبودية الصادقة لله سبحانه وتعالى، وهي من القواعد الأساسية المكوّنة لصرح الإسلام، عرض لها القرآن الكريم من نواحٍ شتى تكلّم عنها باعتبارها عبادة قديمة أمر بها رسل الله السابقون ودعوا إليها أقوامهم، فأبو الأنبياء إبراهيم (ع) وحين يذهب بزوجه هاجر وابنها إسماعيل إلى المكان الذي أمره ربّه أن ينزلهما فيه يدعو ربّه بما حكاه القرآن قائلاً: (رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ) (إبراهيم/ 37).

ويعهد الله إلى إبراهيم وإسماعيل بتطهير البيت الحرام حتى يكون معداً لإقامة الصلاة فيه (وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ) (البقرة/ 125). ثمّ إنّ إسماعيل (ع) يصفه ربّه بأوصاف السمو والكمال البشري ومن هذه الأوصاف أنّه يأمر أهله بالصلاة (وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِسْمَاعِيلَ إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ وَكَانَ رَسُولا نَبِيًّا * وَكَانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلاةِ وَالزَّكَاةِ وَكَانَ عِنْدَ رَبِّهِ مَرْضِيًّا) (مريم/ 54-55).

وأمرت مريم البتول صديقة بني إسرائيل بأداء الصلاة (يَا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ) (آل عمران/ 43).

وعيسى ابنها تحدث عن وصية الله له بما حكاه القرآن قائلاً: (قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا * وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنْتُ وَأَوْصَانِي بِالصَّلاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا) (مريم/ 30-31).

هذا الحديث عن الصلاة يظهر لنا أنّ هذه العبادة كانت منذ أمد بعيد وهذا يوضح لنا أهميتها في تكوين الشخصية الإيمانية التي تعد لبنة صالحة في ذلك المجتمع الكبير.

وتحدّث القرآن عن الصلاة في الشريعة المحمدية ونظر إليها بعدة اعتبارات فهي من أوصاف المتقين. (ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ * الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ) (البقرة/ 2-3). وفلاح المؤمن لا يتحقق إلّا بمحافظته على الصلاة وخشوعه فيها (قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ * الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خَاشِعُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ * إِلا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ * فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ لأمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ * أُولَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ * الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ) (المؤمنون/ 1-11)، وهي من عناصر الاستعانة على مدلهمات الأمور (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ) (البقرة/ 153)، وكان النبيّ (ص) إذا حزبه أمر هرع إلى الصلاة، وإذا ما اشتدت به للمشاغل الدنيوية وجد في الصلاة راحة ومتنفساً فيقول لمؤذنه "أرحنا بها يا بلال" وثمرة الصلاة إلى جانب ذلك أنّها ترقق القلوب وتطمئن النفوس وتبعد المؤمن عن حياة الفحش وارتكاب المنكرات، وتخّلقه بالأخلاق الطيِّبة، بقوله تعالى: (وَأَقِمِ الصَّلاةَ إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ) (العنكبوت/ 45).

وإذا كانت طبيعة النفس الإنسانية تجمع غالباً إلى الشرور وعدم الرضا بالواقع وإلى الأنانية وحب الذات فإنّ الصلاة تهذب هذه النفوس وتصقلها وتخلقها بالأخلاق الفاضلة (إِنَّ الإنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا * إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا * وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا * إِلا الْمُصَلِّينَ * الَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلاتِهِمْ دَائِمُونَ) (المعارج/ 19-23)، وأي إنسان لا تنهاه صلاته عن الفحشاء والمنكر فإيمانه ناقص وصلاته لم تثمر ثمرتها.

والذين يتهاونون في هذه الفريضة ويقصرون في أدائها فمآلهم سوء العاقبة (مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ * قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ * وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ * وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَائِضِينَ * وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ * حَتَّى أَتَانَا الْيَقِينُ) (المدثر/ 42-47)، ويقول تعالى: (فَلا صَدَّقَ وَلا صَلَّى * وَلَكِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى * ثُمَّ ذَهَبَ إِلَى أَهْلِهِ يَتَمَطَّى * أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى) (القيامة/ 31-34).

كما نعى القرآن على الذين يسهون عن الصلاة بقوله: (فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ * الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ سَاهُونَ) (الماعون/ 4-5).

ثمّ إنّ واقع الصلاة وما تستوجبه يدل دلالة واضحة على سمو هدفها ونبل غايتها فما قبل الصلاة والطهارة من وضوء أو غسل عامل قوي من عوامل النظافة التي تبعث على الألفة والمحبّة والائتناس، فالإنسان النظيف في مظهره وفي مخبره محبوب مرغوب فيه لا ينفر منه أحد ولا يتقزز منه إنسان، لذلك كان الطهور شطر الإيمان.

ولما كانت الصلاة من عوامل الألفة فإنّ النبيّ (ص) نهى عن استعمال ما يؤدي إلى نفرة الناس وأمر الذين يأكلون ما تتخلف منه الروائح الكريهة باعتزال مجالس الذكر والمساجد.

روى في الصحيحين أنّ جابر بن عبد الله زعم أنّ النبي (ص) قال: "مَن أكل ثوماً أو بصلاً فليعتزلنا. أو قال فليتعزل مسجدنا وليقعد في بيته... الحديث".

كلّ ذلك كي لا تفقد الصلاة مهمتها الاجتماعية التي ترمي إلى ترابط المجتمع وتقوية علاقة الحب بين أفراده.

والصلاة في مظهرها وحقيقتها نمط كامل من الوحدة والترابط، فكلّ المصلين يتجهون إلى قبلة واحدة على اختلاف أماكنهم وأوطانهم يتجه الجميع من شتى بقاع الأرض إلى أوّل بيت بمكة وضعه الله سبحانه وتعالى قبلة للمسلمين (قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُمَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ) (البقرة/ 144).

والصلاة في المسجد أفضل من صلاة الإنسان في بيته لأنّ المسجد مكان اجتماع عدد كبير من الناس (فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ * رِجَالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالأبْصَارُ * لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ) (النُّور/ 36-38).

والعيد الأسبوعي للمسلمين هو يوم الجمعة حيث يجتمع عدد كبير من المسلمين في بيوت الله يستمعون إلى الخطبة ويتعلمون منها ما يذكرهم بأمر دينهم ومعاشهم، وهو مظهر في غاية من الجمال والجلال (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ) (الجمعة/ 9)، وإذا التزم المؤمن بآداب الجمعة وأقام سنتها من غسل وتطيب وعدم التفريق بين الناس والإنصات إلى الإمام فإنّ ذلك سبيل إلى مغفرة الذنوب. عن سلمان الفارسي قال: قال رسول الله (ص): "مَن اغتسل يوم الجمعة وتطهر بما استطاع من طهر ثم ادهن أو من طيب ثم راح فلم يفرق بين اثنين فصلى ما كتب له، ثمّ إذا خرج الإمام أنصت، غفر له ما بينه وبين الجمعة الأخرى" ومن مظاهر الوحدة.. الاجتماع القوي بين المسلمين في عيدي الفطر والأضحى وما يتصل بذلك من عوامل الألفة والمحبة في هذين اليومين، وهناك بعض الصلوات الأخرى التي لا تتم إلّا في جماعة.

بذلك ندرك أهمية فريضة الصلاة في تكوين وحدة المسلمين وتقوية العلاقة الطاهرة فيما بينهم فهي سبيل إلى التعارف والتعاون والتآلف، يجتمع المسلمون في مكان واحد يعرف كلّ منهم الآخر ويتعرف على مشاكله ويساعده في حلها ويقف إلى جانبه ليساعده في مختلف الظروف. إنّ ذلك من المقاصد السامية لهذا الركن من أركان الإسلام لننظر متدبرين كيف كانت الصلاة سبيلاً إلى تطهير قلب الفرد ونظافة ظاهره، وعاملاً على وحدة المسلمين وتقوية روابط الألفة فيما بينهم، وهدفاً إلى توثيق العلاقات بين المسلمين.►

ارسال التعليق

Top