• ١٩ نيسان/أبريل ٢٠٢٤ | ١٠ شوال ١٤٤٥ هـ
البلاغ

الإسلام والديمقراطية لا يتعارضان ولكنهما منظومتان مختلفتان

د. إبراهيم أبراش

الإسلام والديمقراطية لا يتعارضان ولكنهما منظومتان مختلفتان

إشكالات العلاقة ما بين الدين والدولة والديمقراطية ليست حكراً على الحالة العربية الإسلامية فقد سبقتنا أوروبا في ذلك حيث شغلت هذه الإشكالات الفكر المسيحي منذ بداية ظهور المسيحية إلّا أنّه تم حسمها نسبياً في بداية عصر النهضة ثمّ لاحقاً بوسائل تفاوتت ما بين العنف والحروب الأهلية حينا والجدال الفكري المُفضي لتوافقات عقلانية واقعية حددت تخوم تخصص كلّ من الكنيسة والدولة  حيناً آخر وكان للديمقراطية التي تقوم على المواطنة والشراكة السياسية للجميع الفضل في هذه التوافقات، والنتيجة استقرار العالم المسيحي على ثوابت ومرجعيات تمثّل اليوم قاسماً مشتركاً بين كلّ المجتمعات الغربية المسيحية، وهي العلمانية والليبرالية والديمقراطية أو الدولة المدنية، مع بعض الاستثناءات هنا وهناك .

يمكن تفسير هذا المسار لعلاقة الديني بالسياسي في المجتمعات المسيحية إلى طبيعة الديانة المسيحية التي تفصل بين العقيدة المسيحية من جانب والسياسة والدولة من جانب آخر حسب مقولة (ما لله لله وما لقيصر لقيصر)، كما يمكن الاتكاء على حقيقة  أنّ المسيح لم يؤسِس دولة أو يمارس حكماً حتى يتم الدعوة للاحتذاء بالسلف الصالح، كما أنّ ماضي المجتمعات المسيحية في ظل سيطرة الكنيسة على المجالين الديني والدنيوي ليس بالأمر الذي يشجع على استعادته .

دون تجاهل هذين العاملين فإنّ اعتبارات أخرى ساعدت على هذا الأمر منها النهضة الفكرية والصناعية والعلمية، وتبلور طبقة انتلجنسيا أو طبقة المثقفين التنويريين، ووعي ونضج المجتمع الغربي المسيحي الذي عانى كثيراً من هيمنة الكنيسة وتغييب العقل، أيضاً أنّ الديانة المسيحية عندما تم تبنيها كديانة رسمية للإمبراطورية الرومانية في عهد الإمبراطور قسطنطين في القرن الرابع الميلادي كانت الإمبراطورية الرومانية على درجة من التحضر وسبقتها الحضارة اليونانية، وبالتالي ما آلت إليه أوروبا في القرون الوسطى من سيطرة الكنيسة على المجالين الديني والدنيوي شكل انتكاسة حضارية بالنسبة إلى ما كانت عليه قبل المسيحية .

هذا الوعي كرّس عند الجميع الثقة بالنفس والثقة بالشعب وقدرة هذا الأخير على حل مشاكله الدنيوية دون حاجة للاستنجاد بالربّ في كلّ صغيرة وكبيرة من أموره الدنيوية، وجعلته على ثقة بأنّ أُمور الدولة ونظام الحكم ومستلزماته الاقتصادية والاجتماعية  ذات طبيعة دنيوية تعود للناس وليس لمحددات سماوية، وأنّ ما فيه مصلحة الشعب ويرضى عنه الشعب سترضى عنه السماء ما دام الربّ يريد خير عباده  والربّ لا يمكنه إلّا أن يكون مبارِكاً لإجماع عباده  .

وقبل الاستطراد يجب التوضيح بأنّ علمانية الغرب المسيحي أعادت النظر ليس في الدين بحد ذاته ولكن في وضع الدين في المجتمع ووظيفته وعلاقته بالمجالات الحياتية الأخرى، كما أنّ الديمقراطية أعادت للمواطن الغربي إنسانيته، وأسست للمواطنة التي حدت من الطائفية والمذهبية والإثنية، وحوّلت العلاقة بين الحاكمين والمحكومين من علاقة راعٍ ورعية إلى المواطَنة التي ترتب حقوقاً وواجبات على الحاكم والمواطن، كما أنّها أعلت من شأن إرادة الأُمّة وحقّها في الثورة وفي تغيير حكامها، وجردت هؤلاء الأخيرين من حقّ احتكار الديني والمقدس أو التحدث باسم الإله، أي أنّها أسقطت الشرعية الدينية عن الحكّام .

أمّا في التجربة التاريخية الإسلامية لعلاقة الإسلام بالدولة وعلاقته بالديمقراطية فقد تباينت المواقف والرؤى وما زالت، وحول الموضوع انتظمت عشرات الندوات والمؤتمرات العلمية شارك فيها مثقفون وعلماء من كلّ المشارب السياسية والفكرية وقد تعاظم هذا النقاش في ظل فوضى الربيع العربي وخصوصاً حول الدولة المدنية.

إلى ما قبل صعود الإسلاموية السياسية كان الرأي الأكثر رجحاناً عدم وجود تعارض بين الإسلام وبناء الدولة الحديثة وبينه وبين الديمقراطية كنظام وآلية لتدبير حياة الناس داخل الدولة، أو إمكانية ولوج عالم الديمقراطية دون الاصطدام أو التعارض مع الدين الإسلامي حيث لكلّ منهما مجاله وطبيعته المختلفة عن الآخر، وكان مفكرو عصر النهضة العربية نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين الأكثر نضجاً في مقاربة هذه الإشكالات .

صعود الإسلاموية السياسية مع تنظيم القاعدة ثمّ تنظيم الدولة (داعش) وما مارساه عملياً في المناطق التي سيطروا عليها، وانفجار الصراعات الطائفية والمذهبية كشف أنّ الأُمور لم تُحسم بعد وأنّ كلّ ما قاله مفكرو وممثلو التيارات الإسلامية السابقون كانت مجرد وجهات نظر أو اجتهادات لا تُلزم إلّا أصحابها .

بالنسبة لإشكالية نظام الحكم وعلاقة الإسلام بالديمقراطية، هناك وجهة نظر إسلاموية ترى أنّ الديمقراطية نظام كافر من منطلق أنّها تموقِع الدستور الوضعي كمرجعية للأُمّة وتقول بأنّ الحكم للشعب، وهذا يتعارض مع مفهوم الحاكمية أو الحكمّية في الإسلام من وجهة نظرهم، كما أنّ اقتران الديمقراطية بالتجربة السياسية والحضارية الغربية وبالعلمانية كان وراء الحذر من الديمقراطية التي تعامل معها ونظر إليها كثير من الجماعات الدينية وكأنّها رديف للعلمانية والعلمانية رديف للإلحاد!!، وهذه الجماعات التي تتبنى الفكر الوهابي وتنظيم القاعدة وتنظيم داعش وغيرها بالإضافة إلى بعض الأنظمة كالعربية السعودية .

وهناك وجهة نظر أخرى لا ترفض الديمقراطية من حيث المبدأ ولكنّها ترى أنّ الديمقراطية موجودة في الإسلام من خلال مبدأ الشورى ووجهة النظر هذه ترى أنّه يمكن إيجاد مساحة للالتقاء والتعايش بينهما، وهذا الرأي تتبناه بعض الدول كالمغرب وتركيا وغيرها، وجماعات وشخصيات كحسن الترابي في السودان والريسوني في المغرب وحزب النهضة في تونس وجماعة الإخوان المسلمين مؤخراً.

بالرغم من كلّ ما جرى في السنوات الأخيرة فإنّه لا يمكن استبعاد الديمقراطية أو الإسلام عن إعادة بناء الدولة مجدداً والأمر ينطبق حتى بالنسبة للدول التي لم تصلها نيران فوضى الربيع العربي. إنّ الديمقراطية والشراكة السياسية للجميع شرط ضرورة لإعادة بناء الدولة في مرحلة ما بعد فوضى الربيع العربي، فهما ضمان الحياة الكريمة والحرّية بكلّ أشكالها وضمان احترام المعتقدات الدينية للناس وضمان ثقافة وهوية ودين الأغلبية، وليس حكم الفرد أو القلة التي تنصِّب نفسها ناطقة باسم الإسلام والمسلمين دون تفويض من أحد، أو باسم طائفة أو إثنية محددة .

لكن هذا لا يعني أن ننسخ النموذج الغربي في الديمقراطية والعلمانية، بل المطلوب تبيئتهما لتتوافقا مع ثقافتنا وخصوصيتنا، كما فعلت شعوب أخرى مثل اليابان وكوريا الجنوبية وبعض الدول الإفريقية بل ودول إسلامية أيضا كماليزيا، وتركيا إلى حد ما، فالديمقراطية لا تعني بالضرورة التغريب بل تحديث وحداثة للنظام السياسي، والعلمانية لا تعني محاربة الدين بل تنظيم العلاقة بينه وبين الدولة من خلال احترام وتنظيم مجالات تخصص كلّ منهما .

ارسال التعليق

Top