لم يكن دخول القيادة الفلسطينية مربع التسوية السياسية خطأ إستراتيجيا كبيراً من حيث منطق السياسة وضرورات التعامل مع متغيرات قاهرة تحتاج لمرونة سياسية وتعدّد في أساليب المواجهة، في المقابل فإنّ مقاومة الاحتلال لم تكن خطأ أو خروجاً عن منطق وسياق التحرّر الوطني، ولكن الخطأ كان في غياب إستراتيجية وطنية توافقية للتعامل مع نهج التسوية ومع اتفاق أوسلو والسلطة وليدة اتفاق أوسلو، أيضاً كان الخطأ في نهج المقاومة الفصائلية بدون إستراتيجية وطنية وتبعية بعض فصائل المقاومة لأجندة ومشاريع خارجية محل خلافات عربية وإسلامية، ثمّ في الانقسام الفلسطيني، حيث كان وما زال مبرر حركة حماس من وراء تمترسها بمواقفها هو رفضها لنهج منظمة التحرير في التفاوض مع الاحتلال ووقف المقاومة المسلحة .
وهكذا ومع كلّ يوم يمر إلّا ونستشعر المأزق والشِّرك الكبير الذي وقعت به حركة التحرّر الوطني الفلسطيني بداية بتوقيعها على اتفاقية أوسلو وقيام السلطة الفلسطينية دون وجود إستراتيجية وطنية شمولية للتعامل مع عملية التسوية ودون امتلاك الخطط الوطنية البديلة في حالة فشلها، ثمّ انحراف عملية التسوية والخلل في أداء السلطة، أيضاً الخلل في أداء معارضي اتفاق أوسلو وخصوصاً حركة حماس .
لم يكن اتفاق أوسلو مجرد اتفاق كبقية الاتفاقات التي تعقدها الدول مع بعضها البعض أو الاتفاقيات التي تعقدها حركات التحرّر الوطني وهي في أوج انتصاراتها مع دولة الاحتلال لترتيب كيفية جلاء جيش الاحتلال، وفي نفس الوقت لم تكن اتفاقية استسلام فلسطيني لدولة إسرائيل، كما لم تكن تعبّر عن نوايا صادقة من الطرفين الفلسطيني والإسرائيلي، بل كانت اتفاقية ملتبسة في أهدافها ونصوصها فرضتها ظروف قاهرة أهمّها ضغوط أمريكية لتحقيق أهداف أمريكية لها علاقة بتطوّرات حرب الخليج الثانية وتوجه واشنطن لإعادة قواعد التحكم في النظام الدولي الجديد بعد انهيار المعسكر الاشتراكي، بالإضافة إلى محاولة الالتفاف على وإجهاض قرارات المجلس الوطني في الجزائر 1988 التي تطالب بقيام دولة فلسطينية مستقلة على الأراضي الفلسطينية المحتلة عام 1967 .
بعد مرور ربع قرن على توقيع اتفاق أوسلو وبالرغم من التصريحات العلنية من الجميع بفشل اتفاق أوسلو إلّا أنّ مفاعيل اتفاق أوسلو ما زالت تحكم العلاقة بين إسرائيل والفلسطينيين وذلك من خلال وجود السلطة من وزارات ومؤسسات وأجهزة أمنية وجوازات سفر وتنسيق أمني وبروتوكول باريس الاقتصادي... إلخ، حتى حركة حماس عندما قررت الدخول في الانتخابات التشريعية يناير 2006 وعندما شكّلت منفردة حكومة، ثمّ شاركت بحكومة وحدة وطنية لسلطة الحكم الذاتي أي سلطة أوسلو وعندما تطلب اليوم من حكومة الحمد الله وهي حكومة سلطة الحكم الذاتي (سلطة أوسلو) رواتب لموظفيها... إلخ، فإنّ هذا يشكّل اعترافاً ولو ضمنياً باتفاقية أوسلو.
اليوم وبعد ربع قرن على توقيع الاتفاق تتباين المواقف وتغتم رؤية الحكم على الاتفاق ويمكن التطرق لثلاثة مواقف :
1- موقف الرفض المطلق لاتفاق أوسلو ومخرجاته
وأصحاب هذا الموقف يُخونون الاتفاق ومن وقعوه ويحمّلونه المسؤولية عن كلّ ما جرى ويجري من دمار للمشروع الوطني وأنّه قدَّم تنازلات كبيرة لإسرائيل دون أن يستفيد منه الفلسطينيون، وأنّه شجَّع كثيراً من الدول على أن تطبع علاقاتها مع إسرائيل. وهذا الفريق يضم فصائل من خارج منظمة التحرير كحركتي حماس والجهاد وفصائل من منظمة التحرير كالجبهة الشعبية والجبهة الديمقراطية وشخصيات مستقلة ومن داخل حركة فتح نفسها .
2- موقف الدفاع عن الاتفاق
مع أنّ هؤلاء يتآكلون مع مرور الوقت إلّا أنّ هناك مَن يدافع عنه ويعتبره اتفاق فرضته الضرورة ويمكن البناء عليه وخصوصاً فيما يتعلّق بوجود سلطة فلسطينية وبناء مؤسسات وبنية تحتية فلسطينية تشكّل قاعدة للدولة الفلسطينية القادمة، بالإضافة إلى أنّ الاتفاق سمح بعودة مئات الآلاف من فلسطيني الشتات، وهذا الفريق يضم قيادة منظمة التحرير وقيادة حركة فتح وبعض الفصائل الفلسطينية الصغيرة .
3- مواقف وسطية
وهؤلاء يرون أنّ المشكلة لم تكن في الاتفاق بحدِّ ذاته، بل بكيفية إدارة ملف التسوية وبالأخطاء التي صاحبته ويطالبون بخروج متدرج من الاتفاق وملحقاته، وهؤلاء يتزايدون كلّ يوم حتى داخل منظمة التحرير وحركة فتح وقد برزت هذه المواقف من خلال قرارات متعدّدة للمجلس المركزي لمنظمة التحرير تطالب بإعادة النظر ببعض مشتملات الاتفاق وملحقاته كالتنسيق الأمني وبروتوكول باريس الاقتصادي والاعتراف بإسرائيل، بل وترتفع مطالبات بحل السلطة.
أمّا إذا تحدّثنا عن الأخطاء التي ارتكبتها قيادة منظمة التحرير في التعامل مع نهج التسوية والتوقيع على اتفاق أوسلو والمخاطر التي نتجت عن ذلك فهي كما يلي :
1- القبول بدخول عملية التسوية في مدريد وأوسلو على أساس قراري مجلس الأمن 224 و338 فقط وتجاهل بقية قرارات الشرعية الدولية كقرار التقسيم 181 وقرار حقّ العودة 194 وعديد القرارات التي تتحدّث عن حقّ تقرير المصير للشعب الفلسطيني وحقّه بمقاومة الاحتلال إلخ. وهذا يتعارض مع إعلان قيام الدولة في الجزائر 1988 الذي قَبِل الدخول بعملية التسوية على أساس كلّ قرارات الشرعية الدولية. وعلى هذا الأساس فإنّ اتفاقية أوسلو ليست تطبيقاً لإعلان الاستقلال في الجزائر ولا تتفق مع المشروع الوطني، بل هي مجرد مشروع تسوية تنكرت له إسرائيل وكانت سبباً في فشله، وبالتالي لا تُلزم الاتفاقية وتوابعها الشعب الفلسطيني ولا تُمثِّل مرجعية وطنية ملزمة له .
2- تأجيل قضايا الوضع النهائي وهي قضايا إستراتيجية، ممّا جعل المفاوضات تشكِّل غطاء للاستيطان والتهويد في الضفة والقدس .
3- التباس صيغة الاعتراف المتبادل بين إسرائيل ومنظمة التحرير، حيث اعترفت منظمة التحرير بحقّ إسرائيل بالوجود دون ذكر لحدود إسرائيل، وكان يفترض أن يكون الاعتراف بإسرائيل في حدود ما قبل حرب حزيران 1967 مقابل اعتراف إسرائيل بدولة فلسطينية على حدود 1967، وكان من الأفضل أن يكون الاعتراف المتبادل كأحد مخرجات المفاوضات وبعد قيام دولة فلسطين، وكان نتيجة هذا الخطأ أنّ القيادة الفلسطينية اليوم في مأزق حيث استمرار اعترافها بإسرائيل يعني قبولها بقانون القومية اليهودي .
4- تهميش منظمة التحرير لصالح السلطة .
بدلاً من أن تكون السلطة الوطنية أداة بيد منظمة التحرير للتعامل مع عملية التسوية فيما يخص فلسطينيي الداخل، وتبقى المنظمة ممثّلة لكلّ الشعب الفلسطيني ومرجعية جامعة يمكن الرجوع لها إذا ما فشلت عملية التسوية، بدلاً من ذلك جرت عملية تهميش مقصودة لمنظمة التحرير وتمّ اختزال الشعب الفلسطيني بفلسطينيي الداخل وأصبحت منظمة التحرير مجرّد ملحق بالسلطة الوطنية بدون سلطة اتّخاذ قرار، ومن السلطة تتلقى المنظمة الموازنة ورواتب العاملين فيها بالإضافة إلى وجود أحزاب خارج المنظمة بل وتنافسها على تمثيل الشعب .
5- تجاهل فلسطينيي الشتات .
وهؤلاء أحد جناحي الثورة الفلسطينية ومخزون بشري ونضالي كان من الممكن توظيفهم بشكل أفضل لمقارعة إسرائيل في المحافل الدولية وفي التأثير على الدول المضيفة .
6- الصراع على السلطة بدلاً من الوحدة الوطنية في مواجهة الاحتلال .
لأنّ اتفاق أوسلو أسّس سلطة فهذا أدَّى للصراع بين الأحزاب على السلطة بدلاً من التوحّد في مواجهة الاحتلال، وهذا ما أدَّى للمواجهات بين السلطة الوطنية وحركة حماس، ثمّ سيطرة حركة حماس على قطاع غزة وتشكيلها سلطة وحكومة خاصتان بها .
7- كسر حالة العداء أو تمييعها بين الشعب ومغتصبي أرضه .
وهذا أمر خطير لأنّ استمرار حالة العداء للخصم وتعبئة الشعب ضده يعتبر أحد أدوات المواجهة وحصانة للشعب من الاختراق الفكري والثقافي ومنع التطبيع مع الاحتلال. وهكذا نلاحظ أنّه في الوقت الذي التزمت به السلطة بعملية التسوية بما في ذلك التنسيق الأمني ووقف التحريض، استمرت إسرائيل على نهجها المعادي للسلام وللاعتراف بحقوق الشعب الفلسطيني واستمرت من خلال ساستها ومستوطنيها تمارس الإرهاب وتحرّض على الشعب الفلسطيني وقياداته وتتهمهم بالإرهاب .
8- تزاوج السلطة والثروة سواء في الضفة أو غزة .
بسبب التحوّلات التي طرأت على النُّخب السياسية وبسبب تعثر عملية التسوية وتراجع خيار المقاومة، فقد سادت قناعات عند كثيرين من النُّخب السياسية بأنّ السلطة هي نهاية المطاف لذا تعاملوا مع السلطة ليس كأداة نضالية، بل كمصدر للرزق ومراكمة الثروة، وتشكّلت نُخب سياسية اقتصادية في الضفة وغزة راكمت الثروات وأصبحت مستعدة للقتال من أجل السلطة حفاظاً على مصالحها الشخصية .
9- تحويل الفدائيين والثوار إلى موظفين وكَتَبة يتقاضون رواتب من سلطة تموَّلَ من الخارج، وتحت إشراف ورقابة الاحتلال!.. بدأ الأمر مع مناضلي حركة فتح وفصائل منظمة التحرير، ثمّ انتقل لمجاهدي حركة حماس .
10- قطع طريق العودة لنهج المقاومة .
لأنّ السلطة حلت محل حالة التحرّر الوطني ولأنّ حركة فتح تحولت لحزب سلطة في الضفة الغربية وحركة حماس تحولت لسلطة في قطاع غزة، فإنّ المقاومة حتى السلمية منها باتت تتعارض وتهدّد مصالح السلطتين الحاكمتين لأنّ المقاومة تستدعي تدخل جيش الاحتلال ممّا قد يؤدِّي لإنهاء السلطتين، وبالتالي أصبحت السلطة والحفاظ عليها عائقاً أمام مهمّة المقاومة والتحرير .
وأخيراً، فإنّ الحديث عن فشل اتفاق أوسلو يحتاج لمراجعة لأنّ ما فشل هو المراهنة الفلسطينية بأن تؤدِّي تسوية أوسلو إلى قيام دولة فلسطينية مستقلة كما تضمن إعلان الاستقلال في الجزائر 1988، وما فشل هو حل الدولتين المرتبط بخطة خارطة الطريق المحدَّدة بفترة تمتد لعام 2005 وبالرباعية الدولية، ولكن لم يفشل اتفاق أوسلو حسب الرؤية الأمريكية والإسرائيلية وما كانوا يخطّطون له من وراء تحريك عملية التسوية مع مدريد ثمّ أوسلو، واليوم تجري عملية تحويل مخرجات أوسلو لتسوية جديدة تسمى صفقة القرن .
مقالات ذات صلة
ارسال التعليق