• ١٩ نيسان/أبريل ٢٠٢٤ | ١٠ شوال ١٤٤٥ هـ
البلاغ

صفات السائر في طريق الحقّ والعدل

صفات السائر في طريق الحقّ والعدل

◄عن الخطبة التي خطبها أمير المؤمنين عليّ (ع) وهو يتحدَّث عن فريقين من الناس، ثمّ يتحدَّث عن نفسه وعن أهل بيته.

التحرّر من الشهوات

وكان الحديث عن الفريق الأوّل، وهو الفريق السائر على طريق الحقّ، والذي يمثِّله العبد الذي استشعر الخوف، وقد تقدَّم الحديث عن ذلك، حتى قال: «قد خلع سرابيل الشهوات، وتخلَّى عن الهموم، إلّا هـمّاً واحداً انفرد به». فمن بين صفات هذا الإنسان، أنّه الإنسان الذي تحرّر من ضغط شهواته، وهذا لا يعني أن يترك كلَّ شهواته، لأنّ الشهوات التي تمثِّل غرائز الإنسان هي من شروط استمرار حياته، فالإنسان يعيش شهوة الأكل ليسدَّ حاجة الجوع، وشهوة الشَّراب ليسدَّ حاجة الظّمأ، فالأكل هو الذي يمسك عليه حياته، لما تحتاجه حياته من العناصر الموجودة في الغذاء؛ تلك العناصر التي تحتاجها كلّ أجهزة جسمه، وهكذا بالنسبة إلى الماء، (وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلا يُؤْمِنُونَ) (الأنبياء/ 30)، فلا يحيا بدونه، وهكذا بالنسبة إلى شهوة الجنس التي يحتاجها الإنسان، التي يتوقّف عليها توازن حاجاته الجسدية من جهة، واستمرار الحياة بشكلٍ طبيعيٍّ من جهةٍ أُخرى، وهكذا بالنسبة إلى الغرائز التي في مقدَّمها غريزة حبّ الذات، وهي الغريزة التي تجعل الإنسان يتطوَّر ويندفع، للمحافظة على حياته، وللحصول على ما يرفع مستواه وما يُغني حاجاته، حتى إنّ حبَّ الذات يجعله يطيع الله أكثر، ليحصل على السعادة في الآخرة، لذلك، لا نعتبر حبَّ الذات أمراً سيِّئاً في ذاته، بل يختلف في حركته حسب اختلاف اتجاهاته، ولم يرد الإسلام أن يلغي شهوات الإنسان، بل أراد له أن يأخذ بها، لأنّها من العناصر الحيويّة لجسده ووجوده. غير أنّ هناك فرقاً بين ممارسة الشهوات بطريقةٍ متوازنةٍ من خلال أنّها حاجة، وأن تُمارس الشهوات لتسقط تحت تأثيرها، بحيث تتجاوز الشهوات مبادئك، فإذا وقفت بين ممارسة القيم الروحيّة والأخلاقيّة وحاجات الشهوة، فإنّك تسقط أمام حاجات الشهوة وتلغي كلَّ قيمك، هنا التحفّظ على الشهوات وهنا الإشكاليّة.

همُّ الآخرة أوّلاً

يقول أمير المؤمنين عليّ (ع) في خطبته: «قد خلع سرابيل الشهوات»، بمعنى أنّه لم يجعل الشهوات ثوباً يلبسه، بحيثُ يحيط كلَّ حياته، لتكون حياته واقعةً تحت ضغط شهواته. والإسلام كما ذكرنا، يريد لك أن تملك نفسك، وهو ما أكَّدته الأحاديث، إذ ورد أنّه «ليس الزُّهد أن تملك شيئاً، بل الزُّهد أن لا يملكك شيء»، فهناك فرقٌ بين أن تكون سيِّدَ نفسك وبين أن تكون عبد نفسك، كن عبد الله ولا تكن عبد الشهوة، لأنّها تجرّك إلى كثيرٍ من المزالق، وتوقعك في المخاطر.

«وتخلّى عن الهموم، إلّا همّاً واحداً انفرد به»، فهو تحرّر من الأُمور الطارئة التي تملأ حياة الإنسان، ولكلٍّ منّا همومه؛ هموم الحاجات، وهموم الشهوات، وهموم المطامع، تلك الهموم التي تختصرها كلمة «هموم الدُّنيا».

هنا يقول (ع) عن هذا الإنسان إنّه تخلَّى عن الهموم، بمعنى أنّه لم يجعل الهموم تُحاصر حركته في الحياة، لتشغله عن مسؤولياته وعمّا يقبل عليه أمام ربِّه، بل إنّه يُمارس هذه الهموم كحالاتٍ طارئةٍ في حاجاته، يأخذ منها بالمقدار الذي يحقِّق فيه حاجاته، فإذا لم تتحقَّق تركها وراءه، لأنّ هذه الهموم لا تعنيه بقدر ما يعنيه الهمّ الأساس؛ ذلك الهمّ الذي انفرد به، وهو همّه فيما بعد الموت، وهمّه برِضا الله، وهمّه بالنجاة عندما يقف بين يدي الله سبحانه وتعالى.

وهذا ما عبَّر عنه الإمام (ع) في كلمته لابن عبّاس: «فلا يكن أفضل ما نلتَ في نفسك من دُنياك بلوغ لذّة أو شفاء غيظ»، بمعنى أن لا يكون همّك وطموحك في حياتك أن تبلغ لذاتك أو تشفي غيظك ممّا أغاظك أو ممّن أغاظك، «فليكن سرورك فيما قدَّمت» من عملٍ صالح، وقد قال الله تعالى: (وَمَا تُقَدِّمُوا لأنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللهِ) (المزمل/ 20)، «وليكن أسفك على ما فرَّطت» من الفرص التي ضاعت وكان بإمكانك أن تربح بها خير الدُّنيا والآخرة، «وليكن همّك فيما بعد الموت»، لأنّ ما بعد الموت يمثِّل المصير، وعلى الإنسان أن يكون كلّ همِّه في سلامة مصيره، فيحرّك حياته وكلّ ما يشغله في إطار همّه الرئيس، بحيث لا تغلب عليه الهموم الأُخرى. وقد تحدَّث الله سبحانه وتعالى عن قوم قارون وهم يخاطبون قارون، (إِذْ قَالَ لَهُ قَوْمُهُ لا تَفْرَحْ إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ) (القصص/ 76)، أي لا تبطر ولا يأخذك الكبرياء والبطر، (وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللهُ الدَّارَ الآخِرَةَ وَلا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا) (القصص/ 77)، بمعنى أن تتحرّك في الدُّنيا من خلال حاجات الدُّنيا التي تُحقِّق لك استمرار حياتك بطمأنينة، من غير أن تكون الدُّنيا همّك، فالدُّنيا حاجة لك وليست رسالة أو غاية، لأنّك سرعان ما تتركها.

«وتخلّى عن الهموم إلّا همّاً واحداً انفرد به، فخرج من صفة العمى»، فهو عندما خلع ثياب الشهوات، وتخلّى عن الهموم إلّا همّ رِضا مولاه، أبصر وانفتحت بصيرته على الحقيقة، وعلى آفاق الخير، وعلى ما يدفعه إلى القُرب من الله سبحانه وتعالى، فتحرّر من صفة العمى وأصبح من المبصرين، «ومشاركة أهل الهوى»، أي خرج من مشاركة أهل الهوى، لأنّه انطلق من خلال دينه ومبدئه ورسالته، وتحرّر من قيودهم، لأنّ تلك القيود تجعلهم يتحرّكون مع أهوائهم، وهي تتّجه بهم ساعةً نحو اليمين، وتلقي بهم ساعةً أُخرى صوب الشمال، فهم أسرى هذه الأهواء، يميلون معها حيث تميل. وقد قال الشاعر: «إذا الريح مالت مال حيث تميل». وقد قال عليّ (ع) يصف أهل الهوى: «همجٌ رعاع أتباع كلِّ ناعق، يميلون مع كلِّ ريح، لم يستضيئوا بنور الحقّ، ولم يلجأوا إلى ركنٍ وثيق».

الدليل إلى الهدى

ويُتابع الإمام عليّ (ع) فيقول: «وصار من مفاتيح أبواب الهدى»، فهو لم يتحرّر من الأهواء، ولم يُفارق العمى وحسب، بل تحوّل إلى موقفٍ إيجابيّ في خطِّ حركة الرسالة في حياته، فأصبح صاحب رسالة، «وصار من مفاتيح أبواب الهدى، ومغاليق أبواب الرَّدى»، وعندما يُمسك الإنسان هذا المفتاح، فهو يملك أن يفتح للناس أبواباً تدخلهم إلى الهدى، وإلى ساحات الخير والحقِّ والعدل، وهي الساحات التي تدلّهم على الله وتدخلهم في طاعته، «ومغاليق أبواب الرَّدى» التي تقود الناس إلى الهلاك، حتى لا يدخل الناس أبواباً تؤدِّي بهم إلى الهلاك. وهذا يعني أنّه لا يكفيك أن تمنع نفسك عن الشرّ، بل لابدّ من أن توجِّهها نحو الخير، وعليك أن لا تترك أهل الهوى لتعيش وحدك، بل لابدّ لك من أن تتحرّك مع مجتمع الهدى، فلا تقف على الحياد بين أهل الهدى وأهل الهوى، بل عليك أن تكون مع الحقِّ ومع أهل البصيرة، فمن ترك الهوى وترك العمى انطلق إلى البصيرة. وقد قالها الإمام موسى الكاظم (ع): «لا تقل أنا مع الناس، وأنا كواحدٍ من الناس، إنّ رسول الله قال: يا أيّها الناس، إنّما هما نجدان ـ طريقان ـ نجد خير ونجد شرّ، فلا يكن نجد الشرّ أحبَّ إليك من نجد الخير».

ثمّ يقول الإمام عليّ (ع) في وصفه: «قد أبصر طريقه»، فهو عندما خرج من صفة العمى صار مبصراً، وبذلك أبصر طريقه، لا بعينه بل بقلبه، كما في قوله تعالى: (فَإِنَّهَا لا تَعْمَى الأبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ) (الحجّ/ 46)، وقال تعالى: (قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيراً * قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى) (طه/ 125-126)، نسيتها، أي عميت عنها وصرت أعمى، لأنّك عشت أعمى القلب وإن كنت مبصر العين.

«وسلكَ سبيله»، فقد أبصره ودعاه إلى أن يسلك هذا الطريق، «وعرف مناره»، يعني عرف ما ينير له الطريق، «وقطع غماره»، أي أنّه قطع الغمار، والغمار في اللغة معظم البحر، ويعني أنّه عَبَرَ بحار المهالك إلى سواحل النجاة.

«استمسك من العرى بأوثقها»، والعرى ما يتمسّك به، وقد قال الله تعالى: (وَمَنْ يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى وَإِلَى اللهِ عَاقِبَةُ الأُمُورِ) (لقمان/ 22)، فهو استمسك بأوثق العُرى وبأقواها، «ومن الحبال بأمتنها»، ومن أراد أن يتمسّك بحبل النجاة، فلابدّ له من أن يتمسّك بحبلٍ متين وإلّا انقطع وتردَّى. وحال المؤمن هنا كما وصف الإمام عليّ (ع)، أنّه يتمسّك بحبلٍ متين لينقذه من الرَّدى والهلاك.

ثمّ يُعقِّب (ع) فيقول: «فهو من اليقين على مثل ضوء الشمس»، يعني عندما أبصر طريقه وسلك سبيله وانفتح على الهدى، فإنّه عرف الحقيقة؛ عرف حقيقة الموقف، وحقيقة الغاية، وحقيقة الإيمان، وعرف حقيقة موقعه من ربِّه ومقام ربّه، وبذلك أصبح من اليقين على مثل ضوء الشمس، فلم تكن له أيّة حالة ضبابيّة في إيمانه، ولا في أهدافه وغاياته وما إلى ذلك، وقد آل به اليقين إلى أنّه «قد نصَّب نفسه لله سبحانه»، يعني صار جنديّاً من جنود الله ووليّاً من أوليائه ومن حزبه، والإنسان الذي ينفتح على الله سبحانه وتعالى من الأُفق الواسع، لأنّه أبصر ربَّه ببصيرته وعرف مقامه، «قد نصَّب نفسه لله سبحانه في أرفع الأُمور»، فهو عندما يرتبط بالأُمور الرفيعة التي ترقى إلى المستوى الأعلى في أهداف الإنسان، يصبح مؤهَّلاً لأن يتبوَّأ موقع المتيقّن، «من إصدار كلّ ورادٍ عليه»، فهو كلَّما ورد عليه سؤال يسأله عنه الناس، يعلِّمهم ويرشدهم ويجيبهم بما يتَّفق ووجهه وحقيقته، وقد ورد أنّه «ما أخذ الله على الجهَّال أن يتعلَّموا، حتى أخذ على العلماء أن يعلِّموا»، وقد ورد: «إذا ظهرت البُّدع في أُمَّتي، فليُظهر العالم علمه، فمن لم يفعل فعليه لعنة الله»، «وتصيير كلّ فرع إلى أصله»، يعني قد بلغ من الثقافة موقعاً ودرجةً تؤهّله لأن يردَّ الفروع إلى أصولها، وذلك شأن الفقيه الذي يعرف أصول الشريعة، فيُحاول أن ينفتح ويتعمَّق في هذه الأُصول من الكتاب والسنّة والعقل وما إلى ذلك من الأدلّة، ليردَّ الفروع إلى الأُصول، ويجيب عن أسئلة الناس ممّا يبتلون به في حياتهم العامّة والخاصّة.

صفات الإنسان المؤمن

«مصباح ظُلمات»، فيكون هذا الإنسان الذي استطاع أن يربِّي نفسه ويثقِّفها بمثابة المصباح في الظُّلمات، لينير للناس طريقهم في ظُلمات الجهل والتخلُّف والشُّبهات وما إلى ذلك، «كشَّاف غشاوات»، فإذا واجهت الناس الشُّبهات، وضغطت عليهم كلّ غشاوات الجهل والضلال، وأغشت عيونهم عن النظر إلى الحقِّ، فإنّه يتحمَّل عناء كشف هذه الغشاوات التي تغشي عيون الناس وتحجب عنها ضوء الشمس.

«مفتاح مُبهمات»، فإذا واجه الناس الأُمور المُبهمة وغير الواضحة، وأرادوا مَن يفتح لهم هذا المُبهم ليوضِّحه لهم وليعرِّفهم طبيعته وأسراره، فإنّ هذا الإنسان وأمثاله هو المؤمِّل لفتح المُبهم وفكّ رموزه ومغاليقه، ليدخل الناس في الوضوح.

«دفّاع معضلات»، بمعنى إذا هجمت المعضلات ـ الأُمور المعضلة ـ والأُمور المعقَّدة، وأخذت تداهم حياة الناس وتحيِّر الناس في كيفيّة حلّها والخروج منها، فإنّه من خلال إحساسه بالمسؤولية، ومن خلال معرفته بالأُمور المعقَّدة، يتصدَّى لدفع هذه المعضلات عن الناس، فيشعر الناس بالراحة والطمأنينة والسَّكينة.

«دليل فلوات»، والفلوات ـ في اللغة ـ الصَّحارى، وفي مثلها يحتاج إلى الدليل؛ ذلك الدليل الذي يدلّ الإنسان على الطريق، حيث الرِّمال تملأ الساحات كلّها، فلا يعرف الإنسان طريقه، والمقصود هنا من الفلوات؛ فلوات الجهل وصحارى الضلال، فيُصبح هذا الإنسان دليلاً في مثل هذه الصحارى، ينقذ الناس من المتاهات وينصب لهم العلامات.

«يقول فَيُفهِم»، فهو إن تحدَّث مع الناس، تحدَّث بوضوح وبما يفهمهم، وليس له همٌّ إلّا أن يكونوا في وضوح، إذ ليس من العبقرية أن يتحدَّث الإنسان بما لا يفهمه الناس، ولا أدلّ على ذلك من كلام الله في كتابه الكريـم، وقد أنزل بلسان عربيّ مبين، ووفق أصول ومحاورات أهل اللغة واللسان.

«ويسكت فيسلم»، فإنّه يسكت عندما يكون الناس في غير حاجةٍ إلى الكلام، أو عندما يؤدِّي الكلام إلى خلق مشكلةٍ له ومشكلةٍ للناس، فإنّ الصمت في كثيرٍ من الحالات يمثِّل قيمةً فكريةً للإنسان، لأنّ الإنسان يصمت هنا ليفكِّر، لأنّه إن تكلَّم بلا تفكير، فهو يفقد فرصة تعميق كلامه، ولذا قالوا: «إن كان الكلام من فضة فالسكوت من ذهب»، وإنّما عُدَّ السكوت من ذهب لجهتين، من جهة أنّه قد يسكت لدفع ما يمثِّله الكلام من مشكلةٍ له وللمجتمع، وقد يصمت من جهةٍ أُخرى ليستجمع فكره، ولكي يحرّكه في استخراج المعاني من خلال عمقها ومن خلال الحاجة إليها.

«قد أخلص لله فاستخلصه»، أخلص لله في فكره وعقله وقلبه وإحساسه وعمله، ولمّا عرف الله منه الإخلاص استخلصه، بمعنى قرَّبه واستخلصه لنفسه فجعله من أوليائه، «فهو من معادن دينه»، فأصبح يمثِّل قاعدةً من قواعد الدِّين، باعتبار أنَّه يمثِّل المعدن، وهو الذي يتميَّز بالخصائص الأساسية التي تغني الإنسان، وهذا هو شأن المعادن، «وأوتاد أرضه»، وهي التي تثبت الأرض، كما في قوله تعالى: (وَالْجِبَالَ أَوْتَاداً) (النبأ/ 7)، فكما تحتاج الأرض أوتاداً مادّية تثبّتها حتى لا تهتزّ ولا تنهار، فنحن بحاجةٍ إلى أوتادٍ إنسانيةٍ تثبّت العقول والنفوس وتثبّت الحقّ في مواقعه، حتى لا يهتزَّ أمام الشبهات وأمام التحدّيات.

«قد ألزم نفسه العدل»، لأنّه رأى في العدل رسالة الله إلى الناس، وقد قال تعالى: (لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ) (الحديد/ 25)، والقسط هو العدل، «فكان أوّل عدله نفي الهوى عن نفسه»، لأنّه لابدّ للإنسان من أن يعدل مع نفسه أوّلاً، فلا يظلم نفسه، ولا يسير بها نحو الهلاك، (وَمَا ظَلَمُونَا وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ) (البقرة/ 57). وفي دعاء كميل، يقول الإمام عليّ (ع): «ظلمتُ نفسي، وتجرَّأتُ بجهلي، وسكنتُ إلى قديم ذكرك لي ومنِّك عليّ»، فهذا هو أوّل عدله، وهو عدله مع نفسه، فاستقامت في الطريق المستقيم الذي يدفعها إلى النجاة. وهو إن عدل مع نفسه، فإنّه يفكِّر من خلال ذلك أن يعدل مع الناس، لأنّ الإنسان الذي يظلم نفسه ينطلق من خلال هوى نفسه، وهو إن منع الناس حقوقهم، فهو يلبّي رغبة نفسه الظالمة لنفسه أوّلاً، وإن نفى الهوى عن نفسه، أصبح منفتحاً على الحقّ، مستعصياً على الهوى، فيُعطي الناس حقوقهم.

«يصف الحقَّ ويعمل به»، فهو ليس ممّن يقول ولا يفعل، ويتحدَّث عن الحقِّ ويتنكَّر له، بل هو أولى بالحقّ، وقد تحدَّث الله على لسان نبيّه (ص): (وَأُمِرْتُ لأنْ أَكُونَ أَوَّلَ الْمُسْلِمِينَ) (الزّمر/ 12)، يعني أدعو الناس إلى الإسلام، وأكون أنا أوّل المسلمين الذين يتحرّكون في خطِّ الإسلام في الطريق إلى الله، «لا يدع للخير غايةً إلّا أمَّها»، يعني قصدها، «ولا مظنّةً إلّا قصدها»، فأيّ شيءٍ يظنّ به خيراً قصده، فهو في تفتيشٍ دائمٍ عن الخير.

«قد أمكن الكتاب من زمامه»، يعني جعل زمام نفسه ومصير حركته في الحياة وانطلاقته فيها من الكتاب الكريم، «فهو قائده وإمامه»، فقد استنار بالقرآن واستنطقه وفعَّله في حياته، فكان إمامه الذي يهتدي بهداه، وليس كالذي يفرض رأيه على الكتاب فيحرّفه عن مواضعه، «يحلّ حيث حلَّ ثقله»، بمعنى أنّه يحلّ أينما حلَّ الكتاب بأوامره ونواهيه، فيأتمر بأوامره، وينتهي عن نواهيه، «وينزل حيث كان منزله»، فلا يُفارق الكتاب الكريم في صغيرة ولا كبيرة.►

ارسال التعليق

Top