• ٢٩ آذار/مارس ٢٠٢٤ | ١٩ رمضان ١٤٤٥ هـ
البلاغ

علم الوراثة وعلم الأخلاق البيولوجي

علم الوراثة وعلم الأخلاق البيولوجي
                                في متاهات علم الوراثة لقد وصلتني أخبار النعجة "دوللي" عبر البرامج التلفزيونية، وبالنسبة لمن اشتغل طوال حياته بعلم الأجنة وعلم الوراثة، لم يكن الخبر يقينا أو مقنعا، ولذا ففي اليوم التالي دخلت إلى شبكة الإنترنت وتأكدت أن "دوللي" بالفعل موجودة – حيث قام عالم الأجنة الاسكتلندي يان فيلموت، وهو مدير المعامل بجامعة روسلين، بنشر المقال في مجلة (Nature) ذات السمعة الجيدة، في ذلك المقال، أعلن أنّه اخترع طريقة لاستنساخ (Cloning) الحيوانات، وهي التي كانت أساساً للحصول على النعجة التي تتكون من مادة وراثية لنعجة أكبر منها، بعد ذلك أعلن فيلموت أنّه من الممكن على المستوى التقني تحقيق عملية استنساخ حيوي للإنسان رغم ما سوف يكون في ذلك من مشكلات أخلاقية وقيمية وقانونية متعلقة بالتحكم في الأجنة البشرية، وبدا أنّه قد انفتحت أمام علم الوراثة آفاق جديدة ومغرية، وأخذ العلماء يفكرون في مشروعات كونية عامة شاملة، ويناقشون في جدية الجانب الأخلاقي للقضية، أما النشطاء وأصحاب الهمة "مملو ومخططوا العلوم" فقد اندفعوا في منافسة حامية لتوفير الأموال من أجل هذه المهمة. أما الموظفون الكبار من لجنة الجيوبولوتيكا بمجلس الدوما "البرلمان الروسي" والذين لا يفقهون أي شيء، فقد أعلنوا رسميا أنهم على استعداد تام لتمويل الأبحاث والتجارب التي يمكن أن تكون من نتيجتها بعد عامين عملية الاستنساخ الحيوي للحيوانات والبشر، المدهش هو أنّه كيف يمكن لمجلس الدوما أن يخطط لذلك الإهدار المتهور والصبياني غير المسؤول لموارد الدولة والتي يمكن أن تستخدم بشكل أكثر جدوى ومنفعة لدعم المشروعات العلمية المهمة والواقعية، ولكن لسبب ما لم يهتم أي أحد بأنّه حتى وإن كان كل شيء على ما يرام لدى فيلموت، فإن نسبة الناتج من الحيوانات المولودة كانت قليلة جدّاً – نعجة واحدة فقط من 36 محاولة، فماذا حدث للبقية؟ ولدت البقية مشوهة، ثمّ ماتت؟ إذن فأين، على وجه الخصوص، العشيرة (Clone)، أو السلالة التي تفترض وجود العديد من النسخ؟ وهل فعلا كان كل شيء لدى فيلموت على ما يرام، وأنّه فعلا حصل على ما نفخت في أبواقه التلفزيونات ووسائل الإعلام المتحمسة؟ في أحد أعداد مجلة (Science) المعروفة ظهر مقال للدكتور فيتوريو سجاراميللا من جامعة كالابري "إيطاليا" والدكتور نورثون زايندر من جامعة روكفلر الشهيرة "الولايات المتحدة الأمريكية" ورأى كل منهما أنّه لم يتم تقديم البراهين المقنعة بأن دوللي هي ناتج لعملية الاستنساخ الحيوي، إضافة إلى ذلك، اتضح أن ثلاثة من كبار الباحثين العاملين في هذا المجال حاولوا إعادة إجراء تجارب فيلموت، ولكنهم فشلوا! ويشير مؤلفا هذا المقال إلى احتمال خطأ علماء الأجنة الاسكتلنديين. المسألة في أنّ النعجة التي أخذوا منها الخلية الجسدية من أجل إنتاج دوللي، كانت حاملاً، والمعروف أنّ الخلايا الجينية "خلايا الجنين" لدى بعض الحيوانات يمكنه أن تقع في الجهاز الدوري "في مجرى تيار الدم"، وقد اعترف فيلموت أنّه اغفل تماماً هذا الظرف، ولم يستبعد إمكانية حدوث مثل هذا الخطأ التقديري في تجاربه، ومنذ فترة قريبة أثبتت الأبحاث الوراثية الجزيئية أن دوللي – هي نعجة مستنسخة، وبالتالي يمكن رفع الاعتراضات المقدمة ضد هذا الأمر. بيد أنّ الأخبار العديدة من نوع أنّه في اليابان تم الحصول على عشيرة من البشر، أو أن هناك قطيعاً من الأبقار المستنسخة يرعى في مكان ما، إما أنها أخبار مغلوطة أو عملية تضليل مقصودة، وعلى أية حال، ففي الأدبيات العلمية الجادة لا توجد إثباتات وبراهين لمثل تلك الأخبار، ومع ذلك فلم يقف الأمر عائقاً أمام عملية الاستنساخ، بل وجعلها موضوعاً رائجاً لا يجتذب اهتمام المتخصصين فقط، وإنما أيضاً شرائح واسعة من الجماهير العادية. إنّ التعريف السائد في العلم لعملية الاستنساخ الحيوي هو: إعادة الإنتاج الدقيقة لهذا الكائن الحي أو ذاك في عدد معين من النسخ، ومن الطبيعي تماماً أن جميع هذه النسخ يجب أن ترث صفات متشابهة، أي تحمل مجموعة جينات مماثلة بالضبط لجينات "الكائن الذي ولدها" خلافاً للحالات التي تحدث عن طريق التناسل الطبيعي الذي يتم فيه امتزاج المواد الجينية للوالدين في كل فرد بالسلالة وبشكل مختلف. وفي مجموعة الحالات التي حدثت لم تستدع عملية الحصول على عشيرة من الحيوانات أية غرابة أو دهشة، وتعتبر إجراء روتينياً على الرغم من أنّه ليس هكذا سهلا أو بسيطاً. فعلماء الوراثة يتوصلون إلى ذلك باستخدام الكائنات القادرة على التناسل ليس فقط عن طريق الأجهزة التناسلية، وإنما أيضاً عن طريق التوالد العذري، أي من دون عملية إخصاب مسبقة، ونظرا لأنّه يتم التحكم في هذه العملية بشكل جنيني، فمن الممكن إنشاء خطوط تجري فيها عملية التكاثر عن طريق التناسل فقط. ومن الطبيعي أن أولئك الأفراد، الذين سينمون من سلالة هذه الخلية الجنسية الأولية أو تلك، سوف يصبحون من الناحية الوراثية متطابقين ويمكنهم أن يشكلوا عشيرة أو سلالة. وفي بلادنا، على سبيل المثال، توجد الأبحاث الرائعة في مجال هذا النوع من الاستنساخ والتي يقوم بها الأكاديمي فلاديمير ألكسندروفيتش سترونيكوف على دودة الحرير بمساعدة الطريقة الخاصة التي ابتكرها، وعشائر دودة الحرير التي سيقوم بإنتاجها تتمتع بشهرة واسعة في العالم كله. بيد أنّه يشير إلى أنّ الأفراد المستنسخين لا يتطابقون مع بعضهم بعضاً، وإنما يكونون متنوعين ومختلفين على مستوى مجموعة كاملة مما يسمى بالمميزات الكمية أو الأصلية – بالنسبة لحجم الإنتاج وكثرة النسل، وهذا التنوع والاختلاف في سلسلة العشائر يكون كثيراً، بل وأكبر مما في مجموعة الخصائص العادية المتنوعة وراثياً والموجودة في هذا النوع أو ذاك من الكائنات. هناك أيضاً طرق معينة في علم الأجنة للحصول على العشائر والسلالات، فلو قمنا بتجزيء صناعي لجنين القنفذ البحري، وهو مازال في مرحلة الانقسام المبكرة، إلى الخلايا الأولية المكونة له الخلايا الأرومية (blastomerus)، فسوف ينمو من كل واحدة كائن كامل. ولكن أثناء النمو اللاحق تفقد الخلايا الجينية تلك الإمكانية الرائعة وتصبح مخصصة، أي غير بكرية (بمعنى أنها معدة للعمل) ومن الممكن أيضاً استخدام نواة ما يسمى بالخلايا الجينية الجذعية من أي جنين مبكر، على ألا يكون قد تم إعداد هذه الخلايا إطلاقاً أو تجهيزها للعمل، أي تكون غير مخصصة (وسوف تكون سلالتها بهذا الشكل أيضاً). تلك النواة تزرع في خلايا البويضات التي أزيلت منها نواتها الأصلية، وبنمو تلك الخلايا البويضية في الكيانات الجديدة، يمكنها أيضاً أن تكون مرة أخرى عشيرة حيوانات متطابقة من الناحية الوراثية. ولدى الإنسان أيضاً حالة استنساخ "طبيعية" معروفة ولها خصوصيتها – وهي ما يسمى بالتوائم ذات البويضات الواحدة، والتي تتكون بفضل الانقسام الطبيعي الذي يحدث بشكل نادر للخلية البويضية المخصبة إلى خليتين منفصلتين تماماً عن بعضهما بعضاً، ومن ثمّ إلى خليتين أروميتين تنمو كل منهما بشكل ذاتي. تلك الخلايا تكون متشابهة جدّاً مع بعضها بعضاً ولكنها على أيّة حال لا تكون أبدا متطابقة. إلا أنّ الحديث في الوقت الحاضر يدور حول نوع آخر من عمليات الاستنساخ، وتحديداً حول الحصول على مجموعة من النسخ المتطابقة تماماً من هذا الحيوان البالغ أو ذاك عن طريق زرع نواة خلية جسدية لكائن واحد بالغ في خلية بويضية تم انتزاع نواتها الأصلية مسبقا. حيث يكون هذا الحيوان البالغ متمتعا بصفات ما نوعية مهمة (على سبيل المثال، رقم قياسي في إدرار اللبن، أو نوعية عالية من فروة الصوف.. إلخ). ومن الممكن أن يكون عالماً أو سياسياً أو فناناً يمثل قيمة كبيرة للإنسانية نتيجة، ولنقل مثلا، عبقريته. وهنا تحديدا تظهر العقبات الكثيرة والصعوبات الهائلة جدّاً التي يجب أن نواجهها ونتعامل معها. أوّل ندوة تم فيها تناول قضية الاستنساخ الحيوي للحيوانات بجدية كانت في المؤتمر الدولي لعلم الوراثة في بيركلي (الولايات المتحدة الأمريكية) في أغسطس العام 1973م، وهو المؤتمر الذي قدر لي أن أشارك فيه ضمن وفد ضخم يمثل الاتحاد السوفييتي، وكانت هذه هي المرة الأولى التي اصطدم فيها بالجوانب الاجتماعية لعملية الاستنساخ، وعندما خرجنا في الصباح لافتتاح المؤتمر أصابنا الفزع والدهشة حيث قابلنا، بدلاً من منظمي المؤتمر، مجموعات ضخمة من قوات الأمن التي يتميز أفرادها بضخامة الأجسام وقد شكلت سلاسل كثيفة تحمل مدافع رشاشة، فماذا حدث؟ اتضح أن طلاب الجامعة سمعوا أنّه سوف تتم مناقشة قضية الاستنساخ في هذا المؤتمر، فهددوا بتمزيق أولئك الباحثين الأشرار عديمي المسؤولية الذين – ولا أدري لماذا اعتقدوا ذلك – يزعمون استنساخ لينين وهتلر وستالين، وكل المجرمين الذين على شاكلتهم. وسارت في المدينة الجامعية التجمعات والمظاهرات الرافضة، ووجه الخطباء كلمات الخزي والعار ضد المشاركين في الندوة العلمية، وقاموا بتوزيع المنشورات، وخيمت على المؤتمر سحابات الغضب الطلابي، وظهرت تهديدات بإفشاله. إلا أنّ المنظمين لم يقابلوا ذلك باستهتار أو استخفاف، وإنما بخوف وجدية، فأسرعوا إلى الكتابة في الصحف وتقديم البرامج التلفزيونية، وحاولوا أن يوضحوا للشباب الثائر أنّ الحديث سوف يدور ليس حول استنساخ الناس، وإنما فقط عن مجرد إمكانية عمل نسخ للحيوانات الأليفة النافعة – على سبيل المثال، البقر. وانتهى كل شيء بسلام – واتضح أنّ الطلاب الأمريكيين على قدر عال من الفهم والتفهم، فهدأوا، وفي النهاية وجهوا الدعوة إلى جميع المشاركين في المؤتمر إلى حفل جماعي حيث تناول الجميع المشروبات والمأكولات في سلام، وصافحوا بعضهم بعضاً، وفي غضون المؤتمر تمت الإشارة إلى أن قضية الاستنساخ ليست هكذا أبدا بسيطة وسهلة كما تصوروا في البداية، ولكن هناك العديد من العقبات والمصاعب الخفية والمجهولة، ومن السابق لأوانه تقدير حسابات وأعداد العشائر التي سوف يستنسخونها من الأبقار، ناهيك عن استنساخ الإنسان نفسه. .. لقد بدأت كل هذه القضية منذ أعوام الأربعينيات البعيدة حينما ابتكر عالم الأجنة الروسي جريجوري فيكتوريفيتش لوباشوف طريقة لنقل أو ازدراع (Transplant) النويات في بويضة ضفدعة. وفي يونيو عام 1948م أرسل إلى مجلة "البيولوجيا العامة" مقالاً يتضمن مواد تجاربه ونتائجها. إلا أنّه، ولسوء حظه، في أغسطس 1948م عقدت الدورة الشهيرة المؤسفة لأكاديمية العلوم الزراعية لعموم الاتحاد السوفييتي التي أقرت، بناء على رغبة الحزب، السلطة غير المحدودة للباحث المعروف ترافيم ليسينكو في مجال البيولوجيا. وبالتالي قضوا على مجموعة مقالات لوباشوف، التي كانت قد أعدت للنشر، لأنّها كانت تثبت الدور الرائد لنواة الكرومسومات الموجودة فيها في النمو الفردي – الذاتي للكائن. وتم نسيان أعمال لوباشوف، إلا أنّه في سنوات الخمسينيات قام عالم الأجنة الأمريكي بريجس كينج بتجارب مماثلة، وحصل هو على السبق كما حدث مرارا في تاريخ العلوم الروسية. وبعد ذلك، قام البريطاني جون جيردون بإتمام هذه الطريقة بإزالة النواة الأصلية من الخلية البويضية للضفدعة وزرع فيها نوايات مختلفة تم فصلها من خلايا مخصصة. وفي النهاية توصل إلى عملية نقل (Transplant) نواة من خلايا كائن بالغ، وبالأخص من ظهارة (الخلايا اللحائية) الأمعاء. إضافة إلى أن جيردون نجح في الوصول إلى أنّ الخلية البويضية قد نمت مع نواة غريبة المولد، بنسبة محددة من الحالات، إلى مراحل أعلى وبشكل كاف. وهكذا فنسبة 1% - 2% منها تجاوزت المرحلة الأولية وتحولت إلى ضفادع بالغة. بيد أنّ هذه الضفادع لم تكن من دون عيوب، وبدت أكثر سقما وضآلة ونقصا في النمو بالمقارنة مع "من ولدها" (الذي أعطاها النواة). وهكذا، فحتى في هذه الحالة من الصعب جدّاً أن نتحدث عن استنساخ دقيق بشكل مطلق ومع ذلك فقد تصاعدت ضجة كبيرة حول إنجازات العالم البريطاني، وأخذوا يتحدثون عن استنساخ الحيوانات الثديية والإنسان: إذا كان من الممكن استنساخ الضفدعة، فلماذا لا يمكن أن نجرب مع أهداف – كائنات – أخرى؟ وظهرت قصص الخيال العلمي حول العشائر والسلالات البشرية الخيرة أو الشريرة التي يستخدمها المحاربون القساة الحمقى أو السياسيون قصار النظر وقاموا بتصوير الأفلام السينمائية حول هذا الموضوع، أما الأخلاقيون أصحاب القلوب الحنونة فقد أصابهم القلق على الطريقة الأكثر متعة وبساطة للتناسل، والتي بدت وكأنها قد ولت مع الماضي.. وفي روسيا أيضاً كان هناك اهتمام بهذه القضية: حيث كان برنامج "استنساخ الثدييات" ضمن خطة العمل المشترك لاثنين من المختبرات – المختبر التابع لي ومختبر الأكاديمي ديمتري كونستانتينوفيتش بيليايف. وحتى في العام 1974م تقدمت إلى أكاديمية العلوم الزراعية لعموم الاتحاد السوفييتي ببحث أثبت فيه على نحو سابق لزمنه أن مهمة الحصول على عشيرة من الثدييات أمر في غاية الصعوبة، ولكنه محلول من حيث المبدأ. وتم تمويل محاولاتنا الأولية بشكل جيد، ولكن سرعان ما فقدت الدولة اهتمامها بتلك المحاولات، وكانت النتيجة الأساسية التي توصلنا إليها على ضوء ما حصلنا عليه من نتائج هي الاعتراف بعدم وجود آفاق مستقبلية لعمليات نقل النويات أثناء محاولات الحصول على عشائر أو سلالات من الحيوانات الثديية. واتضح أنّ هذه العملية جارحة ومثيرة لصدمة قوية، وكان من الأفضل استخدام طريقة التهجين الجسدي، أي نقل نواة غريبة المولد عن طريق إدماج الخلية البويضية مع الخلية الجسدية للنواة التي نريد "إحلالها" في الخلية البويضية، وهذه هي تحديداً الطريقة التي استخدمها يان فيلموت. وبالمناسبة، فقد قام أحد موظفيه بزيارة لمعهد علم الخلايا والوراثة في نوفوسيمبرسك وتبادل الآراء والأحاديث مع الذين كانوا يشتغلون آنذاك في عمليات الاستنساخ "وهذا، بالطبع، لا يعني أنّ هذا الموظف قام بشكل مباشر وعلى الفور باستخدام طرقهم". وفي سنوات السبعينيات نشر الباحث الأمريكي، سويسري الأصل، كارل إللمينزس مقالا اتضح فيه انّه نجح في الحصول على عشيرة تتكون من ثلاثة فئران. ومن جديد علت "ضجة استنساخية" أزاحت جميع الأخبار العلمية الأخرى، ومن جديد نفخوا الأبواق واعلنوا عن تحقيق الحلم الذي ظل لسنوات طويلة يراود البشرية بالخلود، وأنّ هذا الحلم قد أصبح في متناول اليد وبطريقة أصيلة ومتفردة – أي أنّه من خلال الإنتاج الصناعي يمكنك أن تنتج نسخا مشابهة لك، ولكن سرعان ما أعلن الفشل عن نفسه: ظهرت في الأوساط العلمية إشاعات عن أنّه في تجارب إللمينزس شيء ما غير نظيف، فلا أحد "حتى أقدر الباحثين وأكثرهم خبرة" يستطيع إعادة التجارب والحصول على النتائج.. وفي النهاية شلكوا لجنة ذات مستوى عال وضعت على أبحاث إللمينزس علامة "إكس": أقروا بعدم صحتها، وعلى هذا النحو، تم توجيه ضربة موجعة جدّاً إلى القضية نفسها، وصار حلها أمراً في دائرة الشك. وساد الهدوء لبعض الوقت، لكن فجأة، ومثلما يحدث الرعد في السماء الصافية – النعجة دوللي! بالطبع، فالحصول على هذه النعجة – إنجاز علمي ضخم يمكن أن نخرج منه بنتائج مهمة حول عمق تغيرات النويات الخلوية "نسبة إلى الخلية" في عملية التمييز أو التفريق بين الخلايا. والمسألة أنّه في أثناء مسار عملية النمو الفردي لكائن في نويات الخلايا مختلفة الأنواع، تحدث سلسلة من التغيرات: بعض الجنيات تعمل بنشاط، والبعض الآخر خامل لا يبدي أي رد فعل، وكلما كان الكائن أكثر تخصيصاً "أي تم إعداه للعمل من قبل"، وكلما كانت درجة سلم الارتقاء التي يقف عليها أعلى، كانت هذه التغيرات أكثر عمقاً وتجذرا وغير قابلة للإلغاء. ولدى بعض الكائنات – على سبيل المثال، الطفيليات المعوية المعروفة بديدان الإسكارس – المادة الوراثية في الخلايا الجنينية المستقبلية تبقى على حالها دون تغيير في أثناء عملية النمو، وفي البعض الآخر من الخلايا الجلدية تتدافع وتتساقط من الكرومسومات كميات كبيرة من (D.N.A) – حامل الصفات الوراثية (في هذه الحالات لا يمكن بطبيعة الحال التحدث عن أي شيء يخص عملية الاستنساخ). ففي كريات الدم الحمراء (خلايا الدم الحمراء) للطيور (تتجعد) النويات وتتحول إلى حصوات صغيرة تكف عن "العمل". وبالتالي فمن خلايا الدم الحمراء للحيوانات الثديية، التي توجد في درجة ارتقاء أعلى من الطيور، تتساقط هذه النويات من جراء عدم الحاجة إليها. ولدى ذبابة الفاكهة (حشرة الدروسوفيلا Drosophila) تكون هذه العمليات – التكاثر الانتقائي، أو العكس، وعدم كفاية أجزاء ما من (D.N.A) تظهر بأشكال مختلفة في أنسجة مختلفة – على وجه الخصوص أكثر وضوحاً ودقة. ولقد قام كارل إللمينزس بعمل بحث رائع في مجال عمليات نقل النويات "البالغة"، التي تم فصلها من خال الدروسوفيلا، في البويضة الناضجة لهذه الحشرة، من أجل التعرف على إمكاناتها في العمل على نمو الذباب. في هذه الحالة، اتضح أنّ الأجنة تنمو على مراحل محددة فقط بانحرافات عن المعايير والمواصفات، أي بظهور تشوهات. وبالتالي، ففي أثناء عملية النمو في النويات "البالغة" للدروسوفيلا تحدث تغيرات لا عكوسية (Irreversible)، ومن ثمّ تفقد النويات إمكانية إعطاء أساس لكائن عادي كامل. إضافة لما سبق، فكثيرا ما يجري الحديث في الوقت الحاضر عن أحد الأعمال التي أثبتت أنّه في الخلايا الجسدية، في أثناء مسار نموها، تتقلص الكرومسومات تلقائياً إلى نهاياتها، بينما تقوم المادة الزلالية الخاصة في الخلايا الجنينية بإعادة بنائها وتشكيلها، أي أنّ الحصول على تلك المعطيات يؤكد مرة أخرى على الاختلاف بين الخلايا الجسدية والجنينية. ولكن إذا كان حتى لدى الضفدعة – الكائن الأقل نمواً، وبالتالي الأقل وضوحاً ودقة من حيث التغيرات النووية – نسبة ضئيلة جداً من النجاح في أثناء عملية الاستنساخ، كما ذكرنا سابقاً، ففي حالة الحيوانات الثديية سوف تتضاعف هذه النسبة، وسوف يتوقف النجاح على "العثور"، بين الخلايا الكثيرة، على تلك الخلية التي تندر تماماً مقابلتها وتكون محتوية على نواة لم تفقد بعد طاقتها أو قدرتها، أو حل المشكلة بإعادة نواة الخلية الجسدية التي تغيرت إلى حالتها الأولية. وليس مصادفة ما يثار اليوم من اهتمام خاصة حول أبحاث مجموعة علماء جامعة هونولولو وعلى رأسهم ريوزيو ياناهيماتش. فقد استطاع الباحثون إتمام طريقة فيلموت: رفضوا التنشيط الكهربائي لإدماج الخلية الجسدية (المعطى) مع البويضة وابتكروا ذلك الممص الصغير (Micropipet) الذي استطاعوا عن طريقه نقل النواة "من دون صعوبات" إضافة إلى أنهم استخدموا نويات الخلايا المحيطة بالبويضة كـ"معطى". وكانت نسبة "الخارج" من الفئران المولودة "حيث أخرجوها عن طريق إجراء جراحة قيصرية" في المجموعة المختلفة من 2% إلى 2.8%. وأكدت الأبحاث الجزيئية أنّ الفئران هي ناتج عملية الاستنساخ كما حدث أيضاً في حالة النعجة دوللي. على هذا النحو، وفي أسوأ الأحوال، تم إثبات إمكانية نويات الخلايا الجسدية في بعض الحالات على ضمان نمو طبيعي للحيوانات الثديية. ومع ذلك فهذه النتائج لا تسمح لنا بشكل جدي أن نتحدث عن عملية الاستنساخ، وأكثر من ذلك عن عملية "نسخ" الإنسان. وفي الحقيقة، لو افترضنا أنّه قد تم بالفعل نقل بويضات في طور النمو مع نوبات غريبة المولد إلى عدة مئات "إذا لم يكن إلى عدة آلاف" من الأُمّهات الحوامل "نسبة الناتج أو الخارج ضئيلة جدّاً! وفي أبعد الأحوال لن يتيسر لها أن تزيد أبدا" من أجل الحصول ولو حتى على نسخة واحدة حية "ليس حتى بشكل كامل!" لأحد السياسيين المرموقين كما وعد، في برنامج تلفزيوني، السيد ميتروفانوف أحد قادة الحزب الديمقراطي الليبرالي الروسي. فهل يفكرون عما سيحدث مع بقية الأجنة؟ إذ إنّ الجزء الأكبر منها سوف يموت في أرحام الأُمّهات، أو سينمو الجزء الذي سيولد منها، لا قدر الله، مشوها، هل تتصوروا – مئات من البشر الممسوخين والمشوهين الذين تم الحصول عليهم صناعياً؟ أعتقد أن ذلك ليس فقط فساداً وفجراً ولا أخلاقية، وإنما أيضاً جريمة. ولذا فمن الطبيعي أن نتوقع سن قانون يمنع مثل هذه التجارب. لقد اتخذ الاتحاد الأوروبي القرار الملائم، والآن يأتي الدور على روسيا! وبغض النظر عن كل ذلك، ففي علم الوراثة يوجد ذلك المفهوم الذي يطلق عليه: معيار التفاعل، وهو درجة التقلب أو التذبذب في إظهار الميزات أو السمات التي تتحكم فيها هذه الجينة أو تلك، وعلى سبيل المثال، فهناك جينة البلق أو الترقيط التي يتوقف عليها اللون المبرقش للحيوان، وهي الجينة نفسها "وليس أخرى غيرها" التي يمكنها أن تصنع لدى بعض الحيوانات، على سبيل المثال، بقعا قاتمة منفصلة ومتفرقة على أرضية ملونة أو فاتحة، ولدى البعض الآخر جسداً "قاتماً" تماماً. ودرجة "القتامة" تتوقف على تأثير العديد من الجينات الأخرى" من تلك التي تمتلك كل واحدة منها معيار تفاعلها الخاص بها"، وتأثير الوسط الخارجي "درجة الحرارة، مستوى درجة الإشعاع.. وهلم جرا"، ويطرح السؤال نفسه: هل احتمالية إعادة إنتاج خصائص النموذج "الاستنساخ" كبيرة؟ وبشكل عام، إذا كان الحديث يدور حول الحيوانات الثديية، فمن الملائم مواصلة مثل هذه التجارب، ولكن على الفئران والعرس والأرانب. فهي ستكون أقل تكلفة تماماً من التجارب، مثلاً، على الأبقار، ولكن النتيجة – هي نفسها: الإجابة نفسها عن السؤال المبدئي المطروح حول طابع تغير النويات في أثناء النمو الفردي والذي يعتبر أمراً مهماً للغاية بالنسبة لبناء علم الوراثة. أما الأموال الضخمةالمطلوبة لأبحاث استنساخ الحيوانات الزراعية، فمن الأفضل استخدامها من أجل دعم وتطوير الأبحاث الخاصة بالحصول على الحيوانات ما بعد الوراثية (Transgenetic) التي تنطوي على صفحات غريبة مفيدة (على سبيل المثال، الأبقار أو النعاج القادرة على إنتاج مواد علاجية مفيدة مثل الأنسولين، وذلك إلى جانب الألبان)، أو العلاج بالجينات (العلاج عن طريق الإدخال الصناعي للجينات السوية التي تصحح عيوب الخلايا)، أو الوراثة البشرية، أو الهندسة الوراثية. أنا لست من المحافظين، وإنما على العكس أكون سعيداً على الدوام من أجل الاكتشافات العلمية الثورية وأحاول قدر الإمكان الوقوف إلى جانبها والدعاية لها، ولكنني توصلت عبر الاستنساخ إلى أمور واقعية وأصبحت الآن على قناعة بكل ما قيل أعلاه، وربما تغضب آرائي هذه القراء، ولكن الحقيقة المرة أفضل من الكذب الحلو. لقد تم التعارف على أنّ الراهب التشيكي جريجور ميندل هو "أبو" علم الوراثة، نظرا لأنّه في هدوء حديقة بأح الأديرة اكتشف القوانين الأساسية لهذا العلم منذ مائة وثلاثين عاماً مضت. ولكن لدى علم الوراثة يوجد "جد" (ولعل الأصح أن نقول "أبوالجد") الذي عاش في القرن الرابع الميلادي، واسمه أبريل أغسطين الذي لم يكن مجرد أسقفا فقط وأحد أهم المعلمين الكبار والمبجلين للكنيسة، وإنما كان أيضاً أحد أكثر الناس دقيقي الملاحظة والمحبين للمعرفة. وكان يعمل في تربية الأسماك وتدريبها على تناول الطعام في أماكن محددة بالحوض الزجاجي، وقد لاحظ أن هناك أسماكاً "ذكية" تتعلم بسرعة، وأخرى "غبية" تفكر بشكل بطيء ومتخلف. ولكن أهم ملاحظات أغسطين كانت تتعلق، بالضبط، بالظاهرة التي نسميها الوراثة – حيث إن سلالات الأسماك كانت تشابه أبويها: من "الأذكاء" تم الحصول على "أذكياء"، ومن "الأغبياء" – على "أغبياء". وكان أبريل أغسطين يسبق عصره بكثير – حيث ظهر الاهتمام بالوراثة في ميدان العلم في حدود القرن الثامن عشر. وولد مندل بعد أغسطين بحوالي أربعة عشر قرنا. بيد أنهم لم يلتفتوا إلى قوانينه في البداية – لأنها كانت تهدم الكثير من التصورات التربوية الطبيعية المألوفة والسائدة الموجودة في المفاهيم الأساسية، وفقط في بداية قرننا هذا قام كل من هوجو دي فريز، وتشيرماك، وكورينس، "بإعادة اكتشاف" مندل، وظهرت "المندلية" الحقيقية، وبالتالي علم الوراثة، وسرعان ما أثبت عالم الحيوانات والأجنحة الأمريكي توماس هينج مورجان أن حاملات الصفات الوراثية، أي الجينات، "مرتبطة" بتركيبات معينة من النويات الخلوية (نسبة إلى الخلية)، أي الكرومسومات، وبالتالي أسس نظرية الكرومسومات الوراثية. ومنذ ذلك الحين عرف علماء الوراثة الكثير والكثير، وحققوا نجاحات خيالية في النظرية والتطبيق على حد سواء، وابتكروا العديد من فصائل الحيوانات وأنواع النباتات، واكتشفوا الأمراض الوراثية لدى الإنسان، ومن خلال فهم ميكانيزماتها تعلموا كيف يعالجونها، وفي النهاية "ابتكروا" الهندسة الوراثية وصاروا ينتجون تلك الأعاجيب التي أخذت تثير قلق "الخضر" وبالتالي المطالبة بالمنع المطلق للعلماء من التلاعب بالجهاز الوراثي والتحكم فيه (توجد الآن عملية تنظيم قانونية لإجراء مثل تلك التجارب). والآن أصبح علم الوراثة محط اهتمام الجميع، وصار يغري العقول بالتسلل إلى جوهر الكائن الحي، تلك العقول التي تنطوي على جرأة متهورة، بل وحتى على شيء من الغرابة والشذوذ. وليس مصادفة أن تدور الأحاديث حول أنّه في القرن الواحد والعشرين سوف تجري في مجال العلوم الطبيعية عملية استبدال المواقع للعلوم الرائدة: سيحل علم الوراثة محل الفيزياء. لا أدري، سوف بحدث ذلك أم لا، ولكنني على قناعة شديدة بشيء واحد، ألا وهو أن علم الوراثة سوف يظل محافظا على مكانته الرائدة في إطار العلوم البيولوجية فقط. الكثيرون يعتقدون أن "العمود الفقري" للبيولوجيا الحديثة هو مبادئ التطور، بيد أنّه لا يمكنني الاتفاق مع ذلك، وأرى أنّ هذا "العمود الفقري" يمكن أن يكون فقط علم الوراثة. وفي الواقع، إذا انتزعنا فجأة مبادئ التطور من البيولوجيا، فهل ستتغير صورة هذا العلم كثيرا؟ لا، كل ما في الأمر أن مبادئ التطور سوف تكون غائبة. مجرد نقص ملحوظ! ولكنه لا يمثل كارثة: وسوف تظل، ببساطة، جميع فروع علم البيولوجيا على مستوى علمي راق وحديث. ولكن ماذا لو حذفنا علم الوراثة من البيولوجيا؟ إنها لن تتغير فقط، ولكنها في الحقيقة ستعود إلى المستوى الذي كانت عليه في القرن الماضي! ومن ضمن ذلك مبادئ التطور ذاتها التي لم تقدم أي شيء إلى علم الوراثة في ذاته، خاصة وأنها هي نفسها تتأسس بدرجة ملحوظة على فرضيات علم الوراثة. وفي الوقت الحاضر يحتل كل من الفيزياء وعلم الوراثة نقطتي القمة في اتجاهين أساسيين، ولكن مختلفين، في المعرفة الإنسانية، ويتمتع كل منهما باهتمام بالغ من قبل الفلاسفة، وفي ظروف معينة من قبل بعض الدوائر الإيديولوجية أيضاً. لقد أصبح تدخل علم الوراثة في حياة المجتمع أمراً ملموساً وله قيمة كبيرة حتى أنّه منذ فترة غير بعيدة تم الإعلان في ضجة كبيرة عن قصة رفات الأسرة القيصرية. وعندما كان يتم اكتشاف آثار أحد من أكثر البلاشفة وحشية ودموية ويظهر شك في حقيقة رفاته، كانوا يتوجهون تحديداً إلى علماء الوراثة، وفي نهاية الأمر تكون كلمتهم هي الأخيرة والفاصلة في النقاشات التي كانت تحمل في الأساس طابعاً سياسياً مغلفاً ببعض الأفكار المزعومة عن المثل العليا. وكان علماء الوراثة يجيبون عن السؤال الموجه إليهم إجابة واحدة فقط وأكيدة – بالإيجاب. والتجارب والتحليلات التي أجراها عالم الوراثة الروسي بافل إيفانوف بالاشتراك مع زملائه الغربيين، وبعد ذلك عالم الوراثة الروسي يفجيني روجايف يؤكد أن ما عثروا عليه هو فعلا رفات الأسر القيصرية، ولكن كل ذلك لم يعجب القائمين على السلطة، وبدأت الصحف والمطبوعات نقاشات مخزية وتجديفية شارك فيها أولئك الذين نسوا فعليا العلم منذ زمن بعيد. وهكذا، فقد حدث "صدام" جديد بين علم الوراثة والسياسة، ولهذا السبب تنظر السلطات الحاكمة إلى ذلك العلم باهتمام شديد جدّاً من أجل تقويمه وتقديره بشكل أو بآخر من حيث تدخله في المنظومة الاجتماعية للحياة، ومن أجل أن تقرر بأيّة درجة يمكن السماح لهذا التدخل أو منعه. ومن المعروف جيِّداً التمويل الضخم في تلك الفروع من علم الوراثة التي تعود بالفائدة على الزراعة أو الطب، ومعروف أن أكثر التدابير المانعة المتخذة ليست فقط في روسيا، وإنما في العالم كله، وفي زمن ما "كان مخزيا لبلادنا" منعوا علم الوراثة كليا نظراً لأنّه وقف مثل الشوكة في حلق الإيديولوجية السائدة. وفي أمريكا أرادوا منع الهندسة الوراثية التي صنعت الكثير من عوامل ومثيرات الأمراض المعدية البشعة الجديدة. وفي مجموعة من الدول يجري إعداد مشروعات أو اتخاذ تدابير وإجراءات حول منع تجارب استنساخ البشر وهو الأمر الذي أرى أنّه صحيح تماما. وفي هذا الاتجاه تسير، على وجه الخصوص، جماعات "الخضر"، والجمعيات المختلفة التي تعمل في مجال الحفاظ على حياة الحيوانات، وهناك تلك الحادثة المعروفة التي جرت في الولايات المتحدة الأمريكية عندما هجموا على أحد الأماكن (vivarium) التي توجد بها حيوانات التجارب وأطلقوا سراحها وهي التي لا تقدر بثمن وأفشلوا بذلك تجارب في غاية الأهمية. هناك بعض الممارسات، مع الأسف، تترتب عليها في أحيان كثيرة العديد من المشاكل والقضايا الاعتراضية – تعامل العلماء القاسي مع حيوانات التجارب (وفي أحيان كثيرة مع الحيوانات المريضة). وأنا أعرف أحد الأطباء الذي كان يعمل على إعداد رسالة الدكتوراه، فكان يثير في البداية كلباً جائعاً بقطعة لحم، ثمّ يقوم بضربه من أجل إثارة مرض ضغط الدم لديه. أما الآخر فكان يكسر، ومن دون تخدير، عظام الأرانب من أجل دراسة عملية إعادة التوليد أو التجديد لديه، ولذا فهناك حاجة ملحة لوضع مجموعة قوانين محددة لعلم الأخلاق البيولوجي والطبي والتي من شأنها أن تستبعد القسوة غير المبررة أثناء إجراء التجارب البيولوجية أو الطبية، ويجب أن يقوم بوضع مجموعة القوانين هذه اختصاصيون كبار في هذا الميدان، ويكونوا على دراية تامة بالمواد القانونية والتشريعية، ومن دون ذلك سوف يظهر مشروع قانون مماثل لمشروع قانون علم الأخلاق البيولوجي الذي تم تقديمه إلى مجلس الدوما – كان من بين الذين شاركوا في وضعه طبيب ومحام واثنان من القساوسة الأرثوذكس، وكان من الواضح أنهم على غير دراية بعلم البيولوجيا. ومع ذلك فهناك بين رجال الدين أشخاص مؤهلون تماماً في هذا الموضوع، وأحدهم على سبيل المثال هو الأب ألكسندر بوريسوف أحد أمهر علماء الوراثة عندنا، وفي مشروع هذا القانون تتم الدعوة عمليا إلى المنع التام للأبحاث الطبية الفعالة – علم زراعة الأعضاء والأنسجة. أما الأجزاء التي وردت في المشروع، والخاصة بعملية التحديد والتقليص في ميدان الهندسة الوراثية والطب الوراثي، فلم يستشر فيها أحد من المتخصصين. وليس مصادفة أنّ المشروع الذي تم تقديمه إلى مجلس الدوما استقبله الرأي العام بانتقاد حاد وشاركه في ذلك كبار المتخصصين في مجال الطب الوراثي – الأكاديميون بالأكاديمية الروسية للعلوم الطبية مثل ف. إ. إيفانوف، ن. ب. بوتشكوف. ولكن إذا كان من الممكن الموافقة على مثل هذا القانون، فمن الضروري أن يقوموا بمناقشته علنا في الصحف والتلفزيون، ولا يختبئوا في حجرتهم بمجلس الدوما. ومن البديهي أنّ الذين أعدوا مشروع هذا القانون تقودهم النوايا الحسنة، ولكن طريقهم كما هو معروف محفوف بالمخاطر. لدى علم الوراثة العديد من الجوانب التي تمتلك مخرجا للدخول إلى المجال الأخلاقي والسياسي والاجتماعي، وعلى سبيل المثال، قضية استخدام إنجازات هذا العلم في أغراض تحسين "الفصيلة" البشرية. ولقد فكر القادة النازيون بجدية في هذه القضية وشاركهم كذلك المخلصون لهم ولأفكارهم من علماء البيولوجيا الألمان في سنوات الثلاثينيات والذين قاموا بجهد بالغ لإعداد وصياغة النظرية العنصرية، بيد أن مثل هذه الأفكار، التي أعطوها من دون وجه حق تسمية الـ"يوجينا" (Eugenics)، كانت غريبة عن ميدان علم الوراثة الذي نشأ في جو ديمقراطي وإنساني. وفي الواقع فالذي أسس علم الـ"يوجينا" هو فرنسيس جالتون، بينما قام علماء الوراثة الكبار من أمثال ن. ك. كولتسوف، ج. موللر، يو. أ. فيليبتشينكو بتخصيص مكان آخر ودور آخر مختلف لهذا الفرع من علم الوراثة – استخدام المعرفة في مجال علم الوراثة من أجل الحفاظ على صحة الإنسان. أما مواطننا فيودوسي دوبرجانسكي، الذي اضطر إلى الفرار من وجه البلاشفة ورحل إلى أمريكا، والذي يطلقون عليه دارون القرن العشرين، فقد فهم اليوجينا على أنّها استخدام المعرفة بمبادئ وأساسيات علم الوراثة وإجراء الاستشارات والفحوص والتجارب الطبية والوراثية. ورأى أنّه من الضروري أهمية إقناع حاملي العيوب الوراثية بأنهم ليسوا مذنبين في حالاتهم هذه، ولا يمكن أن يوجه إليهم أي اتهام أو وصم بالخزي والعار. ومن الضروري أيضاً إخطارهم باحتمال وجود مخاطر في سلالاتهم في المستقبل. ولا يحق لأي أحد كان، ما عدا حامل العيب الوراثي نفسه، أن يقرر: هل يجب أن ينجب أولادا أم لا. وهذا هو المفهوم العلمي الصحيح لليوجينا. وفي روسيا البلشفية، أعلنت السلطة التي لم تكن تفهم جوهر الأمر أنّ اليوجينا علم برجوازي، كاذب ورجعي، واتخذت موقفاً متطرفاً – منعوا عملياً دراسة علم وراثة الإنسان، وبالمرة الطب الوراثي، على اعتبار أن كل ذلك عوامل لإنتاج العنصرية، بيد أن هذا الاتجاه في علم الوراثة، والضروري جدّاً للحفاظ على صحة الإنسان، ظهر في بلادنا بفضل جهود أولئك العلماء المرموقين من أمثال س. ن. دافيدينكو، س. ج. ليفيت، إ. إ. آجول، وآخرين. ولكن تحقق أفكارهم بشكل كامل في الواقع لم يكتب له النجاح نظراً لأنّ "الحزب" كان مهتماً للغاية بالعلم! هذا "الاهتمام" أعاق بشكل ملحوظ تطور ذلك الفرع المهم من علم الوراثة – علم وراثة السلوك. وكانوا يؤكدون أنّ الإنسان ما هو إلا ثمرة التربية الصرفة والتي عن طريقها يمكن تشكيل أي "منتج" أو "بضاعة" من المنشأ، ومن دون التمييز إطلاقاً بين "المواد" البشرية المختلفة (بالضبط كما كانوا يفسرون مفهوم "المساواة")، بينما أكد علم الوراثة أنّ الكثيرين، ليس فقط عن طريق الصفات العضوية وإنما أيضاً النفسية، قد تم تحديدهم بشكل وراثي، وبشكل جزئي فقط يخضعون لتأثير الوسط والمؤثرات الخارجية، ولذا فدراسة علم وراثة السلوك أمر ضروري للغاية، لأنّه يسمح بفهم ميكانيزمات الانحرافات المرضية (ومن ضمنها الجريمة) في سلوكيات الإنسان وتصرفاته، ويظهر القدرة نحو هذا النوع أو ذاك من النشاطات الإبداعية. ولعل الكثيرين يتذكرون كيف كانوا يتعاملون في بلادنا بقسوة مع الشاذين جنسياً، ويتهمونهم بأنهم أعداء الأخلاقيات الشيوعية، وبأنهم مواد جاهزة لانحلال وتفسخ المجتمع الذي يقوم باستفزازه عملاء الإمبريالية العالمية. ولكن اتضح أن حالة الشذوذ الجنسي تم العثور عليها لدى العديد من الحيوانات المختلفة، وحتى لدى الحشرات، زد على ذلك أن علماء الوراثة الأمريكيين أثبتوا أنّ هذه الصفة وراثية (لدى ذبابة الفاكهة "الدروسوفيلا"، وحددوا، بل ووجدوا موضع الجينة المسببة لذلك، ثمّ قاموا بعزلها ودراسة تكوينها). ومنذ فترة غير بعيدة، في مختبر عالم الوراثة دان هامر من معهد الصحة الوطني بالولايات المتحدة الأمريكية، عثروا على هذه الجينة لدى الإنسان أيضاً، وتم تحديد موضعها في الكرومسومة X، ولا جدال في أن اكتشاف العلماء هذا يمتلك قيمة اجتماعية وقانونية في غاية الأهمية. من الطبيعي تماماً أن يظهر اهتمام الناس بموضوع إمكانية انتقال القدرة على التعلم من عدمه عن طريق الوراثة، وفي الظروف المختبرية، عن طريق الوسائل الوراثية، من الممكن عمل خط لإنتاج الفئران والعرس "الذكية" أو "الغبية"، والتي "بسرعة" أو "ببطء" وبشكل "جيد" أو "سيء تستوعب أية خبرة. وقد تم البرهنة بشكل لا يقبل النقاش على الشرطية "الظرفية" الوراثية لهذه التمايزات والاختلافات، وفي بعض الحالات تم العثور على أسبابها الجزيئية أو الموفولوجية "التشكلية". غير أنّه ليس من الضروري أبداً أن يكون الحيوان، "الذكي" في استيعاب خبرة ما معينة، ذكياً ولماحاً جدّاً في أثناء استخدام الاختبارات الأخرى للتعلم. وبكلمات أخرى، فمن الممكن أن يكون هذا الحيوان "أحمق" في ظروف ومواقف أخرى، وبالتالي، فالحديث يدور حول الاستعداد الوراثي للنجاح في اكتساب خبرة أو معرفة ما محددة، وليس حول تحتيم العبقرية أو الغباء بشكل عام على المستوى الوراثي. ولكن كيف يكون الأمر مع الإنسان؟ بعض علماء الوراثة، ومن ضمنهم عالمنا الكبير ن. دوبينين، وكذلك علماء النفس (على سبيل المثال، أ. ليونتيف) رأوا وكأنّ الإنسان مختلف إلى حد كبير على الحيوانات حتى أن طرق التحكم الوراثية للنشاط العصبي لدى الحيوانات لا يمكن أن تطبق على الإنسان. وباختصار، فهم وكأنهم يقسمون الإنسان بالمفهوم الوراثي إلى قسمين – الأول، عام ومشترك مع الحيوانات ومرتبط بالخصائص الجسدية (القامة، اللون، العيون، العشر.. إلخ). والثاني، مختلف عن الحيوانات ولا يخضع لقوانين علم الوراثة، ولكن يقع كليا وبشكل كامل تحت تأثير الوسط الاجتماعي. وأعتقد أنه لا يوجد أي أساس لهذا التقسيم، وأن قوانين علم الوراثة صالحة لجميع أفراد عالم الكائنات الحية، وتنسحب على مختلف جوانب حياة الإنسان بداية من اللحم والدم حتى النشاط العصبي. ومن المعروف أنّه لدى المجرمين العريقين، وخاصة القتلة، توجد مجموعة من الانحرافات المييزة المميزة في نمو الجهاز العصبي. وقبل كل شيء فالمخ لديهم غير كامل النمو، وهو ما يجد له انعكاساً في حجم الرأس الصغير والجبهة الضيقة والعينين الصغيرتين الباردتين. وفي إطار ذلك، كقاعدة، يبرز فكه السفلي الضخم بشكل ملحوظ. وهناك أيضاً واحدة من الصفات النوعية: تركز الأطراف العصبية (المستقبلات Receptors) على وحدة مساحة الجسم، بالتالي نجد أنّ الإحساس بالألم لديهم يتدنى بشكل حاد بالمقارنة مع الناس الطبيعيين، ولذا لا ينبغي أن نندهش من أنهم قادرون على ارتكاب بعض الأعمال بحق أنفسهم لا يمكن أبدا للإنسان العادي أن يقوم بارتكابها في حق نفسه.. على سبيل المثال، خياطة الفم، أو تسمير الجسد إلى المقعد بالمسامير كي لا يذهبوا إلى العمل، أو بتر أيديهم كي يختارونهم رؤساء للعصابات. الأمر بالنسبة لهم لا يمثل أي ألم! أليس عن طريق ذلك يمكن تفسير القسوة الهائلة في أثناء ارتكاب جرائم القتل حينما يقوم المجرم بطعن الضحية طعنات عديدة؟ ومن الممكن أن نتصور أن صراخ الضحية وأنينها وعذابها يثير لدى القاتل اهتماماً "استقصائياً" جنونياً: فالقاتل لا يفهم ماذا يشعر الإنسان الذي يمزقونه بالسكين – لأنهم حينما يمزقونه هو لا يشعر تقريباً بأي شيء! فهل تعتبر هذه الصفات أموراً حتمية من الناحية الوراثية؟ وماذا غير ذلك؟ أنا لا أتصور بأي شكل، أو على أي نحو، كيف يمكن للوسط الاجتماعي أن يؤثر على تطور أو نمو الأطراف العصبية. بالإضافة إلى ذلك، توجد معطيات بأنّ الصفات المميزة التي يشار بها هنا للمجرمين بأنّ الصفات المميزة التي يشار بها هنا للمجرمين يمكنها أن تكون متلازمة ومرتبطة بوجود كرومسومة زائدة بين الكرومسومات التي يسمونها Y، مما يجعل أفعال الشخص مصحوبة بشراسة وعدوانية زائدتين، وفي الوقت نفسه، فالمجرم – إذا لم يكن يعاني من مرض نفسي "قصام، أو صرع، أو نقص في النمو النفسي"، يدرك بوضوح ودقة أن عمله هذا يحمل طابعاً مضاداً للقانون، وهو بالطبع، يجب أن يتحمل مسؤولية أفعاله، ومن الأصلح أن يتم عزله عن المجتمع. أما الأحاديث التي تدور حول إعادة تنشئة المجرمين أو إعادة تربيتهم، والتي كانت مجرد "موضة" في عهد نيكيتا خرتشوف، والتي لم يكن لها أي أساس من الصحة، فلم يمكنها إلا أن تعود على المجتمع بالضرر الفادح، فالمعاملة الإنسانية للقتلة وغبداء الاهتمام بهم أمر يفصح عن الاستهانة بمصالح المجتمع والاستخفاف بها، لأنّه عندما يعفو أصحاب المشاعر "الإنسانية" لدينا عن هؤلاء "اللابشر"، ومن ثمّ يتسببون في نهاية الأمر في إطلاق سراحهم، بينما أولئك المجرمون كما أوضحت التجارب والخبرات لا يتغيرون إلى الأفضل تحت تأثير ما يبدونه تجاههم من عطف ورحمة، ينتج عن ذلك أنهم أثناء حريتهم هذه يقومون بالقضاء على بعض الحيوانات الأخرى لبعض المواطنين الشرفاء والمخلصين. هناك أيضاً أمر آخر مهم وملموس وواضح، ألا وهو البروز المحسوس للنشاط النفسي للإنسان في الإطار الاجتماعي – العدائية، التي يرتبط مستواها بمنظومة أقسام معينة من المخ، والتي يتم التحكم فيها وراثياً في أثناء مسار نمو الكائن وتطوره. وقد قام كونراد لورنتز، الحائز على جائزة نوبل، بتحليل هذه القضية في كتابه "العدوان" (موسكو، "دار التقدم"، 1994م) أورد لورنتز نتائج في غاية الأهمية للأبحاث النفسية – الاجتماعية التي أجريت على الهنود الحمر من قبائل الـ"يوتا" التي تسكن مروج أمريكا الشمالية. واتضح أنهم يعانون بقسوة من تنامي الدوافع العدائية التي حرموا من إمكانية تحقيقها في ظروف الحفاظ على حقوق الهنود الحمر في أمريكا الشمالية. المسألة تتخلص في أن هؤلاء الهنود عاشوا خلال عدة مئات من الأعوام حياة متوحشة تمثلت في الحروب والسلب والنهب، ومن البديهي أنّه قد حدثت عملية انتقاء عملت على تعزيز عدائيتهم وتقويتها. وحدثت تغيرات كبيرة في "الرصيد" أو "الاحتياطي" الوراثي لديهم خلال فترة زمنية قصيرة نسبياً. ولا ينبغي أن نندهش من ذلك: فأثناء عملية لانتقاء القاسية تتغير فصائل الحيوانات المنزلية الأليفة بسرعة كبيرة. وبناء على تلك الفرضية، تقول الحقيقية إنّ الهنود الحمر الآخرين من قبل اليوتا، الذين نشأوا في ظروف أخرى، يعانون من هذا الأمر أيضاً بدرجة ليست أقل من أفراد قبيلتهم الأكبر سنا، بالإضافة إلى أنّ الظهور المرضي للعدوانية يميز فقط الهنود الحمر الذين يقطنون مناطق المروج إذ إن قبائلهم قد تعرضت بدرجة أكثر إلى مثل تلك العملية من الانتقاء. إلا أنّ هنود اليوتا المضطرين دائماً إلى كبح عدوانيتهم، يعانون من نوبات عصبية دورية ومتكررة، ويشعر الكثيرون منهم بأنهم مرضى، فكيف يمكن التخلص من كل ذلك؟ يقول لورنتز إن الطريقة الوحيدة "الناجعة" – هي تصعيد الانحراف العدواني وتوجيهه في صورة أخرى للنشاط من أجل إعطاء "مخرج" للطاقة الكامنة، أي كما يقولون، من أجل إعطاء "مخرج" للطاقة الكامنة، أي كما يقولون، من أجل "تنفيس البخار"، وهذا قبل كل شيء رياضة! فإعادة توجيه العدوانية – تعني جعلها غير مضرة أو مؤذية، والتنافس في الرياضة يعمل على فتح ذلك الصنبور من أجل تسريب تلك الطاقة المحبوسة، ويتيح لها الظهور ليس في صور الأنانية الخشنة، وإنما في أشكال عمل جماعي لها خصوصيتها، بل وأكثر جدوى ومنفعة من الصور المؤذية للمجتمع. هناك أيضاً شيئان عملا على توحيد الناس الذين كانوا في السابق متفرقين ومعزولين عن بعضهم بعضاً، وكانوا يظهرون نوايا عدوانية تجاه بعضهم بعضاً – هذان الشيئان هما العلم والفن. ومن المهم، على حد رأي لورنتز، أن مثل هذه العملية من التصعيد تتحقق بنجاح عندما تتساوى فيها قوى الجذب بين الجوانب العقلانية والانفعالية والوجدانية، للنفسية الإنسانية، لكل واحدة على حدة وبينها جميعاً. لا شك أنّ المجتمع يؤثر في الشخصية الفردية وبشكل قوي جدّاً. فهو إما أن يساعد على نموها وتطورها، وإما يكبحها ويقمعها ويضغط عليها في اتجاه معين، بيد أنّ هذا لاتجاه ذاته، وكذلك قدرة كل شخص منفرد على حل هذه المشكلة أو تلك، أو النجاح في العلم أو الفن أو الرياضة أو السياسة، أو تحقيق ذاته كشخصية فردية بهذه الدرجة أو تلك، كل ذلك يتم التحكم فيه وراثياً بدرجة كبيرة للغاية. ولقد قام علماء الوراثة الأمريكيون بإجراء تجارب مهمة على الفئران، حيث قسموا سلالات هذه الحيوانات التي ظهرت إلى النور لتوها، على أساس أنماطها الوراثية (أو على أساس مجموعة الجينات)، إلى مجموعتين، واحدة منهما "نشأت" في ظروف "وسط غني ومريح" (من حيث بناء القفص، والعديد من عناصر "الألعاب" المختلفة – الدرج والمكعبات.. إلخ)، والمجموعة الثانية في وسط فقير وغير مريح (قفص ضيق، وعدم وجود أي مواد أو أشياء أخرى). واتضح أنّ القدرة على التعلم لدى حيوانات المجموعة الأولى كانت أعلى، بل وحتى كانت قشرة المخيخ أسمك بكثير من مثيلتها في المجموعة الثانية، وبالطبع، فهذه الاختلافات لم يتم انتقالها بالوراثة: تبعاً للقوانين الوراثية، حيث الصفات المكتسبة لا تورث. على نحو مشابه أيضاً يكون بناء المجتمع: الكيفية التي بني بها، وإمكانيته على كبح جماح الصفات الحتمية الوراثية للنشاطات العصبية أو تسببه في تطورها تزايدها، أي – باختصار – زحزحة معيار التفاعل في هذا الاتجاه أو ذاك. على ضوء ذلك يتوقف إزدهار المجتمع وتقدمه، وإذا ظلوا عندنا، على سبيل المثال، يحتقرون العلم ويستخفون به، وإذا لم يسارعوا إلى دعمه ومساعدته، فلن تبعث روسيا أبدا أو تنهض. المصدر: مجلة الثقافة العالمية/ العدد 98 لسنة 2000م

ارسال التعليق

Top