• ١٩ نيسان/أبريل ٢٠٢٤ | ١٠ شوال ١٤٤٥ هـ
البلاغ

آثار الزواج في التمكين الاجتماعي

آثار الزواج في التمكين الاجتماعي
  ◄يحس الفرد الإنساني بالوحشة إذا ما وجد نفسه وحيداً، وألفى شخصه فريداً، ويتضح هذا الشعور ويبرز بجلاء لدى الصغار ذكوراً وإناثاً، ثمّ لا يلبث أن يمارس الإنسان الحياة وينمو مع جسمه بمرور الزمن عقله، وتنضج عواطفه، وإذا به يبرز لديه ذلك الإحساس العجيب الذي يراوده، الإحساس بالفقد، الشعور بنقص في الكيان وشطر الذات، يثير فيه الحنين إلى الجنس الآخر، والميل نحوه. يثير فيه الشوق لمن يشاركه أفراحه، ويؤنس وحدته ويشجعه على تذليل العقبات. إنّ الحاجة إلى الزواج ليست حاجة لمجرد قضاء النهمة الغريزية، وليست إرواء للغلمة الجنسية في الشباب فتياناً أو فتيات، ولكنها في الواقع حاجة نفسية عاطفية، تنضج في الإنسان كلما كان سوي التكوين، سليم الطبع والسجية. بل إنّ الحاجة إلى الزواج ضرورة حتمية لتحقيق المعنى الإنساني الذي يكون به المرء إنساناً. وما الإنسان؟ الإنسان كائن حي مدني بالطبع. وما المدنية؟ إنّها النظام الذي يربط أبناء الأُمّة، ويوجه جهود الأفراد وعواطفهم وميولهم لهدف موحد يسعون إلى تحقيقه، من عزة وكرامة، وإقامة العدل، وإحقاق الحق، وإعزاز الخير. المدنية إذن مسؤوليات يتحملها كل فرد من الأفراد تجاه نفسه، وتجاه أمته، بل تجاه الإنسانية جمعاء. والزواج أساس بنيان المدنية، إنّه رباط عظيم الأثر في تقريب الأسر، وربط الجماعات برباط المودة، وآصرة الألفة، ثمّ هو قوي الفاعلية في توحيد الإتجاهات، وتعاون الأفراد والجماعات، يتعاون الزوج مع زوجته، ويتعاون الزوج مع أحمائه، ويعاونونه هم ويسعون لخيره، كما تتعاون أسرة الزوج مع أسرة الزوجة، وتسعى كل واحدة لخير الأخرى ونفعها، وتمتد العلاقات وتتشعب أرجاء الأمة والمجتمع، كما نوه القرآن إلى ذلك بهذه الآية الجامعة: (وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنَ الْمَاءِ بَشَرًا فَجَعَلَهُ نَسَبًا وَصِهْرًا وَكَانَ رَبُّكَ قَدِيرًا) (الفرقان/ 54). والزواج أساس المدنية، لأنّه قائم على الإقدام، الإقدام على أداء الواجب، الواجب الكبير الذي أذيب في أكواب من لذة الميل والتمتع الجنسي. واجب الفرد والجيل نحو الأجيال القادمة، أن تنشأ نشأة صالحة تتيح لها التربية القويمة، وأين هي التربية القويمة، والأخلاق، إلا في ظلال الزواج، وحياة الأسرة المستقرة.   -        واجب الفرد والمجتمع نحو تقدم الحضارة: إنّ وسائل التقدم الإنساني في الصناعة والزراعة والتجارة، وفي كل مرافق الحياة، تزداد تنوعاً، وتزداد مطالبها للأيدي العاملة، تقييم المصانع، وتوسيع نشاطات الأمة، وتنميها، وتزداد مطالبها للجندي المحارب يحمي حوزتها، ويدافع عنها ضد الغزاة الطامعين. والزواج هو السبيل الطبيعي الصحيح، وهو الطريق السوي لإمداد المدنية بالإنتاج البشري الذي يصلح لعمارة الأرض، وتشييد الحضارة. لقد سرت إلينا من حضارة أوروبة عدوى الفوضى الاجتماعية، التي تسمى كذباً – الحرية الشخصية – تلك الفوضى التي تسمح لصاحبها أن يظل بلا زوج، ولا إنشاء عائلي، ليسعى في أرجاء الأرض فساداً، يقضي حاجته الشهوية بالطرق الخبيثة. ومن هذه الشرذمة أولئك الذين يدعون إلى تأخير الزواج، ويحاربون الزواج المبكر، على حين يعلمون أنّ الشاب أمام هذا التبرج لن يصبر طويلاً على العزوبة، إن هؤلاء كأسلافهم من المنافقين يأمرون بالمنكر وينهون عن المعروف تحت ستار من الزيف الباطل، زيف النضج العاطفي، والتفهم للحياة، طبعاً الحياة التي يعرفونها هم، حياة الصعلكة الغريزية، والتشرد الجنسي. ومن عجب أن تجد هؤلاء المتشردين جنسياً يتعللون بتنمية الثروة، وبالخوف أن يضحي أحدهم ببعض رفاهيته أو مطعمه أو ملبسه إذا ما صارت له زوجة أو أولاد. إنّ هذا التعلل يعني آفة قاتلة، ويشير إلى داء يهدد بالخطر، لان مذهباً كهذا إنما يقوم على الآثرة وعلى عبادة المادة وإعظامها، تهدر أمامها مبادئ الأخلاق والفضائل الإنسانية والقيم الدينية.   -        تفصيل فضائل الزواج: للزواج فضائل كبيرة منها:- 1-               تهذيب الأخلاق: وهو مقصد جليل، فإنّ (البر حسن الخلق)، كما ثبت الحديث، واستمرار العزوبة يورث صنوفاً من مساوئ الأخلاق: منها: حدة الطبع، وثوران الغضب بشدة لأتفه سبب، أو لغير سبب، وكم هدأت نفوس كانت مبتلاة بذلك بالزواج، بل بلغ بعضهم بالعزوبة حداً شبيهاً بضعف العقل والجنون. ومن مفاسد العزوبة النرجسية، وهي بغض الجنس الآخر، والحقد عليه، حتى يصير أعدى أعدائه، وذلك انحراف عظيم في فطرة الإنسان. ومنها: التطلع إلى النساء بالحرام، وفي ذلك معاص كثيرة لله تعالى، سوى ما قد تؤدي إليه، من الموبقات حتى أودت بشخص إلى القتل. 2-               توسعة الباطن: أي: إتساع صدر الإنسان، واتصافه بالحلم والأناة في الأمور، وسعة الأفق، وبعد النظر في فهمها، وحسن معالجتها، وذلك أنّ الزواج يلزم الإنسان بالتحمل لما قد يكرهه في معاشرة أبناء النوع، وهم المرأة، وأهلها، وبفضل المودات الجديدة التي تنشأ عن الزواج والمصاهرة، فيزداد المتزوج مخالطة للناس، ويزداد بذلك سعة خلق في معاملتهم، وحسن تفاهم وتصرف في علاج الأمور، وذلك بسبب مهم للنجاح في الحياة، ومن ذلك كان الزواج سبباً للغنى: (إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ) (النور/ 32). 3-               تربية الولد: وأول ذلك تكثير أمة الإسلام، وزيادة قوتها، لذلك يعبر أهالي الجزائر ومنطقة المغرب عن الميلاد بالازدياد، لأن به زيادة عدد المسلمين، ثمّ بزيادة الحسنات في صحيفته، من حسنات ولده، لأنّه سببها بتربية ولده التربية الصالحة، ثمّ ربح الدعاء من ولده الصالح بعد موته، كما ثبت الحديث في الصحيحين: "وولد صالح يدعو له". 4-               القيام بمصالح المسلم العاجز عن القيام بها: وهو الولد قبل قدرته على الاستقلال بنفسه، فيكون بقيامه بمصالحه مأجوراً بالثواب، كذلك المرأة إذا كانت متفرغة لبيتها، فإن زوجها يقوم بالكثير من مصالحها، ويعرض لها إن كانت عاملة عوارض كثيرة تحتاج لعون زوجها، وكل ذلك بر يثاب عليه الزواج. وهذا كله غير ما يجب على الزوج لامرأته من النفقة، والكسوة والسكنى... وهي واجب عليه، وله فيها أجر النفقة، كما ثبت الحديث، وأجر الإعانة على الخير كذلك. 5-               النفقة على الأقارب: وهم هنا الأولاد، وما قد يتفرع منهم، وهي نفقة واجبة، وأجرها عظيم، أعظم من صدقة التطوع، لما هو معلوم أنّ الواجب أفضل من السنة. كما أن فيها عون المستضعف وكفالته، وهذا ثواب آخر جديد. 6-               إعفاف الحرم: أي: إعفاف الرجل زوجه، فتتحصن مزيد تحصن عن الوقوع في الفاحشة وعن التطلع للرجال، وذلك فريضة من الفرائض، كما قال تعالى: (وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحَافِظَاتِ) (الأحزاب/ 35). 7-               دفع الفتن عنه: فلا تتطلع نفسه لما لا يحل له، ولا ينظر إليها، بل بغض بصره، ويقصر لسانه عن محادثتين زيادة على ما ينبغي في التعامل المشروع، وهذه عبادة ثانية، ويأمن من تعلق قلبه بمن لا تحل له بأن يفتن بها، وهذه ثالثة. 8-               إعفاف نفسه عن الفاحشة: وذلك فرض أيضاً، له فضله العظيم، والإخلال به عقابه جسيم أليم. 9-               دفع الفتن عن امرأته: من الأوجه نفسها التي سبق ذكرها، فإن معه الذي معها ومعها الذي معه. 10-            دفع التقتير عنهن: بحبسهن لكفايتهن مسؤولية الخروج لطلب الرزق، فتتفرغ لبيتها وزوجها وولدها، وتقوم بدورها وهو صنع المجتمع على الوجه الأكمل، وفي ذلك أنواع من البر فيها الأجر والثواب. 11-           الاشتغال بتأديب نفسه بالعبودية: وذلك أنّ الزواج يفرغ القلب من شواغل غير شرعية، تحول بين القلب وصفاء التوجه إلى الرب تبارك وتعالى، فالشاب الأعزب تتوجه عواطفه ألواناً شتى، ويندفع للتطرف والتشدد في التدين، أو عكس ذلك فكراً وسلوكاً وكل ذلك عاتق عن التأهيل بالعبودية لله تعالى والاستقامة التامة، فإذا تزوج هدأت مشاعره، وأعانه ذلك على الاشتغال بتكميل نفسه بالترقي في مقامات العبودية لله تعالى، وهي أشرف شيء للإنسان كما في الحديث: "من تزوج فقد أحرز شطر دينه، فليتق الله في الشطر الآخر". 12-           الاشتغال بتأديب أهله بالعبودية: فالزوج يعين زوجه على التكامل والترقي في عبادة الله تعالى كما أنها تعينه على ذلك كما ثبت الحديث في فضل تعاون الزوجين على طاعة الله تعالى، ونص صراحة على قيام الليل. 13-           أن تكون المرأة سبباً لتأهيل غيرها للعبودية: وذلك أنّ الحياة الزوجية تقوي شخصية المرأة، وتحس أن لها سنداً قوياً هو الزوج فتكون أكثر قوة لتأهيل غيرها من النساء والفتيات لعبادة الله تعالى عبادة فيها الترقي في معنى العبودية لله تعالى، ومن ذلك الإرشاد لما فيه نجاح المسلمة في بيتها، وأولادها، وأمور حياتها... وكل ذلك من عبادة الله تعالى. وإنّ هذا ليثير الأسف أن كثيراً من المسلمين يغفلون عن هذا الهدف العظيم، مكتفين بتدين نسائهم، مع أن واجبهم الشرعي يتطلب العمل بالتأهيل لعبادة الله والترقي فيها، رجالاً ونساءً. 14-           أمر الرجل أهله بالصلاة: وهو ما نص عليه القرآن الكريم، قال تعالى: (وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لا نَسْأَلُكَ رِزْقًا نَحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى) (طه/ 132). وقال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلائِكَةٌ غِلاظٌ شِدَادٌ لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ) (التحريم/ 6). 15-           ترابط المجتمع بالمصاهرة: وهذه نضيفها لما ذكره الإمام ابن الهمام – رحمه الله – وقد أشار إليها القرآن الكريم، قال تعالى: (وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنَ الْمَاءِ بَشَرًا فَجَعَلَهُ نَسَبًا وَصِهْرًا وَكَانَ رَبُّكَ قَدِيرًا) (الفرقان/ 54). إنّه مظهر عظيم لقدرة الله تعالى على الخلق، أن خلق من الماء المهين بشراً سوياً، يصنع المصانع، ويفعل ما يفعل، ثمّ هو مظهر عظيم لقدرته تعالى أنّه ربط الخلق جميعاً بعضهم ببعض الزواج بطريق المصاهرة، فصار البعيد قريباً، والأجنبي حبيباً، فهذا الوليد كبر وتزوج فيصير صهراً، ثمّ يصير له أصهار وأختان وقرابات، فارتبطت الأسر بعضها ببعض بروابط التحاب والتعاون والتآزر والحمد لله رب العالمين. إنّ هذا التعداد لخصائص النكاح ينبئك عما غرسه الإسلام في نفوس أتباعه من الوعي الإيجابي في فهم الحياة وازدهارها، ويذكرك أخي الأعزب باستحضار النية لتحقيق هذه الأهداف، كما يذكرك أيها المتزوج لتحصيلها، فليجتهد كل واحد لتحصيل ما يمكنه منها، يثاب على قدر ما يحققه، كما في الحديث المشهور: "وإنما لكل امرئ ما نوى". كما أن ما قدمناه يلقي الضوء على معنى جليل لم ينبه الباحثون عليه، وهو ارتباط الزواج بالدعوة، وتقوية المسلمين، لأنّه يجمع المسلم التقي إلى المسلمة التقية، ويكثر سواد المسلمين بالذرية الصالحة. وقد جاءت الأحاديث النبوية تشير إلى ذلك، كما في حديث معقل بن يسار (رض) أنّ النبي (ص) قال: "تزوجوا الولود، فإني مكاثر بكم الأمم". فهيا معشر الشباب إلى مصنع الحياة، الحياة النامية في فلذات الأكباد، والفراخ الزغب، الحياة في استقرارها العواطف وسكينة النفس.►   *جامعة دمشق – كلية الشريعة

ارسال التعليق

Top