◄قال تعالى: (وَإِنْ كَادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ لِتَفْتَرِيَ عَلَيْنَا غَيْرَهُ وَإِذًا لاتَّخَذُوكَ خَلِيلا) (الإسراء/ 73).
تبيّن الآية إحدى أهمّ معادلات العلاقة بالكفار الذين لا يتخذون خليلاً وحليفاً وصديقاً في حياتهم إلّا بعد أن يميلوا به عن جادّة الهدى ويحرفوه عن منهج الإيمان، بل أكثر من ذلك، فهم لا يرضون بأقلّ من أن يستبدلوا آيات الله بكلامهم ثمّ يطلبوا أن ننسب هذا الكلام إلى الله ظلماً وافتراءً، فيصبح وحي السماء ألعوبة يسخّرونها لمصالحهم ومآربهم وأطماعهم، وهم في سبيل ذلك لا يألون جهداً ولا يوفّرون سعياً، وهذه كانت سياستهم اليومية مع رسول الله (ص) ومع أئمّة الهدى من بعده، وما زلنا نواجه هذه السياسة حتى يومنا هذا.
وتتجلّى الاستقامة في الشخصية الإيمانية في ميادين مختلفة ومتعدّدة أهمّها:
1- الاستقامة الفكرية: وهي الاستقامة في مجال التشريعات الإلهية والقيم والمبادئ التي دعت إليها الشريعة ومختلف الأبعاد العقائدية والأخلاقية لرسالة الإسلام، والاستقامة في هذا الجانب أرقى أنواع الاستقامة، ولقد دأبت قريش على الطلب من رسول الله أن لا يسفّه آلهتهم ولا يسبّها ولا يشتمها ولا ينالها بسوء، أو محاولتهم تقسيم العبادة بين آلهتهم وإله رسول الله (ص)، ومساومة بعضهم له أن يجعل أرضهم حراماً كالبيت العتيق الذي حرّمه الله.
ومن الميل عن هذه الاستقامة ما نشهده اليوم من وعّاظ السلاطين وعلماء البلاط من إطلاق الأحكام الشرعية والفتاوى الفقهية التي ما أنزل الله بها من سلطان، والتي يبيحون فيها الدماء والأعراض والممتلكات ويحرمون فيها التعامل والتودّد إلى إخوانهم المسلمين، وكلّ ذلك من أجل أطماع دنيويّة زائلة وتقوية نفوذ أسيادهم وأرباب نعمتهم.
2- الاستقامة في الميدان الاجتماعي: وهي الاعتدال في مقام التعامل مع الناس وتربيتهم وتعليمهم واستقطابهم والمساواة بينهم، والحكم بينهم بالعدل، وإعطاء كلّ ذي حقّ حقّه، وعدّ الاستقواء عليهم بل الإحسان إليهم ومعاملتهم بالحسنى والكلمة الطيِّبة، وحثّهم على العمل الصالح وفضائل الأعمال وتحذيرهم من عواقب السيِّئات والأعمال الخاطئة ومفاسد الأمور.
ومن الميل عن الاستقامة في هذا الجانب كقبول الرشاوى بعنوان الهديّة والتقرّب من أصحاب المال والثروات طمعاً وجشعاً وتقديمهم في المجالس على حساب الفقراء والعبيد والطبقة الفقيرة من الناس وأن يجعل لهم مجلساً خاصّاً، وتقييم الناس وفق الهوى بعيداً عن الضوابط الشرعية كتقريب مَن له هوىً بهم وإبعاد مَن هم على غير هواه، وغير ذلك من الأمور التي تجنح بالمؤمن عن جادّة الاستقامة.
3- الاستقامة في الميدان السياسي: وتعني عدم التفريط في حقوق المسلمين وشؤونهم العامّة، وفي إدارة السلطة وضرورة المحافظة على مقدّرات المسلمين وثرواتهم، ومقدّرات بلادهم، وعدم إباحتها لأعداء الدين وبلاد المشركين لنهبها وتحسين أوضاعهم الحياتية والمعيشيّة على حساب المسلمين.
ومن الميل عن الاستقامة في الميدان السياسي استغلال المنصب لمصالح خاصّة ومداهنة أهل النفاق والضلالة والتودّد إليهم وإبرام الصفقات معهم فضلاً عن إدخال المسلمين في نزاعات وحروب وفتن وخلافات داخلية لحساب فئةٍ أو جماعة ممّن هم على هواه.
أسباب الانحراف عن الاستقامة:
ولا شكّ أنّ هناك أسباباً كثيرة لا يمكن إحصاؤها تدفع المؤمن للانحراف عن جادة الهدى ومبدأ الاستقامة في حياته الإيمانية، إلّا إنّنا هنا نقف على أهم وأبرز هذه الأسباب، وهي:
1- التعجّل بتحقيق تقدّم في الرسالة: وذلك بتوهّم أنّ دخول بعض الأشخاص المناوئين سيّما إن كانوا من ذوي السلطة والتأثير في أتباعهم والنفوذ في محيطهم، أو من ذوي الكفاءة والخبرة في بعض ميادين العمل، سيؤدّي إلى تقدّمٍ سريع ومزيدٍ من الظهور، فينحرف عن الاستقامة ويقدّم بعض التنازلات المبدئيّة طمعاً في ذلك.
وهذا ما نشهده اليوم من تقديم بعض الدول العربية والإسلامية التنازلات في القيم والمبادئ الإسلامية لبلاد الغرب طمعاً في مساعدتهم على نشر نفوذهم والتأثير في البلاد الأخرى حتى ولو كانت إسلامية.
2- التأثّر بثقافة الآخرين: وهو من أخطر الأسباب التي نرى تأثيراتها اليوم في مجال ميل الناس عن مبدأ الاستقامة سيّما أمام التقدّم العلميّ الذي شهده الغرب في الآونة الأخيرة فانبهر به الكثيرون من ضعاف الإيمان فعطّلوا عقولهم وبرمجوها بما يخدم أعداء الدين، وانساقوا في متاهات الغرب فوقعوا في مستنقعات الفساد والرذيلة وراحوا يتخبّطون في ثقافات غريبة عنهم وعن قيمهم الدينية السامية.
وهذا التأثر لم يقتصر على ميدانٍ من الميادين أو على شريحةٍ من شرائح المجتمع دون سواها، بل غزا كافّة ميادين الحياة السياسية والاجتماعية والسلوكية وغيرها، وطال مختلف الشرائح العمرية والطبقات الاجتماعية سيّما عنصر الشباب الذي يحاول الغرب جاهداً إمّا الاستفادة منه في بلاده أو تركه في وطنه فريسة البرامج اللاأخلاقية ومراكز الفساد، وهذا الأمر من الأمور التي تحتاج إلى بحثٍ خاصّ والتي يتمّ البحث فيها اليوم تحت عنوان الحرب الناعمة.
3- سوء التقدير في الموقف: كأن يتوهّم أهل الإيمان أنّ الإنحراف عن مبدأ الاستقامة شيئاً قليلاً كالتنازل عن الأمور البسيطة أو مجاراتهم في بعض ما يقولون أو تقديرهم ما لا يستحقّون من تكريم وتقدير قد يؤدّي إلى توعيتهم واستيعابهم شيئاً فشيئاً، فإنّ مبدأ الاستقامة مبدأ رسالي وليس سلوكاً شخصيّاً فقد يفيد ذلك في المسائل الشخصية والأمور الخاصة أو المرونة في بعض أساليب العمل وأدواته دون التنازل عن شيءٍ من مبادئ الرسالة والتغيير في آيات الوحي ممّا يؤثّر في ثبات المرء ويزعزع إيمانه.
4- ضعف الروحية الإيمانية: كأن يصيب المؤمن خوف من الأعداء فيحاول أن يدرأ مكائدهم ومؤامراتهم بشيء من المسايرة والمداهنة، وهو يوهم نفسه أنّه بذلك يحقن الدماء ويخفّف من المعارك والحروب، أو يحاول أن يساير مَن معه ممّن لا يرغبون بالحرب وأخلدوا إلى الدنيا ونعيمها، فيتّخذ بعض المواقف التي تنافي الاستقامة الروحية والإيمانية لأهل الإيمان، وقد لفت الله تعالى إلى ذلك بقوله: (وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ) (القلم/ 9).►
مقالات ذات صلة
ارسال التعليق