موسم الحج هو ملتقى سنوي كبير، حيث يجتمع في مكان واحد نحو ثلاثة ملايين مسلم جاءوا من مشارق الأرض ومغاربها، كل بعاداته وتقاليده ومفاهيمه الصحية، هذا الجمع الضخم يكون سبباً مباشراً ووسطاً مناسباً لانتقال كثير من الميكروبات والأمراض، في الوقت الذي يتوق فيه كل حاج إلى أداء فريضته بسهولة ويُسر.
الحج فضلاً عن كونه يؤكّد الإيمان بالله تعالى وحده، فهو يؤكد وحدة الأُمّة من خلال وحدة الشعائر في المكان والزمان، والوجود الآمن ضمن هذا الحشد الكبير، يلزمه التقيّد بعدد من الممارسات الوقائية والصحية لضمان عدم التعرُّض للمشكلات الصحية التي ترتبط بالازدحام والإجهاد والوجود في أماكن مكتظة. وفي سبيل حج مبرور بغير متاعب ولا أمراض، يُحدِّثنا الدكتور أحمد محمد عبدالله، اختصاصي أمراض المناطق الحارة، إدارة الطب الوقائي، مدينة الشيخ خليفة الطبية، عن أهم الإرشادات الصحية التي ينبغي أن يتّبعها الحاج، حتى يؤدِّي فريضته بيسر وعافية.
وهو يشير في بداية حديثه إلى أنّ كثيراً من الأمراض التي تنتشر في فترة الحج هي من الأمراض التي يمكن الوقاية منها أو التحكُّم فيها، وهي تأتي نتيجة لأسباب عديدة، منها تزاحُم الحجاج في أماكن أداء العبادات، وما قد يترتّب على ذلك من حالات الإجهاد بسبب المشي الكثير أو السهر أو التعرُّض لضربات الشمس، خصوصاً أنّ كثيراً من الحجاج يكونون من كبار السن، ما يجعلهم أكثر عُرضة للأمراض والإصابات. مع تأكيد أنّ قلّة الوعي الصحي لدى الحجاج القادمين من شتّى بقاع الأرض، تلعب دوراً رئيسياً في رفع احتمالات انتقال عدوى كثير من الأمراض أثناء الحج.
- الإستعدادات الصحية قبل الحج:
وتنقسم إلى شقين: الشق الأوّل يشمل التطعيمات الخاصة بالحج، حيث يؤكد الدكتور أحمد عبدالله، أن أخذ التطعيمات قبل الذهاب إلى الحج بفترة كافية أمرٌ ضروري لتحقيق وقاية تامّة من الأمراض، لافتاً الانتباه إلى أنّ التطعيمات التي يوصى بأخذها قبل الحج منها ما هو إلزامي، ومنها هو اختياري، ويمكن تلخيصها فيما يلي:
- الحمّى الشوكية "التهاب السحايا":
وهو من التطعيمات الأساسية التي تشترط الحكومة السعودية أخذها قبل السفر إلى الحج، والحمّى الشوكية من الأمراض المعدية الخطيرة التي كانت أكثر انتشاراً في العقدين السابقين، لكنها الآن تحت السيطرة، حيث لم تحدث مؤخراً إصابات وبائية بالمرض، الذي تنتقل عدوى الإصابة به بواسطة الرذاذ المتاطير من الفم والأنف، لتصيب أغشية المخ والنخاع الشوكي، وتؤدي غالباً إلى الوفاة أو حدوث إعاقات عصبية في حالة تأخُّر العلاج.
أمّا اللقاح فهو عبارة عن جرعة واحدة "نصف ملل"، تُحقَن تحت الجلد، يجب أن يؤخذ اللقاح قبل السفر بـ10 أيام على الأقل، ويستمر مفعوله 3 سنوات، يلزم التطعيم بعدها عند السفر مجدداً إلى الحج. ويُعطى اللقاح إلى البالغين والأطفال ابتداء من عمر سنتين، أمّا الأطفال ما بين عمر 3 أشهر وعامين، فيتم إعطاؤهم جرعتين من لقاح خاص بفارق زمني 3 أشهر، بين الجرعتين.
- الإنفلونزا:
يرتفع معدّل الإصابة بأمراض الجهاز التنفسي في موسم الحج، خاصة الإنفلونزا، وهناك أنواع عدّة من فيروسات "الإنفلونزا" تصيب الإنسان، ويختلف نوع الفيروس من مكان إلى آخر، كما يمكن أن تجتمع سلالات عدّة من الفيروس في وقت واحد. وتُعبَبَر "الإنفلونزا" الحادة مهددة للحياة بالنسبة إلى كبار السن والأطفال أقل من 5 سنوات، لذلك يُنصح بإعطائهم اللقاح ضد "الإنفلونزا"، وهو اختياري، على أن يتم التأكد من أنّه مطابق لتوصيات الجهات الصحية في المملكة العربية السعودية، التي تصدر سنوياً بهذا الخصوص.
- الالتهابات الرئوية وغيرها:
ويُسمّى لقاح "نيموكوكس"، وهو لقاح خاص لا يُعطى لكل الحجاج، لكنّه يُعطى للمرضى المصابين بالأنيميا المنجلية، أو الفشل الكلوي، أو نقص المناعة، أو المرضى الذين تم استئصال الطحال لديهم، كما يمكن إعطاؤه للحجاج كبار السن، أو الذين يعانون أمراضاً مزمنة في الكبد أو القلب أو الرئة. كما ينصح بأخذ اللقاحات الخاصة بالتيفوئيد والتهاب الكبد النوع "أ" قبل وقت كافٍ من السفر "حوالي شهر".
- تطعيم الأطفال:
يتأكد من استكمالها التطعيمات الأساسية ضد أمراض الطفولة المعدية، إضافة إلى التطعيمات الخاصة بالحج.
أمّا الشق الثاني من الاستعدادات الصحية للحج، فيشمل مجموعة من النصائح العامة التي يجدر الاهتمام بها أثناء التحضير للحج، خصوصاً كبار السن، الذين يعانون أمراضاً مزمنة، حيث يبدأ التحضير للحج بمراجعة الطبيب، للتأكد من استقرار الحالة الصحية والقدرة على الحج. وينصح هؤلاء الحجاج بحمل بطاقة خاصة، يُفضّل أن تكون سواراً حلول المعصم، تُبيِّن تشخيص المرض ونوع العلاج والجرعة لتسهيل عملية إسعاف المريض في حال الحاجة إلى ذلك، كما يُفضِّل أيضاً اصطحاب تقرير طبي يُوضّح التشخيص والعلاج والجرعات، مع تأكيد أهمية أخذ كمية كافية من الأدوية التي يستخدمها أي مريض، لاحتمال عدم توافرها بسهولة في أماكن أداء مشاعر الحج.
- متاعب صحيّة شائعة:
يستعرض الدكتور أحمد عبدالله، مجموعة من المشكلات الصحية التي تُعتَبَر الأكثر شيوعاً في الحج، وأعراضها وكيفية علاج كل منها:
- أزمات الربو:
تكثر الإصابة بنوبات الربو في موسم الحج عند الأشخاص المصابين، بسببب تعرّضهم للمواد المثيرة للحساسية، مثل الغبار والأتربة، إضافة إلى انتشار الإصابة بالتهابات الجهاز التنفسي التي تعمل على ظهور نوبات الربو.
ويُنصح مرضى الربو بتناول الأدوية بانتظام، قبل السفر إلى الحج، مع استعمال الحبوب التي تُعطى للوقاية للتقليل من احتمالات حدوث نوبات الربو، مع اصطحاب كمية كافية من الأدوية، خصوصاً البخاخ، للسيطرة السريعة على النوبة، والذهاب إلى أقرب مركز رعاية صحية في حالة عدم الاستجابة للبخاخ، بأن نوبة الربو الحادة يمكن أن تهدد الحياة.
- الإنهاك الحراري وضربات الشمس:
إنّ تعرُّض الحجيج لأشعة الشمس لوقت طويل، والتعرُّق وعدم شرب كميات كافية من الماء، ربّما تؤدي إلى إجهاد حراري، ويمكن أن تؤدي إلى ضربة الشمس، التي تُعتَبَر حالة مَرَضيّة طارئة، لذلك يجب الاحتياط بعدم التعرُّض لأشعة الشمس المباشرة وقتاً طويلاً، كما يُنصح بشرب كميات كافية من الماء والعصير، خصوصاً عصائر الحمضيات لاحتوائها على الأملاح.
يحدُث الإنهاك الحراري في حالة نقص الماء والملح في الجسم، أو نقص أحدهما نتيجة الإجهاد الشديد، يُصاحبه عادة إحساس بالإرهاق والعطش، مع غثيان وتشنجات نتيجة ارتفاع درجة الحرارة، خصوصاً في عضلات البطن والساقين، ويتم علاج الإنهاك الحراري بإعطاء محلول ملحي، مع تدليك العضلة المتشنجة برفق ونقل المصاب إلى مكان ظليل وتبريد جسمه برشه بالماء.
أما ضربات الشمس، فإنّ أكثر الأشخاص عرضة للإصابة بها، هم القاطنون في المناطق الباردة، وكبار السن، ومرضى السكري، والفشل الكلوي، والإسهال، وأعراض ضربة الشمس، هي إغماء وتشنجات نتيجة ارتفاع حرارة الجسم، وعلاجها يكون بالحفاظ على تنفّس المصاب، والتأكد من أن لا شيء يعوق مجرى التنفس عنده، لأنّه عادة يكون فاقداً للوعي، مع عدم إعطائه أي سوائل عن طريق الفم لمنع وصولها إلى الرئتين، وينبغي نقله إلى أقرب مركز لعلاج ضربات الشمس.
كما تُعتَبَر الحروق الجلدية الناتجة عن تعرُّض الجلد لأشعة الشمس المباشرة لفترة طويلة من المشكلات الشائعة في الحج، حيث تبدأ البشرة بالاحمرار، ثمّ تظهر عليها فقاقيع مائية يصاحبها ألم شديد، وعلاجها يتم بنقل المصاب إلى مكان ظليل، مع استخدام الكمادات الباردة ووضع مرهم للحروق مثل سلفات الفضة وتغطيتها بشاش طبي مُعقّم جاف، إلى حين مراجعة الطبيب.
- أمراض الجهاز الهضمي:
تُعتَبَر النزلات المعوية والتسمم الغذائي، من أكثر الأمراض انتشاراً في موسم الحج، نتيجة تناول أطعمة ملوّثة أو عدم مراعاة الاحتياطات الصحية في ما يتعلق بحفظ الأطعمة ونظافتها، ما يؤدي إلى انتقال الجراثيم والسموم المسببة للنزلات المعوية والتسمم الغذائي. وتظهر الأعراض على صورة قيء وإسهال مع آلام في البطن، ولعلاج الحالة يُنصح بالإكثار من شرب السوائل والعصائر، وتناول محلول معالجة الجفاف، بعد إذابته في ماء مُعقّم، وفي حال استمرار الإسهال لأكثر من 24 ساعة، تلزم مراجعة أقرب مركز صحي، كذلك عند حدوث إسهال مصحوب بمخاط أو دم أو حمى.
- التهابات الجهاز التنفسي:
وتنتشر الإصابة بالتهابات الجهاز التنفسي العلوي في موسم الحج، وتتسبب فيها أنواع عديدة من الفيروسات والبكتيريا، وتكون الأعراض عادة عبارة عن ارتفاع في درجة الحرارة مع احتقان في الحلق. ويمكن لالتهابات الجهاز التنفسي العلوي بما في ذلك "الإنفلونزا"، أن تتحول إلى التهاب في الجهاز التنفسي السفلي، ما يتبع ذلك من سعال وبلغم وآلام في الصدر وضيق في التنفس، ويكون السبب وراء ذلك، إصابات بكتيرية غالباً، حيث يجب أخذ المضادات الحيوية المناسبة تحت الإشراف الطبي اللازم.
- إغماءات السكّري:
يحدُث أن يُصاب الحاج بالإغماء، خصوصاً إذا كان مريضاً بالسكري، ويجب هنا التفريق بين الإغماء الناتج عن زيادة نسبة السكر في الدم، وبين الإغماء الناتج عن النقص الشديد في مستوى السكر، إثر تناول جرعة كبيرة نسبياً من الأنسولين. ففي الحالة الأولى يجب نقل المريض بسرعة إلى أقرب مركز صحي.
أما في الحالة الثانية، فيُعاني المريض تشنجات واضحة ورعشات في الجسم، مصحوبة بعرق غزير، ويمكن هنا ترطيب حلق المريض بمصدر سريع للسكر، مثل عسل النحل قبل إعطائه جلوكوزاً عن طريق الوريد. وإذا كان المريض في حالة إدراك، فيجب إعطاؤه ما يعادل 15 ملج من المواد النشوية سريعة الامتصاص، مثل نصف كوب من عصير الفواكه، أو كوب من الحليب أو 5 قطع من السكاكر.
- إرشادات عامة أثناء الحج:
هناك مجموعة من النصائح المهمة والبسيطة في آن واحد، يضمن تطبيقها تحقق نسبة مرتفعة من الوقاية من كثير من المشكلات الصحية الشائعة في الحج، من أهم تلك النصائح أخذ قسط وافر من الراحة قبل وبعد أداء كل شعيرة من شعائر الحج، بهدف إعادة الحيوية إلى الجسم مع الإكثار من شرب السوائل، كالماء والعصير واللبن وغيرها، ويُفضِّل تجنُّب الطّواف والسعي وقت الظهيرة، مع استخدام المظلَّة الواقية من الشمس.
كما يُنصح باتباع إرشادات النظافة والصحة العامة، خصوصاً في ما يتعلق بالأطعمة، حيث يُفضَّل تناول الأغذية المغلّفة أو المحفوظة، مع التأكد من تاريخ صلاحيتها، وتجنُّب تناول الفواكه والخضار الطازجة إذا لم يتم التأكد من أنها مغسولة بشكل جيِّد جدّاً. كما يُنصح بتناول الطعام في اليوم نفسه، والتخلُّص من أي أطعمة لم يتم استهلاكها، إذا لم يتوافر وضعها في الثلاجة، يُفضَّل تناول الأطعمة الخفيفة المفيدة للجسم، وغير المهيّجة للأمعاء، والتوجُّه إلى أقرب مركز صحي في حالة الشعور بأي أعراض غير طبيعية.
- الحقيبة الطبية:
وهي تحتوي على مجموعة من الأدوية قد يحتاج إليها الحاج إلى حين مراجعة المركز الصحي، وتشمل دواء خافضاً للحرارة، مضاداً للسعال وطارداً للبلغم، كريمات وفازلين وبودرة، كريمات أو مراهم لإصابات العضلات، كريمات وضمادات للجروح، أملاح تعويضية عن طريق الفم، مثل أملاح الصوديوم والبوتاسيوم التي قد يحتاج إليها الحاج لضربات الشمس والإرهاق الحراري أو نوبات الإسهال الشديدة.
إضافة إلى الأدوية الخاصة التي يتناولها الحاد، مثل أدوية السكري وارتفاع ضغط الدم والربو وأمراض القلب، وغيرها حسب حالة كل حاج، مع مراعاة أن تكون كمية الدواء كافية، وأن يتم حفظها بالطريقة السليمة، سواء أكان في ثلاجات أم حافظات خاصة مثل الأنسولين.
- كمامات الأنف:
ينتشر بين الحاج استخدام كمامات الأنف والفم للوقاية من التقاط العدوى بالأمراض أثناء الحج، وتجدر الإشارة إلى أنّ هذه النوعية من الكمامات لم تُعد لمثل هذا الاستخدام الشديد، بل على العكس فقد تجمع تلك الكمامات كميات من الأتربة والغبار أثناء استخدامها لفترات طويلة، من دون وجود ما يُثبت علمياً أنّها تقي الجراثيم والغبار، لذلك إذا كان لابدّ من استخدامها فينصح بتغييرها بصفة مستمرة.
ارسال التعليق