◄المحاسبة هي محاسبة النفس كلّ يوم عمّا عملته من الطاعات والمبرات، أو اقترفته من المعاصي والآثام، فإن رجحت كفة الطاعات على المعاصي، والحسنات على السيِّئات، فعلى المحاسب أن يشكر الله تعالى على ما وفقه إليه وشرّفه به من جميل طاعته وشرف رضاه. وإن رجحت المعاصي، فعليه أن يؤدِّب نفسه بالتأنيب والتقريع على شذوذها وانحرافها عن طاعة الله تعالى. وأمّا المراقبة: فهي ضبط النفس وصيانتها عن الإخلال بالواجبات ومقارفة المحرمات.
وجدير بالعاقل المستنير بالإيمان واليقين، أن يروّض نفسه على المحاسبة والمراقبة فإنّها «أمّارة بالسوء»: متى أهملت زاغت عن الحقّ، وانجرفت في الآثام والشهوات، وأودت بصاحبها في مهاوي الشقاء والهلاك، ومتى أُخذت بالتوجيه والتهذيب، أشرقت بالفضائل، وازدهرت بالمكارم، وسمت بصاحبها نحو السعادة والهناء، (وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا * فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا * قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا) (الشمس/ 7-10).
هذا إلى أنّ للمحاسبة، والمراقبة أهميّة كبرى في تأهب المؤمن، واستعداده لمواجهة حساب الآخرة، وأهواله الرهيبة، ومن ثمّ اهتمامه بالتزوّد من أعمال البرّ والخير الباعثة على نجاته وسعادة مآبه.
لذلك طفقت النصوص تشوّق، وتحرّض على المحاسبة والمراقبة بأساليبها الحكيمة البليغة:
قال الإمام الصادق (ع): «إذا أراد أحدكم أن لا يسأل ربّه شيئاً إلّا أعطاه، فلييأس من الناس كلّهم، ولا يكون له رجاء إلّا من عند الله تعالى، فإذا علم الله تعالى ذلك من قلبه لم يسأل شيئاً إلّا أعطاه، فحاسبوا أنفُسكم قبل أن تُحاسبوا عليها، فإنّ للقيامة خمسين موقفاً كلّ موقف مقام ألف سنة، ثمّ تلا (فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ)».
وقال الإمام موسى بن جعفر (ع): «ليس منّا مَن لم يحاسب نفسه في كلّ يوم، فإن عمل حسنة استزاد الله تعالى، وإن عمل سيِّئة استغفر الله تعالى منها وتاب إليه». وقال الإمام الصادق(ع) لرجل: «إنّك قد جُعلتَ طبيب نفسك، وبُيّن لك الداء، وعُرّفت آية الصحّة، ودُلِلت على الدواء، فانظر كيف قياسك على نفسك».
وعن الإمام موسى بن جعفر (ع) عن آبائه (ع) قال: «قال أمير المؤمنين (ع): إنّ رسول الله (ص) بعث سرية، فلما رجعوا قال: مرحباً بقوم قضوا الجهاد الأصغر، وبقي عليهم الجهاد الأكبر. قيل: يا رسول الله، وما الجهاد الأكبر؟ قال: جهاد النفس. ثمّ قال: أفضل الجهاد مَن جاهد نفسه التي بين جنبيه».
دستور المحاسبة
لقد ذكر المعنيون بدراسة الأخلاق دستور المحاسبة والمراقبة بأسلوب مفصّل ربّما يشقّ على البعض تنفيذه، هنا نعرضه مجملاً وميسراً في أمرين هامين:
1- أوّل ما يجدر محاسبة النفس عليه أداء الفرائض التي أوجبها الله تعالى على الناس، كالصلاة والصيام والحجّ والزكاة ونحوها من الفرائض، فإن أدّاها المرء على الوجه المطلوب، شُكر الله تعالى على ذلك ورجّى نفسه فيما أعد الله للمطيعين من كرم الثواب وجزيل الأجر.
وإن أغفلها وفرّط في أدائها خوّف نفسه بما توعّد الله العصاة والمتمردين عن عباده بالعقاب الأليم، وجد في قضائها وتلافيها.
2- محاسبة النفس على اقتراف الآثام واجتراح المنكرات، وذلك: بزجرها زجراً قاسياً، وتأنيبها على ما فرّط من سيِّئاتها، ثمّ الاجتهاد بملافاة ذلك بالندم عليه والتوبة الصادقة منه.
ولقد ضرب النبيّ (ص) أرفع مثل لمحاسبة النفس، والتحذير من صغائر الذنوب ومحقراتها.
قال الإمام الصادق (ع): «إنّ رسول الله نزل بأرض قرعاء، فقال لأصحابه: ائتونا بحطب. فقالوا: يا رسول الله نحن بأرض قرعاء ما بها من حطب. قال: فليأتِ كلّ إنسان بما قدر عليه، فجاءوا به حتى رموا بين يديه بعضه على بعض، فقال رسول الله (ص): هكذا تجتمع الذنوب.
ثمّ قال: إيّاكم والمحقرات من الذنوب، فإنّ لكلّ شيء طالباً، ألا وإنّ طالبها يكتب (مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ وَكُلَّ شَيْءٍ أحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ)».
اغتنام فرصة العمر
لو وازن الإنسان بين جميع مُتع الحياة ومباهجها، وبين عمره وحياته لوجد أنّ العمر أغلى وأنفس منها جميعاً، وأنّه لا يعدله شيء من نفائس الحياة وأشواقها الكثيرة، إذ من الممكن اكتسابها أو استرجاع ما نفر منها. أمّا العمر فإنّه الوقت المحدّد الذي لا يستطيع الإنسان إطالة أمده، وتمديد أجله المقدر المحتوم (وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ) (الأعراف/ 34).
كما يستحيل استرداد ما تصرّم من العمر، ولو بذل المرء في سبيل ذلك جميع مقتنيات الحياة. وحيث كان الإنسان غفولاً عن قيم العمر وجلالة قدره، فهو يسرف عابثاً في تضييعه وإبادته، غير آبه لما تصرّم منه، ولا مغتنم فرصته السانحة.
من أجل ذلك جاءت توجيهات آل البيت (ع) موضحة نفاسة العمر، وضرورة استغلاله وصرفه فيما يوجب سعادة الإنسان ورخائه في حياته العاجلة والآجلة.
قال سيِّد المرسلين (ص) في وصيته لأبي ذر: «يا أبا ذر، كُن على عمرك أشحّ منك على درهمك ودينارك».
وقال أمير المؤمنين (ع): «إنّما الدُّنيا ثلاثة أيّام: يوم مضى بما فيه فليس بعائد، ويوم أنت فيه فحقّ عليك اغتنامه، ويوم لا تدري أنت من أهله، ولعلّك راحل فيه. أمّا اليوم الماضي فحكيم مُؤدب، وأمّا اليوم الذي أنت فيه فصديق مودّع، وأمّا غد فإنّما في يديك منه الأمل».
وقال (ع): «ما من يوم يمر على ابن آدم، إلّا قال له ذلك اليوم: أنا يوم جديد، وأنا عليك شهيد، فقل فيّ خيراً، واعمل فيّ خيراً، أشهد لك به يوم القيامة، فإنّك لن تراني بعد هذا أبداً».
ورُوِي أنّه جاء رجل إلى عليّ بن الحسين (ع) يشكو إليه حاله، فقال: «مسكين ابن آدم، له في كلّ يوم ثلاث مصائب لا يعتبر بواحدة منهن، ولو اعتبر لهانت عليه المصائب وأمر الدُّنيا: فأمّا المصيبة الأُولى: فاليوم الذي ينقص من عمره. قال: وإن ناله نقصان في ماله اغتم به، والدهر يخلف عنه والعمر لا يردّه شيء. والثانية: إنّه يستوفي رزقه، فإن كان حلالاً حُوسِبَ عليه، وإن كان حراماً عوقب. قال: والثالثة أعظم من ذلك. قيل: وما هي؟ قال: ما من يوم يمسي إلّا وقد دنا من الآخرة مرحلة، لا يدري على جنّة أم على نار. وقال: أكبر ما يكون ابن آدم اليوم الذي يوُلد من أُمّه».
«قالت الحكماء ما سبقه إلى هذا أحد».►
مقالات ذات صلة
ارسال التعليق