• ٢٤ تشرين ثاني/نوفمبر ٢٠٢٤ | ٢٢ جمادى الأولى ١٤٤٦ هـ
البلاغ

فن الإصغاء في العلاقات

فن الإصغاء في العلاقات
هل رأيتم مفتاح السيارة؟ ما نسبة حجمه بالنسبة إليها؟ إنّه صغير جدّاً، ولكن عندما نفتقده، تتعطل السيارة عن الحركة.. مفتاح صغير جدّاً، ولكنه محرك لسيارة ضخمة، أو شاحنة، أو طائرة... في العلاقات الإنسانية أيضاً، هنالك قضايا صغيرة، ولكنها تشكل دعامات هامة في توطيد العلاقة، وإستمرار الصداقة. ذلك إنّ المعتاد بين بني الإنسان، أن يكون التفاهم والتلاقي، على القضايا البسيطة ثمّ تتطور العلاقة، وهكذا تكون الأمور الصغيرة هي اللبنات الأولى التي يجب الاهتمام بها.. والاستماع مثلاً.. قضية عادية متداولة يومياً عند الناس، إلا أنّ القليل منا يحسن إستخدامه، وهو من الفنون الصغيرة، ذات الأثر الكبير في العلاقة مع بني الإنسان. ففي الكلام.. كلنا نحب أن نكون متكلمين جيدين، وبشكل أو بآخر نحسن ذلك، ولكن القليل منا يحسنون فن الاستماع. والإنسان في التكلم لا يحتاج كثيراً إلى التعلم ولكن في الاستماع هو بحاجة إلى أن يتدرب.. والناس عادة يرغبون في من يستمع إليهم أكثر من رغبتهم فيمن يتحدث إليهم، وهذا راجع إلى انّ الإنسان يرى التوقير حينما يتكلم، فإذا وجد من يستمع له، وجد من يحترم شخصيته، ويبجله. ونحن في الطفولة تعلّمنا كيف نتكلم، الا ان أحداً لم يقم بتعليمنا فن الاستماع، لذا فإنك أحياناً قد تدخل مجلساً فترى كل الحاضرين يتكلمون، ولا تدري من المستمع فيهم؟.

 يقول أحد الكتاب:

دعيت إلى حفل، وجلست فيه إلى جوار شخص يتكلم كثيراً، فقررت أن أستمع إليه دون مقاطعة وأن لا أتكلم في شيء. وحينما انتهى الاحتفال.. نقل لي انّ هذا الرجل الذي انصت إليه كثيراً، مدحني قائلاً اني لبق في الحديث وان لي أسلوباً مؤثراً في الاقناع مع انني لم أتكلم، بل استمعت فقط! وهذه ليست نكتة طريفة، بل هي حكمة: "لان من يستمع جيِّداً، يتكلم جيِّداً، وكل من لا يسمع، لا يتكلم". ولذلك فإنّ الطفل الذي يولد مصاباً في اذنه ولا يسمع يصبح أخرساً لأنّه لم يسمع شيئاً لكي يتعلم كيف يتكلم. ودينياً الاستماع مطلوب: يقول الله تعالى: (الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ) (الزمر/ 18). فانت لست مكلفاً باتباع كل ما تسمع، ولكنك لابدّ أن تسمع حينما يكون هنالك قائل، ومن ثمّ تختار أحسن القول فتتبعه. ففي الاستماع كن اذناً صاغية، لما يقال، أما في العمل فحكّم عقلك، فليس كل متكلم صادق في كلامه، وليس كل كلام في حد ذاته صحيحاً. ولقد أدرك بعض التجار أهمية الاستماع للآخرين لكسبهم، فتلاحظ أن بعضهم لا يتكلمون كثيراً مع المشتري، وكل ما يقومون به أنهم يتركون المجال له كي يتكلّم وهم اذن صاغية له، فيوحون بذلك للمشتري انّهم يحترمونه فتأخذه هذه العزة، ويقوم بشراء ما يريد وما لا يريد. ويذكر العاملون في مجال العلاقات الاجتماعية، ان سر نجاح مقابلاتهم مع الشخصيات الكبيرة لإستماعهم الجيِّد لهم أثناء الحديث معهم. وقد قيل ان أشد الناس جفافاً في الطبع وغلظة في القول، لا يملك الا أن يلين أمام مستمع صبور عطوف، يلوذ بالصمت كلما أخذ محدثه يصول ويجول في الكلام. بل ولربما تذهب إلى شخص تريد الدخول معه في معركة تهشم عظامه، فيواجهك صاغياً إلى كلامك فتتراجع عن قرار المعركة، وهكذا فإنّه بصمته يسحب البساط من تحت رجليك منتصراً عليك. إنّ سلاح الصمت والاستماع الجيد، هو أفضل سلاح في هذه الحالة.   - صفوف للإصغاء: يتفق أحياناً كثيرة، وسط جمهور من المستمعين، ان واحداً فحسب من بين أربعة أشخاص يفهم فهماً جلياً ما يقوله المتحدث أو الخطيب. ولذا انشأت بعض الأندية، بغية شحذ ملكة الاصغاء والاستماع لدى المنتسبين إليها، صفوفاً خاصة دعتها "صفوف الاصغاء". يقرأ أحد الحضور نصاً بصوت مرتفع، في حين يحصر الباقون، الجالسون حول المائدة، تفكيرهم في أقواله. ومن ثمّ يوجز كل واحد منهم ما اصغى إليه واستمع. وبعد ذلك تقارن النقاط التي يحصل عليها كل واحد، مما يتيح ملاحظة فروق كبيرة في هذه النقاط الممنوحة لهم. وشيئاً فشيئاً، يكتسب المستمعون ملكة الاصغاء... قال أحد هؤلاء: "لقد اكتشفت لدي ميلاً جديداً، وهو إنني فاجأت نفسي محاولاً تفسير أفكار أصدقائي وزملائي ليس من وجهة نظري الشخصية كما كانت العادة، ولكن بوضع نفسي مكانهم".  

 - إرشادات في فن الإصغاء:

كثيرون منا لا يعرفون كيف يصغون. فيما يلي بعض الارشادات المفيدة التي تحسن مهارتك. جربها أمام أوّل صوت يطرق سمعك. في هذا العصر، عصر التلفون، والراديو، والتلفزيون، يقضي معظمنا وقتاً أطول في الإصغاء إلى الكلمة المحكية. ففي دراسة استغرقت شهرين، جرت وتناولت الاتصالات الشخصية لثمانية وستين شخصاً في مختلف الأعمال، تبين أن 75 بالمائة من مواضيع النهار تتم بالاتصال الشفهي، بمعدل 30 بالمائة للحديث، و45 بالمائة للإصغاء أو الاستماع. ومع ذلك فإن معظمنا لا يعرف كيف يصغي.. وقد قام استاذان في إحدى الجامعات طوال سنتين بدراسة وقياس القدرة على الاصغاء لدى الآلاف من التلامذة. كما قاما أخيراً بدراسة تلك القدرة لدى العشرات من العاملين في حقل التجارة والمهن الحرة، فكان الشخص المتوسط هو "نصف مصغ". حتى عندما يحاول فإنّه لا يحفظ إلا حوالي 50 بالمائة مما يسمعه مباشرة بعد سماعه. يقول مدير التدريب في أحد المخازن الكبرى: "هذه إحدى الصعوبات الكبيرة التي تعترضنا عندما يتولى البيع موظفون لا خبرة لديهم.. يدخل الشاري فيطلب سترة قياسها 38 بكمين قصيرين كتلك التي أبصرها في الواجهة. فيهرع البائع إلى الرف المعين ويتناول من فوقه سترة قياسها 38 ولكن بكمين طويلين. فيكرر الشاري طلبه مشدداً على الاكمام القصيرة. ويعود البائع ليلبي الطلب. ان مثل هذا التصرف يكلف مالاً لأنّه يهدر الوقت بلا فائدة: وقت الشاري ووقت البائع، عدا ما يسببه من فوضى في رفوف السلع ومن تكدير الشاري. ويمضي مدير التدريب قائلاً: لذا فنحن في الدروس التي نقدمها على سبيل التدريب نشدد على العبارة التالية: "اصغ قبل أن تتصرف".   - تدرب على الإصغاء: إنّ الإصغاء هو مهارة عقلية يمكن تنميتها بالتدريب العملي. فقد تبين للأستاذين المهتمين بقضية حسن الإصغاء والاستماع ان جماعات الطلاب الذين تلقوا بعض التدريب قد اكتسبوا 25 بالمائة من القدرة على استيعاب ما يصغون إليه. وعملية الاصغاء تتطلب منك ان تقوم بأكثر من ترك موجات الصوت تدخل اذنيك، تماماً كعملية القراءة التي تتطلب أكثر من النظر إلى الأسطر المطبوعة. انّ الاصغاء الحسن يتطلب الاشتراك الإيجابي، سوى ان هناك عقبات كثيرة تعترض هذا السبيل. من تلك العقبات اننا نفكر بسرعة أكثر مما نتحدث. فنسبة الحديث لدى معظمنا هي حوالي 125 كلمة في الدقيقة، في حين اننا نفكر بمعدل أربعة أضعاف هذه السرعة، مما يعني انّه في كل دقيقة يتحدث المرء إلينا فيها ينبغي لنا طبيعياً ان نضع جانباً فترة تفكير تتسع لحوالي 400 كلمة. فإذا كنا من الذين لا يحسنون الإصغاء فسرعان ما ينفذ صبرنا، فتتحول أفكارنا إلى شيء آخر لفترة قصيرة، ثمّ تعود إلى الخطيب أو المتحدث. وهذه التحولات الجانبية على قصرها تستمر حتى يتوقف تفكيرنا طويلاً لدى موضوع غير الموضوع الذي يتكلمان فيه، ثمّ عندما تعود أفكارنا إلى المتحدث نرى انّه قد تجاوزنا بشوط كبير، وقد بات أصعب علينا أن نتاابعه، واسهل في الوقت نفسه علينا ان نقوم بتلك التحولات الجانبية. وفي النهاية نستسلم، في حين يكون الخطيب لا يزال في حديثه، ولكن فكرنا في عالم آخر.   - طرق الإصغاء السليم: إنّ من يصغي جيِّداً يستخدم سرعة تفكيره لفائدته، محاولاً تطبيق فترة تفكيره الاحتياطية على ما يقال ويردد. هل الوقائع التي يسردها المتحدث صحيحة؟ هل هي مصادر لا تحيز فيها ولا محاباة؟ هل يريني الصورة الكاملة أم يخبرني فحسب الأشياء التي تثبت وجهة نظره؟. اصغ إلى ما بين السطور، فالمتكلم لا يضع دائماً كل شيء في كلماته. وكثيراً ما يكون للتبدل في نبرات صوته معنى، كما يكون لتعبيرات وجهه واشارات يديه وحركة جسمه معان. إنّ كل الدراسات التي أجريت حول الإصغاء والاستماع تشير إلى خطورة "الفائدة" والذين يحسنون الاصغاء قلما يتيحون المجال لموضوع ما أو لخطيب ما. تراهم يصفون الموضوع بأنّه جاف بعد بضع عبارات، وبالتالي لا يعيرونه الا اهتماماً سلبياً، على نقيض من يجيدون الإصغاء فإنّهم يحاولون أن يجدوا شيئاً مشوقاً في ما يردد على اسماعهم، شيئاً يمكن الانتفاع به: ماذا يقول المتكلم ما احتاج إلى معرفته؟ أهي حقاً فكرة عملية؟ أهو يأتينا بشيء جديد؟ مثل هذه الأسئلة تبقينا في السبيل السوي وتساعدنا على شحذ مهارتنا في الإصغاء. وقلما يستطيع خطيب ما ان يتكلم طويلاً دون أن يمس ميول المستمع أو اعتقاده. فيشرع المستمع السيئ بالتحضير الفكري للرد، فيجهز سؤالاً الغاية منه احراج الخطيب، أو تراه يتحول إلى أفكار تساند مشاعره الشخصية. أما المستمع الحسن فيتعلم كيف يواصل الإصغاء، فيحاول الا يتأثر بنقطة من النقاط التي يوردها الخطيب حتى يتأكد من انّه وعاها جيِّداً وتفهمها. وعندما يفعل ذلك يتبين له ان جوابه سيكون أكثر تأثيراً وفعالية. انّ الذين انموا مقدرتهم على الاصغاء قد تعلموا كيف يركزون اهتمامهم على الأفكار المركزية. فهم لا يضلون السبيل بمحاولتهم تسجيل كل واقعة يقدمها الخطيب تسجيلاً فكرياً. فالوقائع فائدتها الأساسية دعم الموضوع المطروح على بساط المناقشة. احصر تفكيرك في الموضوع تر أن ذلك قد ساعدك، كما لو كان بطريقة سحرية، على تذكر الوقائع الداعمة التي ذكرت في سياق النقاش.   المصدر: كتاب الصداقة والأصدقاء (موسوعة إسلامية في فن معاملة الناس)

ارسال التعليق

Top