• ٢٠ تشرين ثاني/نوفمبر ٢٠٢٤ | ١٨ جمادى الأولى ١٤٤٦ هـ
البلاغ

«كُتِبَ عَلَيكُمُ الصِّيَامُ»

أ. مسلم مصارع علوان

«كُتِبَ عَلَيكُمُ الصِّيَامُ»

(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) (البقرة/ 183).

يعتبر الصوم من العبادات الشريفة التي امتازت عمّا سواها باهتمام كبير من الشارع المقدّس، وتدل الآية الشريفة المتقدِّمة على أنّ الصيام ليس هو فرض جديد على أُمّة الإسلام خاصة، بل إنّ هذا الفرض كان مشرعاً على الأُمم من قبل، وجاء في تفسير الميزان: "(كَما كُتِبَ على الذين مِن قَبلِكُم) أي لا ينبغي لكم أن تستثقلوه وتستوحشوا من تشريعه في حقّكم وكتابته عليكم فليس هذا الحكم بمقصور عليكم، بل هو حكم مجعول في حق الأُمم السابقة عليكم ولستم أنتم متفرِّدين فيه، على أنّ في العمل بهذا الحكم رجاء ما تبتغون وتطلبونه بإيمانكم وهو التقوى التي هي خير زاد لمن آمن بالله واليوم الآخر"، "والمراد بالذين من قبلكم، الأُمم السابقة من المليين في الجملة، ولم يعين القرآن مَنْ هم، غير أنّ ظاهر قوله: كما كتب، أنّ هؤلاء من أهل الملة وقد فرض عليهم ذلك، ولا يوجد في التوراة والإنجيل الموجودين عند اليهود والنصارى ما يدل على وجوب الصوم وفرضه، بل الكتابان إنما يمدحانه ويعظمان أمره؛ لكنهم يصومون أياماً معدودة في السنة إلى اليوم بأشكال مختلفة: كالصوم عن اللحم والصوم عن اللبن والصوم عن الأكل والشرب، وفي القرآن قصة صوم زكريا عن الكلام وكذا صوم مريم عن الكلام".

ويعتبر الصوم في شريعتنا من الأركان التي بُنِي عليها الإسلام والأعمدة الخمسة له باعتباره العبادة الوحيدة التي وردت في الكثير من الأحاديث الشريفة، فقد ورد عن الإمام الباقر (ع) أنه قال: "بُني الإسلام على خمسة أشياء: على الصلاة، والزكاة، والصوم، والحج، والولاية".

"والصيام والصوم في اللغة مصدران بمعنى الكف عن الفعل: كالصيام عن الأكل والشرب والمباشرة والكلام والمشي وغير ذلك، وربما يقال: إنه الكف عمّا تشتهيه النفس وتتوق إليه خاصة ثمّ غلب استعماله في الشرع في الكف عن أُمور مخصوصة، من طلوع الفجر إلى المغرب بالنية".

وقد ذكرت الآية غاية الصوم في عبارة قليلة الألفاظ والكلمات؛ ولكنها عميقة المحتوى، تقول الآية: (لَعَلَّكُم تَتَّقُونَ) أي فرض عليكم الصوم رجاء أن تتقوا ومن أجل أن تحصلوا على التقوى. والتقوى هي عبارة عن ملكة نفسانية توجب قدرة النفس الإنسانية على امتثال ما أمر الله به، والابتعاد عمّا نهى الله عنه من المعاصي والذنوب.

وهناك خطبة لسيِّد البلغاء والمتكلمين أمير المؤمنين (ع) في حثّه على السعي لما يوجب التقوى قال فيها: "أوصِيكُم عِبادَ الله بتقوى الله وطاعته فإنّها النَّجاةُ غداً والمَنجاةُ أبداً.. وبعد أن ذكر الدنيا ورهب من الإقبال عليها.. قال: فَاحذَّرُوا عِبادَ اللهَ حَذَرَ الغالبِ لِنَفسِه المانعِ لِشَهوتِه الناظِرِ بِعَقلِه، فإنّ الأمرَ واضحٌ والعَلَم قائِمٌ والطرِيقَ جَدَدٌ والسَّبيلَ قَصدٌ).

وبتعبير آخر: مَنْ يُمارس الصوم ويمنع نفسه عن الأكل والشرب وسائر اللذات المادية التي أباحها الله، يتدرّب على اتّقاء المحرمات واجتنابها وتتربّى نفسه وإرادته على الامتناع عن المعاصي والذنوب، لأن مَنْ يستجب لأمر الله ويمتنع عن شهوات النفس المباحة كالأكل والشرب وغيره ويطع الله في الكف عن ذلك، فإنه سوف يكون أكثر طاعة واستجابة لله في الكف عن المحرمات التي نهى الله عنها والتي لها بكل تأكيد أثر تقوائي ومردود إيجابي نافع في الدنيا والآخرة، إذ إنّ الصوم يؤثر في الإنسان من جهتين: فهو يُربِّي في الإنسان الإرادة القويّة التي تجعله قادراً على الامتناع عن المعصية ومخالفة أوامر الله ونواهيه من جهة، ومن جهة أخرى يُنمِّي في الإنسان الإحساس بوجود الله والشعور برقابة الله عليه.

 

- علّة الصيام:

لقد أجمل الإمام الصادق (ع) الجواب حين سُئِل عن علّة الصيام، فقال: "العلّة في الصيام ليستوي به الفقير والغني وذلك لأنّ الغني لم يكن ليجد مس الجوع فيرحم الفقير لأنّ الغني كلما أراد شيئاً قدر عليه فأراد الله أن يسوي بين خلقه وأن يذيق الغني مس الجوع والألم ليرق على الضعيف ويرحم الجائع".

 

- فوائد الصوم:

اعتنى القرآن الكريم والسنّة النبويّة الشريفة بالصوم وبَيَّنا أهميّته لما له من فوائد عظيمة وآثار إيجابية على الفرد والمجتمع، ولما له من فوائد لصحّة الأبدان والأذهان، وقد جاء في الحديث الشريف: "صوموا تصحّوا"، فالصوم هو الفريضة الوحيدة التي صرَّح القرآن بأنها مكتوبة على الخلق أجمعين، قال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) (البقرة/ 183).

ويعتبر أيضاً من أهمّ الأعمال في مجاهدة النفس وتنمية القوى الروحية، فالجوع والعطش والامتناع عن مطلق الملذّات والاقتصار على القليل منها يجعل الإنسان في حل وعتق من عبوديتها. لذلك ترى رسول الرحمة (ص) يحثُّ على الاهتمام بهذه الفريضة المباركة في خطبته المشهورة عندما أقبل شهر رمضان: "أيُّها الناس، إنّه قد أقبل إليكم شهرُ الله بالبركة والرحمة والمغفرة، شهر هو عند الله أفضل الشهور، وأيامه أفضلُ الأيام، ولياليه أفضل الليالي، وساعاته أفضل الساعات، هو شهر دعيتم فيه إلى ضيافة الله وجُعلتم فيه من أهل كرامة الله، أنفاسكم فيه تسبيح ونومكم فيه عبادة وعملكم فيه مقبول ودعاؤكم فيه مستجاب".

للصوم أيضاً فوائد اجتماعية جمّة منها تربية الأُمّة على المساواة وترسيخ مفهوم الوحدة وتأهيلها إلى مفهوم التضامن الاجتماعي من حيث الرعاية والعناية الرمضانية والتواصل الفريد الذي يتميّز عن غيره من أيام السنة، وإطفاء نائرة الفتن نتيجة التواصل الإيماني وتقوية الروابط من خلال الاجتماعات الرمضانية التي من شأنها رفع مستوى الوعي الاجتماعي.

ويعتبر الصوم أيضاً من العبادات التي تؤدّي إلى كسر النفس عن شهواتها وتحطيم أصنامها ومنعها عن ملذّاتها التي اعتادت عليها، فلربّما تكون بحاجة إلى هذا الامتناع في وقت جهاد أو غيره ولا تستطيع مؤهلاتها أن تُلبِّي لها هذه الحاجة فهي في الصوم قد أخذت تمريناً على ذلك، وكون أنّ الشبع يقوي الشهوات ويكون داعياً إلى الملذات فيكون بذلك باب من أبواب الشيطان الكبيرة وأسلحته الفتّاكة التي يصطاد بها الإنسان.

هذا وقد قال تعالى: (وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ) (البقرة/ 184)، والذي يخبر الله تعالى عنه أنّ فيه خيراً، لا ينبغي على العاقل الأريب أن يجعل هذا الإخبار أو هذه الفرصة وراء ظهره، بل يجب إستثمار أيامه ولياليه باعتباره محطة من محطات الله للتزوُّد بما ينفع الإنسان للدنيا والآخرة.

 

المصدر: مجلة ينابيع/ العدد 64 لسنة 2017م

تعليقات

  • الدبعي

    كلما اقرأ أية الصيام يخطر في بالي سؤال.. ياترى لماذا قال الله.. كما كتب على الذين من قبلكم.. ومعروف لنا تفسير هذه العبارة.. كما هو مذكور في كتب التفاسير العديدة.. فهل ياترى هناك معنى آخر واقعي ومقنع لهذه العبارة؟! وماذا لو لم تذكر هذه العبارة في الآية؟! وللحديث بقية ..

ارسال التعليق

Top