• ١٨ تموز/يوليو ٢٠٢٤ | ١١ محرم ١٤٤٦ هـ
البلاغ

أثر متغير النفط في مستقبل العلاقة بين الحكومة الاتحادية وإقليم كردستان

د. سليم كاطع علي

أثر متغير النفط في مستقبل العلاقة بين الحكومة الاتحادية وإقليم كردستان

يحتل النفط أهمية كبيرة، كونه مصدراً رئيساً للطاقة، وشريان الحياة الاقتصادية في المجتمعات الصناعية الكبرى، ويحتل العراق مكانة متقدمة من حيث حجم الاحتياطي النفطي العالمي، إذ يأتي بالمرتبة الثانية بعد المملكة العربية السعودية باحتياطي يقدر بنحو (143) مليار برميل حسب الإحصائيات الأخيرة الصادرة عن وزارة النفط العراقية.

ولا شكّ، فإنّ مكانة النفط بالنسبة للعراق تختلف عن مكانته في الدول الأُخرى التي تنعم بتنوع إنتاجي اقتصادي، فصناعة النفط ذو خصوصية اقتصادية مختلفة عن بقية الصناعات العراقية، فهي صناعة تختلف عن صناعة الإنشائيات والتمور والمواد الغذائية والصناعات الكهربائية... إلخ. وهي ذات خصوصية اجتماعية، إذ يعتمد عليها نسبة كبيرة من الشعب العراقي غير المنتج في توفير معيشته، وإنّها أيضاً ذات خصوصية سياسية في جمع طوائف العراق المختلفة، وفي ربط مناطق العراق ببعضها حفاظاً على وحدة الأرض.

إنّ طبيعة النظام السياسي العراقي بعد العام 2003 حمل في طياته العديد من عوامل التوتر بين الأطراف السياسية سيّما مع إقليم كردستان، فقيام العلاقة بين الحكومة الاتحادية وإقليم كردستان يدفعنا إلى تحديد بُعدين لتلك العلاقة: أحدهما دستوري، والآخر سياسي. وكان ذلك جلياً في عدد من مواد الدستور، منها تلك التي رجحت رأي الأقاليم والمحافظات على الحكومة الاتحادية، وفي عدم شمول إدارة النفط بالصلاحيات الاتحادية الحصرية، (الأمر الذي أصر عليه الجانب الكردي)، فقد حدّدت المادة (111) من الدستور العراقي: ملكية النفط والغاز بأنّها ملك للشعب العراقي، وبذلك فإنّ عائدية النفط لجميع المواطنين.

 أمّا المادة (112) فجاءت بفقرتين: (أوّلاً): تقوم الحكومة الاتحادية بإدارة النفط والغاز المستخرج من الحقول (الحالية) مع حكومات الأقاليم والمحافظات المنتجة، على أن توزع وإرداتها بشكل منصف يتناسب مع التوزيع السكاني في جميع أنحاء البلاد، مع تحديد حصة لمدة محدّدة للأقاليم المتضررة، والتي حرمت منها بصورة مجحفة من قبل النظام السابق، والتي تضررت بعد ذلك، بما يؤمن التنمية المتوازنة للمناطق المختلفة من البلاد، وينظم ذلك بقانون. (ثانياً): تقوم الحكومة الاتحادية وحكومات الأقاليم والمحافظات المنتجة معاً برسم السياسات الإستراتيجية اللازمة لتطوير ثروة النفط والغاز بما يحقّق أعلى منفعة للشعب.

يبدو واضحاً أنّ الفقرة الأُولى لا تتحدّث عن الحقول المكتشفة لاحقاً كما لا تشمل بقية الثروات الطبيعية وإنّما نصت على أن تقوم الحكومة الاتحادية بإدارة النفط والغاز المستخرج من الحقول الحالية مع حكومات الإقليم، ممّا يجعلها من صلاحيات الإقليم وحدها وفقاً للمادة (115)، الأمر الذي يعني قوّة للإقليم في استغلال الثروات الطبيعية، وبالنتيجة زيادة قوّتها الاقتصادية.

أمّا الفقرة الثانية، فذهبت إلى إضعاف دور الحكومة الاتحادية سيّما في قضية تطوير الثروة النفطية والغازية من خلال الإدارة المشتركة للثروة النفطية والغازية، وهو ما يعني تعزيز مكانة الإقليم الاقتصادية وهيمنتها على الحكومة الاتحادية واستخدام هذه الثروات في تهيئة البُنى الاقتصادية للإقليم.

فالإدارة المشتركة تتسع فقط للنفط المستخرج من الحقول المنتجة حالياً، أمّا شؤون الحقول المستقبلية والعمليات الاستكشافية فهي تقع ضمن اختصاصات الأقاليم والمحافظات، على أساس كونها غير منصوص عليها في الصلاحيات الاتحادية الحصرية ولا من صلاحيات مجلس الوزراء. ووفقاً للدستور (المادة 115): كلّ ما لم ينص عليه في الاختصاصات الحصرية للسلطات الاتحادية يكون من صلاحية الأقاليم والمحافظات غير المنتظمة في إقليم، والصلاحيات المشتركة بين الحكومة الاتحادية والأقاليم تكون الأولوية فيها لقانون الأقاليم والمحافظات غير المنتظمة في إقليم في حالة الخلاف بينهما.

وعلى مدى السنوات السابقة، فقد شكّلت إشكالية النفط سبباً للتوتر المستمر بين الحكومة الاتحادية وحكومة إقليم كردستان وتركت بصماتها على تأخر إعداد وإقرار الموازنة الاتحادية سنوياً، وإيقاف تدفقات النفط عبر الإقليم إلى تركيا، وقيام حكومة كردستان بعيداً عن علم الحكومة الاتحادية بالاتفاق مع الحكومة التركية لمد أنبوب نفطي لنقل النفط (التي هي من اختصاص الحكومة الاتحادية حصراً بحسب المادة 110) ممّا ترتب عليه مجموعة من التداعيات الاقتصادية هي:

أ‌- عدم تكافؤ عوائد البرميل الواحد: إذ قامت حكومة إقليم كردستان بتوقيع العديد من عقود الاستكشاف والتطوير للحقوق النفطية، وكانت طبيعة هذه العقود المشاركة في الإنتاج، وترى الحكومة الاتحادية بأنّ غياب شفافية هذه العقود حال دون الاعتراف بها، ومن ثمّ القبول بدفع تكاليف استخراج النفط ضمن هذه العقود. كما تقدر الطاقة الإنتاجية لحقول الإقليم بنحو (300) ألف برميل يومياً بحسب تصريح وزير الثروات الطبيعية في كردستان، في حين أنّ بيانات الإقليم التي تقدم للحكومة الاتحادية تقدر بنحو (175) ألف برميل يومياً، وعليه فهناك فرق قدره (125) ألف برميل يومياً. من جانب آخر قيام حكومة الإقليم بتحديد مساهمتها بالإيرادات العامّة الاتحادية بأقل من المحافظات الأُخرى المنتجة.

ب‌- أدّت ممارسات الإقليم إلى تشجيع بعض المحافظات المنتجة للنفط للمطالبة بعوائد (بترو - دولار) تحت ادعاء بأنّ هذه العوائد ضرورية لتغطية التكاليف الاقتصادية والاجتماعية المتحقّقة من إنتاج النفط متمثلة بالاندثارات في البُنى التحتية، والضيق في مساحة الأراضي المتاحة للإسكان أو العمران أو الزراعة ومشكلة التلوث... إلخ.

وآزاء ذلك، فإنّ الأبعاد السياسية لتلك الإشكالية داخل العراق تتجسد بميل المحافظات المنتجة للنفط للسير على خُطى الإقليم، وهو ما يترتب عليه نتائج سيكون محصلتها النهائية في غير صالح وحدة العراق كدولة قوية ذات سيادة. فإنّ مضي الإقليم بهذا الاتجاه يستلزم تعزيز علاقته السياسية بتركيا والتي هي بدورها مستعدة لأنّ تطوّر علاقتها معه مقابل تخليصها من الأزمة الكردية الداخلية، ومقابل أن يزداد دور تركيا في إيصال النفط والغاز إلى قارة أوروبا. من جانب آخر، فإنّ حصول البصرة على استقلاليتها في السياسة النفطية مثلاً يتطلّب بناء علاقة اقتصادية مع إيران للاستفادة من خبراتها. أمّا المنطقة الغربية فسوف تجد نفسها على حالة لا تحسد عليها وقد تجد بناء علاقة مع السعودية أو الأردن أمراً ضرورياً.

إنّ الواقع يؤشّر وجود خلل واضح في بُنية النظام السياسي العراقي بعد العام 2003، إذ إنّ إقرار الدستور العراقي الدائم لعام 2005 وما تضمنه من مواد ونصوص دستورية لم تضمن علوية الاختصاصات الاتحادية على اختصاصات وصلاحيات الإقليم، وضمان عدم تبعية الحكومة الاتحادية إلى حكومة الإقليم، أو إقامة علاقة تعاون بين الإقليم والحكومة الاتحادية، ولم تضمن وجود حالة من التوازن في العلاقة بين الحكومة الاتحادية والإقليم، بل نجد أنّ النصوص الدستورية بالغت في الاستقلال الذاتي للإقليم، ممّا أدّى إلى علاقة سادها التوتر والصراع بين الطرفين فضلاً عن غياب الثقة المتبادلة، وهذه العلاقة ستكون هي السائدة ما لم يتم تعديل الدستور سيّما ما يتعلّق بالصلاحيات الدستورية.

فضلاً عن ذلك، فإنّ ما يُثار من أزمات وتوتر بين الحين والآخر بين الحكومة الاتحادية وإقليم كردستان بخصوص توزيع الثروة النفطية إنّما هي في الحقيقة فرصة للانتفاع منها من جانب حكومة الإقليم على حساب المصلحة الوطنية العراقية العليا، إذ إنّ البُعد الجيو - اقتصادي هو المفهوم المهيمن على السلوك السياسي في الوقت الحاضر سيّما وأنّ الاحتياطي النفطي في الإقليم يقدر بنحو (45) مليار برميل، وهو ما يجعل من معركة النفط معركة تتجاوز الخلافات والحسابات الطارئة، إلى معركة الخيارات السياسية والمصير. فحكومة الإقليم تعلم علم اليقين أنّ تحقيق فكرة استقلال إقليم كردستان عن العراق لا يمكن تحقيقها من الناحية الجيوبوليتيكية للموقع الهش الذي يتمتع به الإقليم، كما أنّ المشكلات الراهنة وتكاليف تحقيقه أكبر من العوائد المتحقّقة منه، ممّا يعني البحث عن المزيد من الامتيازات والمكاسب من الحكومة الاتحادية سواء بزيادة النسب المالية المخصصة للإقليم أو بمنح الصلاحيات الواسعة لحكومة الإقليم لإدارة شؤونه الداخلية بعيداً عن الحكومة الاتحادية.

وهو ما يؤشّر في النهاية نتيجة مؤداها أنّ حكومة الإقليم تعلم أنّ بقاءها ضمن الحكومة الفدرالية العراقية الحالية أكثر نفعاً لها مع استمرار مطالبتها بالمزيد من الامتيازات ومحاولة انتهاز الفرص التي تتلائم مع طموحاتها الخاصّة على حساب المصلحة العامّة، وهو ما يتضح من تأكيد حكومة الإقليم المستمر على حصولها على حصة أكبر من عائدات النفط العراقي قديماً وحديثاً، ومطالبتها بالمزيد من الامتيازات الواضحة عبر مشاركتها في السلطة السياسية ومؤسّسات الحكومة الاتحادية ومزيد من الصلاحيات لإقامة العلاقات الثنائية عبر قنصلياتها مع الدول الأُخرى، فضلاً عن سعيها لضم مناطق جديدة مثل كركوك إلى إقليم كردستان، سيّما بعد انشغال الحكومة الاتحادية بمحاربة تنظيم داعش الإرهابي عام 2014.

ولا شكّ فإنّ المتتبع للعلاقة بين الحكومة الاتحادية وإقليم كردستان يدرك أنّ العلاقة بينهما قائمة على أساس اقتناص الفرص، فعندما تضعف السلطة في بغداد تتقدم عليها سلطة الإقليم، وعندما تضعف سلطة الإقليم تتقدم عليها بغداد، وهو ما عكسته ظروف وتداعيات ظهور تنظيم داعش الإرهابي وانتشاره في بعض المحافظات العراقية. وأنّ القول بأنّ إشكالية توزيع الثروة النفطية والغازية تقع على مسؤولية الحكومة الاتحادية وحدها هو نوع من الهروب من المشكلة وعدم مواجهتها، وإنّما حقيقة الأمر يعود إلى تنامي الطموحات القومية الكردية بهدف الاستحواذ على أكبر مساحة من المناطق المنتجة للنفط لتكون بوابة انطلاق نحو بناء قاعدة اقتصادية تكون دعامة لاستقلال إقليم كردستان عن الحكومة الاتحادية مستقبلاً.

وللحدّ من التداعيات السياسية والاقتصادية سيّما التي أفرزتها صياغات الدستور، لابدّ أوّلاً من الركون إلى تشريع قانون للنفط والذي بموجبه يعدّ النفط ثروة سيادية وصناعة إستراتيجية من اختصاص الحكومة الاتحادية بشكل رئيس على أن تتعاون مع المحافظات أو الأقاليم في تخطيط السياسات، وثانياً تفعيل المادة الدستورية (106) التي تنص على: (تؤسّس بقانون، هيئة عامّة لمراقبة تخصيص الواردات الاتحادية، وتتكون الهيئة من خبراء الحكومة الاتحادية والأقاليم والمحافظات وممثلين عنها)، والتي بموجبها يمكن تشريع قانون النفط والغاز والذي من أجله تمّ تأسيس الهيئة. أمّا موضوع تعويض المحافظات المنتجة فيجري تعويضها اتحادياً من خلال تقدير حجم الأضرار أو الخسائر المتحقّقة.

وفي ضوء ما تقدم، وفي إطار إستراتيجية الاستحواذ التي يعتمدها إقليم كردستان سيّما في بُعدها النفطي فإنّه لا يمكن استبعاد أن تتجه العلاقات بين الحكومة الاتحادية وإقليم كردستان في المستقبل إلى حالة من عدم الاستقرار وربّما الصراع في مرحلة لاحقة، إذا لم تتم معالجة الثغرات والأخطاء التي رافقت بُنية العملية السياسية بعد العام 2003، وإيجاد خارطة طريق تكون هي المتحكم بالسلوك السياسي لجميع الأطراف، وهذا لن يتحقّق ما لم يدرك الجميع أنّ المكسب الحقيقي ليس ربح طرف على حساب طرف آخر، وإنّما العيش في إطار الوطن الواحد والابتعاد عن الحسابات المصلحية الضيِّقة على حساب المصلحة الوطنية العليا هو المعيار الحقيقي لتلك المعادلة.

فمن الخطأ الفادح أن يخضع النفط كثروة إستراتيجية للمساومة والابتزاز السياسي والمحاصصة اللذين من شأنهما الأضرار بالعوائد المالية للنفط كونه ملك للشعب العراقي حسب الدستور، كما أنّ الضرورة الإستراتيجية ومعطيات المرحلة الراهنة تتطلب إناطة مسؤولية إدارة شؤون النفط إلى جهة متخصصة تعتمد في تشكيلها وإدارتها الحكم الرشيد لما لها من أبعاد سياسية واقتصادية على الوضع في البلد، فضلاً عن أهميّة وجود حكومة اتحادية قوية لإدارة العمليات النفطية المختلفة وضمن نطاق إستراتيجية متفق عليها.

ارسال التعليق

Top