الصدق هو أساس بناء الدين ودرجته تالية لدرجة النبوّة، والصادقون هم أهل الإيمان، وقد خص الله سبحانه وتعالى المنعَم وهم النبيون والصديقون والشهداء والصالحون، قال تعالى: (وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا) (النساء/ 69).
في إشارة إلى أهمية الصدق، أخبر الله سبحانه وتعالى أنّه في يوم القيامة لا ينفع العبد وينجيه إلّا الصدق، قال تعالى: (قَالَ اللَّهُ هَذَا يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ...) (المائدة/ 119)، وفي بيان حقيقة معنى الصدق وألوانه ودرجاته تتحدث إيمان إسماعيل، وتستهل حديثها بالإشارة إلى حقيقة الصدق، موضحة أن حقيقة الصدق ترجع في بدايتها إلى أعماق الإنسان المؤمن وقاعدة إيمانه هو التوحيد. وصدق التوحيد يتجلى في قول الله تعالى: (وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ أُولَئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ وَالشُّهَدَاءُ...) (الحديد/ 19). وقيلَ إنّ الصدق هو المجاهدة وألا تختار على الله غيره كما لم يختر عليك غيرك.
أشرف خصال المسلم:
إنّ الصدق من أشرف خصال المسلم، والصدق له درجة عالية عند الله عزّ وجلّ، فالصديقون يلون الأنبياء والرسل، قال تعالى: (فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا). وقال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ...) (التوبة/ 119).
وقد قال رسول الله (ص): "إياكم والكذبَ، فإنّ الكذبَ يهدي إلى الفجورِ وإنّ الفجور يهدي إلى النار، وإنّ الرجل ليكذب حتى يُكتبَ عندَ اللهِ كذاباً"، وقال (ص): "عليكم بالصدق فإنّ الصدق يهدي إلى البرّ وإنّ البرّ يهدي إلى الجنة وإنّه، يعني الرجل، ليصدق ويتحرى الصدقَ حتى يُكتبَ عندَ اللهِ صديقاً" مسند الإمام أحمد. فالإنسان لا يزال يتحرى الصدق في أقواله وحركاته وسكناته حتى يُكتب في الملأ الأعلى صديقاً، فإذا كتبه الله وسجل اسمه مع الصادقين يوم يلقونه، قال تعالى: (قَالَ اللَّهُ هَذَا يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ) (المائدة/ 119). فينزل صدقه على لسان جبريل فيوحي بصدقيته في السماء فيضع الله له الصدق في الأرض فهو صادق حتى يلقى الله. فإذا كذب وتساهل في قوله وكذب في مجلسه غضب الله عليه وكتب اسمه كاذباً، وجعل كذبه منطوقاً في السماء وعَرّف به ملائكته ثمّ أنزل شارة في الأرض فهو يُعرف بين الناس كذاباً.
ألوان من الصدق:
هناك ألوان عديدة من الصدق من أهمها:
الصدق في النية: فلا يكون لدى الإنسان باعث في الحركات والسكنات إلا مرضاة الله تعالى، فإنّ خالطته شائبة من حظوظ النفس بطل صدق النية وصاحبه يجوز أن يكون كذاباً.
الصدق في العزم: وقد نرى من يُقدم العزم على العمل، فيقول: إن رزقني الله مالاً تصدقت منه. فهذه عزيمة صادقة ولكن ماذا يحدث عندما يجيء المال؟ نجد أنّ هذه العزيمة ضعفت وترددت، فيكون عزمه كما يُقال: إن لفلان شهوة صادقة. إذن فالصادق هو الذي تُصادق عزيمته في الخيرات قوة تامة لا ضعف فيها ولا تردد.
الصدق في الوفاء بالعزم: قد نجد العزيمة الصادقة، فماذا عن الوفاء بها؟ فإنّ النفس تسخو بالعزم، إذ لا مشقة في الوعد والعزم. فإذا ما حقت الحقائق وحصل التمكين انحلت العزيمة وغلبت الشهوات ولم يتحقق الوفاء بالعزم، وهذا يُضاد الصدق. وهنا تجدر الإشارة إلى أنّ الوفاء بالعهد من صفات الله عزّ وجلّ، قال تعالى: (فَلا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ مُخْلِفَ وَعْدِهِ) (إبراهيم 47)، كما أنّ الوفاء بالعزم من صفات الرسل الكرام (وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى) (النجم/ 37).
درجات من الصدق:
هناك درجات عديدة من الصدق منها:
الصدق في القول: وهو نطق اللسان بالحق الصواب فلا ينطق بالباطل، قال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ...) (الأحزاب/ 70-71). وقال رسول الله (ص): "اضْمَنُوا لي ستاً منْ أنفسكُمْ أضمَنُ لكم الجنة، اصدُقوا إذا حدثْتُم، وأوْفُوا إذا وعدْتُم، وأدوا إذا ائتُمنْتُم، واحفَظوا فروجكم، وغُضّوا أبصارَكم، وكُفُوا أيديَكُم" الجامع الصغير.
الصدق في العمل: وهذا يتطلب من الإنسان أن يكون ظاهره عنوان باطنه، فإن مساواة السريرة للعلانية أحد أنواع الصدق. فقد تجد الإنسان واقفاً على هيئة الخشوع في الصلاة ليس يقصد به غير مراءاة غيره ولكن قلبه غافل عن الصلاة، فمن ينظر إليه يراه قائماً بين يدي الله تعالى وهو قائم في السوق أو بين يدي شهوة من شهواته. وكذلك قد يمشي الرجل على هيئة السكون والوقار وليس باطنه موصوفاً بذلك الوقار. لذا فإن مخالفة الظاهر للباطن عن قصد تسمى رياء ويفوت بها الإخلاص، وإن كانت عن غير قصد يفوت بها الصدق. ولذلك كان رسول الله (ص) يقول: "اللّهمّ اجعل سريرتي خيراً من علانيتي، واجعل علانيتي صالحة" سنن الترمذي، فإذا وافقت سريرة المؤمن علانيته باهى الله عزّ جلّ به ملائكته يقول هذا عبدي حقاً.
الصدق في مقامات الدين: وهذا من أعلى درجات الصدق، ويشمل الصدق في الخوف والرجاء والتعظيم والزهد وسائر هذا الأمور. وما من عبد يؤمن بالله تعالى واليوم الآخر إلا وهو خائف من الله خوفاً ينطلق عليه الاسم، ولكنه قد يكون خوفاً غير صادق أي غير بالغ درجة حقيقته، لأنّه إذا خاف من قاطع طريق في سفر ترتعد فرائصه ويصفر لونه ويتعذر عليه أكله ونومه. وأيضاً تراه خائفاً من النار ولا يظهر عليه شيء من ذلك عند جريان معصية عليه، ولذلك قال رسول الله (ص): "ما رأيتُ مثلَ النّارِ نامَ هاربُها، ولا مثلَ الجنّةِ نامَ طالبُها".
المسلم لا يكون كاذباً:
إنّ الكذب من أسوأ الصفات التي يمكن أن يتصف بها الإنسان، وقد أخبر رسول الله (ص) أنّ الكذب لا يجتمع مع الإسلام، وذلك عندما قيل له (ص): أيكونُ المؤمنُ جباناً؟ قال: "نَعَمْ" فقيل: أيكونُ المؤمنُ بَخيلاً؟ قال: "نَعَمْ" فقيل له: أيكون المؤمِنُ كذّاباً؟ قال: "لا". فالمسلم لا يكون كذاباً ولا يخالف ما يبطن ما يظهر. وقال رسول الله (ص): "كبرت خيانة أن تُحَدث أخاك حديثاً هو لك به مصدق وأنت له به كاذب".
وهناك لون آخر من الكذب أشد خطراً وأعظم ذنباً هو الكذب على الله، والله تعالى يقول: (.. فَلَوْ صَدَقُوا اللَّهَ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ) (محمَّد/ 21). وأعظم الكذب هو الكذب على الله عزّ وجلّ في المعتقد والأسماء والصفات، فترى أحدهم يُفتي على الله بالكذب يقول هذا حرام وهذا حلال من دون علم. قال تعالى: (وَلا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لا يُفْلِحُونَ) (النحل/ 116). وقال تعالى: (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ * يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ) (البقرة/ 8-9). فهؤلاء أعمالهم كاذبة ونياتهم كاذبة وأقوالهم كاذبة، هؤلاء هم المنافقون، قال رسول الله (ص): "إن أخوف ما أخاف على أمتي كلّ منافق عليم اللسان"، وهؤلاء هم الذين يبطنون الكفر ويظهرون الإيمان، قال تعالى في مستهل (سورة المنافقون): (إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ)، فهذه شهادة ظاهرها صادق لكن الله تعالى يشهد أنهم كاذبون.►
*مشرفة تنفيذية في دائرة الشؤون الإسلامية والأوقاف في دبي.
مقالات ذات صلة
ارسال التعليق