يعطي الإمام(عليه السلام) القاعدة الرّائعة على المستوى السياسي والاقتصادي والاجتماعي والعسكري، وكلّ ما يتّصل بحياة الإنسان في الدّنيا: «واعمل لدنياك كأنّك تعيش أبداً، واعمل لآخرتك كأنّك تموت غداً». وهذا هو خطّ التّوازن بين العمل للدّنيا والعمل للآخرة.
إنَّ الإمام الحسن(عليه السلام) لا يريد للإنسان أن يجلس يندب حظَّه وأمام عينيه قبره، فيترك عمل الدّنيا على أساس أنَّ الدّنيا فانية، فإنَّ الله خلقنا في الدّنيا لنعمّرها، فما هي مسؤوليَّتنا؟ {إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً}، ودور الخليفة هو أن يبني الحياة على الصّورة التي يحبِّها الله ويرضاها، ولذلك اعتبر العمل عبادةً وجهاداً في سبيل الله، وأبغض الإنسان الكسول والنوّام الفارغ، ولذلك عندما تفكِّر في مشاريع الحياة، تابعها كما لو لم يكن هناك موت، بل حاول أن تستنفر كلَّ طاقاتك الّتي تحتاجها مشاريعك الاجتماعيّة والسياسيّة والعمرانيّة والاقتصاديّة، تماماً كما لو أنّك ستعمّر طويلاً فلا أجل ينتظرك، لأنَّ معنى أن لا يموت الإنسان، هو أنّه بحاجةٍ إلى أن يملأ المستقبل منذ الآن بالمشاريع التي يحتاج أن يملأها في مستقبل أيّامه.
ولكن إذا فكَّرت في المسؤوليَّة، وأنت تعرف أنَّ الله سوف يحاسبك، وأنت تعمِّر، عن الحلال والحرام، ويحاسبك وأنت تتاجر في المعاملة الفاسدة والصّحيحة، وعن العلاقة: هل هي علاقة خير أو علاقة شرّ؟ وعن المشروع السياسيّ: هل يتحرّك في خطِّ العدل أو الظّلم؟ فإذا فكّرت في المسؤوليّة، فكّر في أنّك تقدِّم حسابك كما لو كنت تموت غداً. وهذا هو الّذي يركّز التّوازن بين إحساس الإنسان بالمسؤوليَّة، وحركته في عمله من أجل تحقيق رسالته في بناء الحياة. ولعلَّ هذه الكلمة الرّائعة الّتي ينسبها البعض إلى أمير المؤمنين(عليه السلام)، والحسن(عليه السلام) تلميذه، لو أخذ بها المسلمون، لاستطاعوا أن يواجهوا العالم بمواقع التقدّم كلِّها، ومواقع العمران السياسي والاقتصادي والثقافي والاجتماعي كلّها، ولكنَّ المشكلة هي أنَّ الذين يربّون النّاس بالموعظة، لا يقفون موقف التوازن، فهم يحدّثونك عن الموت وعن القبر دون أن يحدّثوك عن الحياة.
ونحن أيّها الأحبّة بحاجةٍ إلى أن نوازن بين الموت والحياة، فليكن الموت عنوان المسؤوليّة، ولتكن الحياة عنوان البناء والعمران والتقدّم، ومشكلتنا هي فقدان التّوازن في مواعظنا في مواقع حياتنا كلّها.
مفهوم العزّة
ثم يقتحم الإمام الحسن(عليه السلام) مفهوم العزّة في النفس الإنسانيَّة، ومفهوم الهيبة في واقع الإنسان، فالنّاس قد يتصوّرون العزّة بكثرة النّاس حول من يريد أن يكون عزيزاً، وبقوة السلطان لمن يريد أن يكون عزيزاً، ولكن الإمام الحسن(عليه السلام) يقول إنَّ تلك ليست عزّة، لأنّك تستعير عزّتك من الآخرين، فالآخرون أعاروك العزّة وقد يسلبونها منك، والنّاس عندما يجتمعون حولك ويهتفون باسمك، فهؤلاء ليسوا أنت، والهتافات والأرقام ليست أنت، وعندما يكون لك سوط تلهب به ظهور النّاس، فهذا لا يمثّل الهيبة، فالهيبة والعزَّة هي أن تكون عناصر قوّتك واحترام النّاس لك في داخل شخصيّتك، وهي أن يحبّك الناس ويهابوك تلقائيّاً، وأن تعزّز الموقع من خلال شعور الناس بأنّك قويّ، من خلال الخصائص الحيّة الموجودة في شخصيّتك.
«إذا أردت عزّاً بلا عشيرةـ فإذا كنت كما يقال في المثل: مقطوعاً من شجرة، أي لا نسب لك في العشائر وهيبة بلا سلطان فإذا أردت أن يهابك النّاس، بحيث إذا واجهتهم احترموك بشكلٍ تلقائيّ، «فاخرج من ذلّ معصية الله إلى عزّ طاعة الله عزّ وجلّ»، لأنّ الله سبحانه وتعالى عندما يراك وأنت تطيعه في خطِّ الاستقامة؛ تطيعه في نفسك فتحسن إليها فيما أمر الله به أو نهى عنه، وتطيعه في النّاس فتحسن إلى النّاس، وتطيعه في الحياة فتحسن إلى الحياة، فإنَّ الله يحبّ المحسنين، وسوف يلقي هيبتك في نفوس النّاس، وسوف يمنحك العزّ في حياة الناس.
وأسوق لكم مثلاً موجوداً في حياتنا، فهناك في أكثر من قرية ومجتمع وأناس أطاعوا الله بإخلاص ، وعاشوا مع النّاس بإخلاص، ولم يكن لديهم سلطان مما تعارف النّاس عليه من سلطان القوّة، بل كانوا بسطاء في قوّتهم المادّية، ولم يكن لهم عشيرة، لكنّنا نرى النّاس تنحني لهم وتقدِّرهم وترفعهم بشكلٍ تلقائيّ، لأنهم انتقلوا من ذلِّ معصية الله إلى عزِّ طاعته.
صفـة الصّاحـب الحقّ
ثم يختم الإمام(عليه السلام) كلامه في صفة الصّاحب؛ مَن نصاحب؟ ومن نصادق؟ وما هي صفة الصَّاحب الّذي ينبغي للإنسان أن يختاره؟ يقول(عليه السلام): «وإذا نازعتك إلى صحبة الرّجال حاجة، فاصحب من إذا صحبته زانك بعلمه وأخلاقه ودينه وإذا خدمته صانك أي لم يستغلّ خدمته لك ليسقطك، بل يصون موقعك، لأنّه يعتبر ذلك منك تواضعاً ـوإذا أردت منه معونةً أعانك لأنَّ ذلك هو حقّ الصّحبة، وهو أن يشعر بمسؤوليَّته عن حاجات صاحبه وإن قلت صدَّق قولك ولم يكذِّبك في قولٍ ليسقط قولك وإن صلت شدَّ صولك فإذا دخلت في معركة تحدٍّ، فإنَّه يشدّ أزرك وإن مددت يدك بفضلٍ مدَّها أي عاونها وساعدها وأعطاها وإن بدت عنك ثلمة أي ثغرة في حياتك سدَّها، وإن رأى منك حسنة عدَّها»، أي تحدَّث بها أمام النّاس.
«وإن سألته أعطاك، وإن سكتَّ عنه ابتداك فهو يبادر وإن نزلت إحدى الملمَّات به إحدى المصائب أو النَّوازل ساءك. من لا تأتيك منه البوائق أي المهالك والمشاكل ولا يختلف عليك منه الطّرائق، ولا يخذلك عند الحقائق أي في المواقف الّتي تبرز فيها الحقيقة وإن تنازعتما منقسماً آثرك»، فإذا كانت القسمة بينك وبينه، فإنَّه يؤثرك على نفسه.
هذا ما تحدَّث به الإمام الحسن(عليه السلام) من الكلمات المضيئة المشرقة الّتي تفتح القلب على الله وعلى الخير وعلى الدّار الآخرة، فكيف نحوِّلها إلى واقع عمليٍّ في حياتنا؟
مقالات ذات صلة
ارسال التعليق