◄إنّ من أهمّ النِّعَم التي ينعم الله بها على الإنسان في الحياة، نِعمة الصحّة، والتي غالباً ما يغفل عنها ولا يشعر بأهميّتها إلّا عندما يفقدها. وإلى هذا، أشار الإمام عليّ (ع) بقوله: «نعمتان مجهولتان؛ الصحّة والأمان». وقد قيل إنّ «الصحّة تاج على رؤوس الأصحّاء». فالصحّة هي المدخل لبلوغ العقل السليم، لذا يُقال: «العقل السليم في الجسم السليم»، لأنّها تسمح بأداء المسؤوليات والقيام بالواجبات، فالإنسان لا يستطيع القيام بمسؤوليات الدنيا أو الآخرة، أو أداء واجباته، إن لم تتوفّر هذه الصحّة. وفي غياب الصحّة، هو لا يستمتع بلذّات الحياة أو شهواتها أو بجمالها. وإلى هذا أشارت الأحاديث: «بالصحّة تستكمل اللذّة»، «ألاَ وإنّ من البلاءِ الفاقة، وأشدُّ من الفاقةِ مرضُ البدن».
وفي الحديث: «مَن أصبح وأمسى مُعافى في بدنه، آمناً في سربه، عنده قوت يومه، فإن كانت عنده الرابعة، فقد تمّت عليه النِّعمة في الدنيا والآخرة، وهو الإسلام» .
ولذلك، كان رسول الله يُوصي أصحابه أن يسألوا الله العافية، فيقول: «سلوا الله العفو والعافية؛ فإنّ أحداً لم يُعطَ بعد اليقين خيراً من العافية». وقال لأحد أصحابه عندما سأله عن دعاء هو الأفضل، قال: «تسألُ ربّك العفوَ والعافيةَ في الدنيا والآخرةِ، فإنّك إذا أُعطِيتَهما في الدنيا، ثمّ أُعطِيتَهما في الآخرةِ، فقد أفلَحتَ».
توجيهات الإسلام
ولم يكتفِ الإسلام بالدعوة إلى الاهتمام بالصحّة واعتبارها من أولوياته، بل سنّ تشريعاته وتوجيهاته لبلوغها، وهو استخدم في ذلك أسلوب الوقاية، عندما دعا إلى الطهارة. والطهارة في اللغة، تعني أعلى درجات النظافة. وقد ورد في الحديث: «الطهارة شطر الإيمان»، فلا إيمان بدونها. وفي الحديث: «طهِّرُوا هذه الأجسادَ طهَّرَكم اللهُ، فإنّه ليس من عَبدٍ يَبِيتُ طاهراً إلّا باتَ معه في شِعارِه مَلَكٌ، لا يَنقَلِبُ ساعةً من الليلِ إلّا قال: اللّهُمّ اغفرْ لعبدِك فإنّه باتَ طاهراً».
وفي الحديث: «الطاهر النائم كالصائم القائم».
والطهارة؛ طهارة البدن وطهارة الثياب، جعلا في الإسلام شرطاً لصحّة الوقوف بين يدي الله في الصلاة، فلا تقبل إلّا بطهور، ولصحّة الطواف في الحجّ. ومن باب الطهارة، كان تشريع الوضوء والأغسال الواجبة والمستحبّة. ومن الواضح الدور الذي يقومان به في تعزيز الطهارة لدى الإنسان.
وفي توجيه آخر لبلوغ الصحّة، حثّ الإسلام على الاعتدال في الطعام والشراب، وعدم الإسراف فيهما، وقد أشار القرآن الكريم إلى أهمّ مبدأ صحّي، بقوله: (وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا) (الأعراف/ 31). ومن المعروف طبّياً، أنّ أكثر مشاكل الإنسان الصحّية، هي نتاج عدم التوازن في طعامه وشرابه، والإسراف فيهما. ولذلك، لابدّ من أن يكون رقيباً على ما يدخله إلى معدته. وقد ورد في الحديث عن رسول الله (ص): «المعدة بيت الداء، والحمية رأس الدواء».
وجاء التوجيه الثالث ليدعو إلى إعطاء البدن حقّه من الراحة، لأنّ فقدانها يهدّد الصحّة، ويفقد الجسم حيويته وقدرته على القيام بأعبائه ومسؤولياته، ولذلك، ورد عن رسول الله (ص)، عندما رأى رجلاً يرهق نفسه بالعبادة، بحيث لا يقوم بواجباته تجاه حاجات بدنه، فلا ينام الليل، ويصوم النهار، فقال له: «نم وافطر، فإنّ لبدنك عليك حقّاً». وفي حديث آخر: «لا ينبغي للمؤمن أن يذلَّ نفسه». وعندما قيل له: وكيف يذلّ نفسه؟ قال (ص): «يتعرَّض إلى ما لا يطيق»، أي أن يحمِّل نفسه أكثر من طاقته.
أمّا التوجيه الرابع، فجاء ليدعو إلى الحفاظ على البيئة التي يعيش فيها الإنسان، بالحفاظ على نظافة المساكن والطرقات وأماكن التجمّع، وعدم التسبّب بتلوث مياه الأنهار والبحار والهواء، لأنّها تشكّل بيئة خصبة لانتشار الأمراض. وفي ذلك، ورد التحذير من الله سبحانه: (وَلا تُفْسِدُوا فِي الأرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِهَا) (الأعراف/ 56)، وفي ذلك، قول رسول الله (ص): «عُرِضَت عليَّ أعمالُ أُمّتي حَسَنُها وسَيِّئُها، فوجدتُ في مَحَاسِنِ أعمالِها الأذى يُمَاطُ عن الطرِيق»، أو أي مكان يصل إليه.
والتوجيه الأخير الذي نريد الإشارة إليه، ممّا ورد في العديد من النصوص الإسلامية، هو تحريم كلّ ما يسبّب الضرّر للإنسان. وإلى هذا أشار الله تعالى في القرآن الكريم، عندما تحدّث عن المشروع الذي جاء به رسول الله (ص) إلى الناس، والذي هو موجود في التوراة والإنجيل: (الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأغْلالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ) (الأعراف/ 157).
فقد أشار الله تعالى سبحانه إلى أنّه أحلّ الطيّبات من الطعام والشراب والشهوات، لأثرها الإيجابي في الصحّة الجسدية، وحرّم كلّ ما يسبّب الضرّر للإنسان على كلّ الصُّعد.
ومن هنا، جاء تحريم الخمر على سبيل المثال، ومن الواضح أثره الصحّي والجسدي السلبي في عقل الإنسان، وتحريم الميته والدم ولحم الخنزير، وكلّ حيوان يتغذّى على القذارات والنجاسات.
الاهتمام بالصحّة النفسية
ولم يقف الأمر في دعوة الإسلام إلى الصحّة عند الصحّة الجسدية، بل امتدَّ إلى الصحّة النفسية، عندما عزَّز في الإنسان روح التفاؤل، وهذا يحقِّقه التوكّل على الله، والرِّضا بقضائه وقدره، وبالتواصل معه، وفي تجنّب التطيّر والتشاؤم والجزع والاستغراق في الحزن، والنظر إلى الإيجابيات في الأشياء، وعدم الاستغراق في السلبيات. ورد في الحديث: «ليس منّا مَن تطيّر أو تُطيِّر له».
لذا، كان رسول الله (ص) يحبّ الفأل الحسن، ويكره التطيّر، وكان يأمر مَن رأى شيئاً يكرهه ويتطيّر به، أن يقول: «اللّهُمّ لا يأتي بالحسنات إلّا أنت، ولا يدفع السيِّئات إلّا أنت، ولا حول ولا قوّة إلّا بك».
وقد بلغ اهتمام الإسلام بالصحّة، أنّه لم يجز للإنسان أن يقوم بالعبادات، رغم أهميّتها، إن هي تسبّبت بالأذى الجسدي له، وحتى يكفي في ذلك احتمال الضرّر. ولا ينبغي أن نغفل، ونحن نتحدّث عن نظرة الإسلام إلى موضوع الصحّة، دعوته إلى الاهتمام بالرياضة والحثّ عليها، لما لها من دور في بناء الجسم القوي، وحمايته من الأمراض والأعراض التي قد تصيبه.
وفي ذلك، ورد التوجيه للآباء بأن يعلِّموا أولادهم السباحة والرماية وركوب الخيل، كأحد أوجه الرياضة التي كانت موجودةً آنذاك، ولذلك، لا ينبغي الوقوف عند هذه الأنواع فقط من الرياضة.
مسؤوليةٌ للدنيا والآخرة
لقد جعل الإسلام نِعمة الصحّة مسؤولية، والتت سيُسأل الإنسان عنها عندما يقف بين يدي الله، وهو ما أشار إليه الله سبحانه وتعالى: (ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ) (التكاثر/ 8). فالإنسان كما سيُسأل عن تقصيره الديني، سيُسأل عن تقصيره الجسدي. ومن المسؤولية أن يستفيد الإنسان من وقت الصحّة قبل أن يضعف جسمه أو يُبتلى بالأمراض، فقد ورد في الحديث: «اغتنمْ خمساً قبلَ خمسٍ: شبابك قبلَ هَرَمِك، وصحّتك قبلَ سَقمِك، وغِناكَ قبلَ فَقرِك، وفراغَك قبلَ شُغُلِك».
ومن المسؤولية أن يمتلك الإنسان ثقافة صحّية تمكّنه من التعرّف إلى ما يؤدّي إلى الإضرار بصحّته، وأن يصونها من كلّ ما قد يُسيء إليها. وهذا علمٌ يجب تحصيله، وأن يعمل على تحصين صحّته، وذلك بالوقاية، بأن يقيها من كلّ ما يتسبّب لها بالضرّر، ويفقدها حيويتها وفعاليتها، فالإنسان ليس حرّاً في أن يكون نظيفاً أو لا يكون، أو أن يعتدل في طعامه وشرابه أو لا يعتدل، أو أن يرتاح أو لا يرتاح، أو أن يهدِّد صحّته أو لا يهدِّدها، أو أن يهمل صحّته أو لا يهملها، أو أن يجري فحوصات طبّية أو وقائية أو لا...
وعند المرض، فإنّ مسؤوليته أن يلجأ إلى الطبيب للعلاج، ولابدّ من أن يتبع ما يأمر به الطبيب، ويأخذ بنصائحه بحذافيرها، فلا يجوز له عدم اتّباعها عندما يأمره بإجراء فحوصات، أو أخذ دواء، أو إجراء عملية هي ضرورية له، أو ترك أيّ نوع من الطعام أو الشراب، وغير ذلك، فالله سبحانه وتعالى جعل هذه الأجساد التي تحملنا أمانةً في أعناقنا، حتى نؤدّي بها مسؤولياتنا، ونقوم بواجباتنا تجاه أنفُسنا وأولادنا أو إخوتنا، وكلّ مَن حملنا مسؤوليتهم، فإذا قصَّرنا، فإنّنا نقصّر بأمانة الله عندنا، ونقصّر بمسؤولياتنا المُلقاة على عاتقنا، وسنحمل تبعات ذلك عندما نقف بين يدي الله، حيث ينادى: (وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْئُولُونَ) (الصافات/ 24).
فلندعُ الله سبحانه وتعالى من كلّ قلوبنا: «اللّهُمّ البسنا عافيتك وعافية الدنيا والآخرة»، ولنسأل الله أن يمنَّ علينا بالصحّة والأمن والسلامة في الدِّين والبدن والبصيرة في القلب.►
مقالات ذات صلة
ارسال التعليق