عندما نريد أن نتحدّث عن أئمّة أهل البيت (عليهم السلام)، فإنّنا نتحدّث عن قمم الروح والفكر والانفتاح على الواقع الإسلامي كلّه.. ومنهم الإمام موسى بن جعفر الكاظم (عليه السلام) الذي عاش مرحلته في حركة العِلم والفكر والروح في جميع حاجات الناس آنذاك، وعندما ندرس حركته من خلال الذين تعلّموا منه ورووا عنه، فإنّنا نجد مدرسته تتميّز بالتنوّع في الذين أخذوا منها ما أخذوه من عِلم وفكر وروحانيات، بحيث لم تكن مدرسته مدرسة مذهبية تقتصر على الذين يلتزمون بإمامته وحسب، بل كان مرجعاً لكلِّ الناس الذين يتنوّعون في اهتماماتهم. هناك ملامح بارزة في شخصية الإمام موسى الكاظم (عليه السلام) في الطابع العام لحياته، بحيث يمكن أن تكون أساساً للشخصية الرسالية، في الخصائص المتصلة بالعمق الداخلي للمضمون الروحي الذي تتأكد فيه الصفة الإيمانية الشمولية في الإخلاص لله تعالى، والمحبّة له في الحالة العفوية المنفتحة على كلِّ معاني العبودية الكامنة في سرِّ وجود الذات الإنسانية أمام الألوهيّة الرحيمة القادرة في ما توحي به كلمة إسلام الوجه لله التي يعيشها الإنسان في أجواء الحبِّ لله والخوف منه، وهذا ما كان يعيشه الأئمّة من أهل البيت (عليهم السلام) في الجوِّ العبادي المميّز الذي كان يتمثَّل في ابتهالاتهم الخاشعة الخاضعة في الأدعية المعبِّرة عن كلِّ ما يعيش في قلوبهم من انفتاح على الله بكلِّ كياناتهم، في نطاق متحرّك من الروحانية الصافية المليئة بالشعور الفيّاض بالطهارة الروحية في ذوبان الذات في إحساسها بوجودها الفقير في كلِّ شيء إلى الله تعالى.
وإذا لاحظنا النهج الإيماني العرفاني في سلوك أهل البيت (عليهم السلام) وأدعيتهم، في معانيها التي لا تغرق في تعقيد الفلسفات العرفانية الواردة إلى التفكير الإسلامي من خلال قواعد التفكير لدى الآخرين، فإنّنا نرى فيها انسجاماً مع النهج القرآني في الحديث عن الله وصفاته، وعن نِعَمه وآفاق عظمته، فلا تشعر وأنت تقرأها بأيِّ جوٍّ غريب عن تفاصيل الجوّ القرآني، بل ترى فيها حركة قرآنية على مستوى المفاهيم والمشاعر والتطلّعات. ولن تجد في الاستغراق في المضمون العبادي على مستوى الفكر والسلوك أيّ نوع من الانفصال عن الحياة في قضاياها وأوضاعها المسؤولة، بل تجد بدلاً من ذلك استغراقاً في المسؤولية الواسعة التي يفرضها الموقع القيادي الذي يقفون فيه، ولذلك، فإنّك تجد حياة الأئمّة مليئة بالنشاط العلمي والاجتماعي، بالإضافة إلى النشاط العبادي الذي كان يمثِّل الحالة الروحية المتطلّعة إلى الله في شوق ولهفةٍ وحبٍّ كبير، ما يجعل التفرّغ لعبادة الله مطلباً روحياً يبتهل إلى الله من أجل التوفيق إليه، لا محاولةً للتخلّص من المسؤوليات الأُخرى.. فهي نوعٌ من العبادة المتمثِّلة في التعبير عن عمق الحبّ لله في الخشوع بين يديه، والابتهالات في رحاب قدسه ورضوانه، وهذا ما نستوحيه ممّا رُوِي عن الإمام الكاظم (عليه السلام) في قوله وهو في السجن: «اللّهُمّ إنّك تعلم أنّي كنت أسألك أن تفرّغني لعبادتك، اللّهُمّ وقد فعلت فلك الحمد». وهكذا نرى كيف حوّل الإمام الكاظم (عليه السلام) إقامته في السجن إلى فرصة للعبادة المتواصلة، كما كانت حاله خارج السجن التي يعيش فيها الفرح الروحي مع الله، كما هي حالة أولياء الله الذين يشغلهم حبُّ الله عن التفكير في الآلام الصغيرة. وإنّنا نحتاج إلى استلهام هذا السلوك العبادي الذي كان يعيشه الأئمّة الهداة من أهل البيت (عليهم السلام)، ولا سيّما في ما قرأناه من عبادة الإمام موسى الكاظم (عليه السلام)، بالتأكيد على الجانب الروحي في حركة الجوِّ العبادي الذي يرتفع بالإنسان المؤمن إلى آفاق الروحانية العليا التي تجعل العلاقة بالله هي الغاية العظيمة التي يتحرّك نحوها، في ما يريده لنفسه من حركةٍ وحياةٍ في الاتجاه العملي.. وذلك يحتاج إلى طاقةٍ روحية كبيرة، فيما هي روحانية الفكر والممارسة. إنّ الطاقة الروحية هي روح الحركة، وسرّ الشخصية، وشرط الثبات، فلابدّ أن نتحرّك فيها من موقع الفكرة في آيات الله وكلمات رسوله، ومن موقع القدوة في سيرة النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) وأهل بيته (عليهم السلام) والصالحين من عباده.
مقالات ذات صلة
ارسال التعليق