القرآن الكريم مصدر الفكر والثقافة والعقيدة، ومنهاج السلوك والتربية والأخلاق، ومستودع التشريع والأحكام والمعرفة، ومقياس الخطأ والصواب، ومرجع الحيرة والخلاف. إنّ ثقافة القرآن الفكرية التي يخاطب بها الإنسان هي ذات طابع وهدف علمي، فكلّ فكره وثقافته هو للعمل، حتى الثقافة العقيدية العقلية هي أساس ومنطلق للسلوك والعمل. لهذا فهو يرفض القول دون العمل، جاء ذلك في قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ * كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لا تَفْعَلُونَ) (الصف/ 2-3). وفي مورد آخر يربط بين الإيمان النظري والعمل التطبيقي، ويعتبر الانفصال بينهما خسارة وضياع للإنسان. قال تعالى: (وَالْعَصْرِ * إِنَّ الإنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ * إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ) (العصر/ 1-3). ثمّ يوجِّه الإنسان للعمل، وتطبيق الفكر والثقافة النظرية على السلوك والمواقف، ويدعو إلى تجسيدها عملاً منظوراً وملموساً في الحياة. يقول تعالى: (وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ) (التوبة/ 105). (وَأَنْ لَيْسَ لِلإنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى * وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرى) (النجم/ 39-40). (قَدْ أفْلَحَ مَن زَكّاها * وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاها) (الشمس/ 9-10).. وهكذا فإنّ القرآن يبني ثقافة الفكر والعمل.. وليس المثقّف إلّا مَن نقّى وثقّف سلوكه وفكره من الانحراف ومساوئ الأخلاق، وحرص على الاستقامة ومكارم الأخلاق.
ثقافة القرآن تعني تقويم السلوك الإنساني وتهذيبه وتنظيم البنية الذاتية للإنسان على أساس القِيم والمبادئ القرآنية، ليكون شخصية قرآنية في فكره وسلوكه وطريقة تفكيره. وهو الاستقامة: (إِهْدِنا الصِّراطَ المُسْتَقِيم) (الفاتحة/ 1). (فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَنْ تَابَ مَعَكَ وَلا تَطْغَوْا إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) (هود/ 112). ولذلك أيضاً ينهى عن الانحراف والشذوذ، ويستنكر هذا السلوك المِعوَج: (فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ أَنْ لَعْنَةُ اللهِ عَلَى الظَّالِمِينَ * الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا وَهُمْ بِالآخِرَةِ كَافِرُونَ) (الأعراف/ 44-45). إنّ ثقافة القرآن تُربِّي الإنسان المسلم على التوازن بين حُبّ الذات وحبّ الخير للآخرين.. إنها تسعى لتحرير الإنسان من الأنانية، وربط هذا التوازن بالإيمان. إنّ الرسول محمداً (صلى الله عليه وآله وسلم) يُعبِّر عن ذلك بقوله: «لا يؤمن أحدكم حتى يُحِبَّ لأخيه ما يُحبُّ لنفسه»، وقوله: «خيرُ الناس مَن نفع الناس». بل ويدعو القرآن، ويُثقِّف على الإيثار، وهو تقديم الغير على النفس. نقرأ هذه الدعوة في قوله تعالى: (وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالإيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) (الحشر/ 9).
إنّ القرآن الكريم يعرض نماذج وحوادث واقعية قد اتّصفت بالإيثار وتجردت من الأنانيّة. إنّه يعرضهم مثلاً أعلى للإقتداء بهم، واستلهام سيرتهم. والقرآن يدعو إلى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وإلى مساعدة الآخرين والتعاون معهم، وبذل المال والإنفاق التطوعي في سبيل الله، والإندماج بالجماعة والتفاعل مع المجتمع. یقول تعالى: (وَمَا تُقَدِّمُوا لأنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) (البقرة/ 110).
مقالات ذات صلة
ارسال التعليق