◄- الحلال:
قال تعالى: (يَسْأَلُونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ) (المائدة/ 4).
- الحرام:
قال عزّ وجلّ: (قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلاّ تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ مِنْ إِمْلاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ وَلا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلا بِالْحَقِّ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ) (الأنعام/ 151).
- الحلال والحرام:
قال جلّ جلاله: (وَلا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لا يُفْلِحُونَ) (النحل/ 116).
- إطلالة على الحياة:
وأنت طفلٌ صغير، لم تدرك بعدُ من الحياة أمانها ومخاطرها، تتدخّل أُمّك في اللحظة التي ترى فيها أنّ ثمة خطراً يتهدّدك لتمنعك من الوقوع فيه، أو لتمنعه من الوقوف في طريقك ليؤذيك، فليس كلُّ شيء صالح لإدخاله في فمك لتكتشفه أو تتعرّف عليه بحاسّة الذوق.. هكذا وحدك وبمفردك.
فبعضه قد يجرحك، وبعضه قد يحرقك، وبعضه قد يسمّك، وبعضه قد يكهربك، وبعضه قد يميتك، وبعضه قد يجعل الناس يذمّونك أو ينتقدونك أو يحتقرونك.
دليلك للاحتراس من الخطر.. جرس إنذارك.. المُنبِّه الفوري (أُمّك) الأعرف والأعلم بأدوات الجرح والإحراق والتسميم والتكهرب والإماتة، وما يستوجب الذمّ والإستهجان.
إنّها تتدخّل تدخّلاً محسوباً لا لتُضيِّق حرِّيتك، بل لتُضيِّ المساحة التي تُسبِّب لك الأذى والألم والمرض والموت أو الملامة، وهي بذلك تُعلِّمك أوّل دروس الحرِّية بطريقة عمليّة، فكلّ ما عدا الممنوعات هي مساحة مفتوحة للحرِّيّة.
فأنت بالنسبة لأُمّك، أحبّ الناس وأغلاهم، وحقيقةُ حبّها وإخلاصها لك لا تتركك تعاني الألم وتكابد المشقّة، وهي – عادة – لا تأبهُ لبكائك إذا منعتك من الضارّ، لأنّها تعرف أن بكاءك سيطول ويشتدُّ أكثر فيما لو تلركتك فريسة الممنوع، وقد تفقدك للأبد.. إنّها لا تمنعك مثلاً من لعبة مسلّية، أو أداة أمينة، أو طعام غير ملوّث، أو حيوان أليف تأمن جانبه.
وهي إذ ترفض لك أن تكشف عورتك أمام الناس وتقرن تغطيتها بكلمة (عيب) إنّما تتصرّف بوحي من عُرف أو شرع، أو أدب شائع، أو عقل يستنكر ذلك، إنّها تُعلِّمك أنّ (الستر) فضيلة.
وحين تكبر وتنزل إلى الشارع.. تسبقك أو ترافقك التعليمات والتوصيات المشفقة المحبّة: إنتبه! قبل عبور الشارع.. انظر يميناً وشمالاً.. تأكّد من خلوّ الشارع.. لا تعبر والسيارة قادمة، دعها تمر ثمّ اعبر.. اعبر من أماكن العبور المخصَّصة.
والسائق عادة لا يكتفي أو يعتمد على التعليمات البيتيّة، فهو يزمِّر لك بالبوق إذا كنت ذاهلاً أو غافلاً حتى تنتبه فلا تتسرّع، ونظام المرور في بعض البلدان يعطيك إشارة ضوئيّة لعبور المشاة، أو التوقّف حتى يصبح الطريق سالكاً..
وليس ثمة عاقل، في كامل قواه العقلية، يقول: دعوني أتصرّف بوحي من إرادتي أو مزاجي دون التقيُّد بإشارات المرور، فأنا مستعد لتحمّل النتائج والتبعات إلا إذا قرَّر الإنتحار.. فالعبور في أثناء تدفق السيارات موت محقَّق والنجاةُ عجوبة.
إنّ تعليمات البيت، وتعليمات المرور، وإشارات المرور، وانتباه السائق وتزميره، كلّها تقف مصطفّة للحفاظ على سلامتك.. هي لمصلحتك حتى إذا كنت تستهين بحياتك أو تخاطر بها، وحتى إذا كنت لا تعطي لتلك التعليمات الإهتمام المطلوب.
في المدرسة.. نظام تعليمات يسري على الجميع.. التزم بوقت الدوام.. كنْ حاضراً في الوقت المحدَّد.. ارتدِ زيّاً معيّناً.. التزم بنظام الطوابير.. لا يحق لك أن تدخل أو تخرج من الصف إلا بإذن.. لك وقتُ مباشرة، ووقت تعليم، ووقت طعام، ووقت انصراف.
بإمكان أبيك أن يختار لك المدرسة التي يراها الأفضل والأصلح لتربيتك، مثلما سيكون لك الخيار عند الدخول إلى الجامعة.. فقد يتاح لك أن تختار أكثر من جامعة وأكثر من فرع علمي أو إنساني، وتلك هي مساحة حرِّيتك.. أمّا إذا اخترت جامعة بعينها، عندها تتوقّف حرِّيتك أو تتحدّد بنظام داخلي معيّن لا يجوز لك أن تخرقه أو تتصرّف بعكسه، لأنّه نظام موضوع لكل الطلبة أو التلاميذ المنتسبين لتلك الجامعة، فالكلّ يُدينون به بلا إستثناء.
(العقيدة) و(الشريعة) كثيرتا الشبه بهذا المثال.
في (العقيدة) لك حرِّية البحث والنظر والتنقيب والتدقيق والسؤال والمناظرة والمحاورة والمحاججة حتى تُشبع العقيدة بحثاً، وتصل إلى درجة القناعة الكلِّيّة في القبول أو الرفض.
فإذا قبلت، فإن ذلك يعني قبولاً ضمنيّاً بكل مستلزمات العقيدة التي تُحدِّدها لك (الشريعة) في: وجوبها، وحلالها، وحرامها.
ولذلك يستحسن ويصحّ بل يجب السؤال للدخول في الأصل (العقيدة)، ولكن لا إعتراض على الفروع (الشريعة)، لماذا؟
لأنّك بعد أن تكون اخترت الطبيب المناسب الذي تثق بأنّه الأقدر على علاجك، من بين عشرات الأطباء المنتشرين في البلد، لا يحق لك أن ترفض وصفته التي يكتبها لك على ضوء تشخيصه لمرضك ورؤيته لعلاجك.
نعم، يمكن أن تمتنع عن العمل بها أو ببعضها، وعند ذاك لا تلوم إلا نفسك إذا اشتدّ المرض، أو لم تتحسّن صحّتك، أو انتكست انتكاسة مريعة، كما إنّك لو أخذت أعظم وأكمل وصفة طبّية في العالم ووضعت لها إطاراً جميلاً وعلّقتها في مكان بارز من الصالون، ورحت تفتخر بأنّها أوّل وصفة من نوعها، من دون أن تتناول دواءً واحداً منها، هل كان ذاك يخفِّف أو يقضي على ما تعاني من مرض؟
- الميول الفطريّة:
لو لم يكن هناك قانون يُحدِّد لي المسموح والممنوع، ويقول لي (قِفْ) هنا، و(امضِ) هنا، لو لم تكن أُمّي معي، لو لم يكن لدي دليل يدلّني على الصح والخطأ.. فمن يا ترى كان يمكن أن يساعدني على التعرُّف على المسموحات والممنوعات؟
حاسّتي الداخليّة.. فطرتي.. بوصلتي.. هي منبِّه داخلي يشعرني بالألم النفسي إذا أسأت، وبالسرور النفسي إذا أحسنت، هذا في جانب المعنويات.
أمّا في جانب الماديات، فإنني سأدفع ثمن جربة الأشياء المؤذية لامتنع في المرّات اللاحقة، فبدلاً من أن أجد مَن يرفع يدي عن المدفأة حتى لا تحترق، ستحترق يدي وأعاني كثيراً حتى يندمل الجرح ويزول أثر الحرق، وسيعلِّمني ذلك أنّ النار تحرق فلا أقترب منها ثانية، إذا فعلت فأنا أجهل الجهلاء.
بدون دليل، بدون إرشادات، بدون مُعلِّم يُعلِّمني متى (أُقدم) ومتى (أحجم) سترتبك حركتي في الحياة، وتختلط عليَّ المسارات، وتغيم السبل، فقد أقف في موضع الحركة، وقد أندفع في موطن الوقوف.
أي، إنّني قد أشرب الدمّ من غير أن أجد حراجة أو تقززاً في شربه، وأتناول لحوم حيوانات ميتة أو مفترسة بلا مانع يمنعني من ذلك، بدليل إننا حتى اليوم نسمع عن مصاصي الدماء أو آكلي لحوم البشر.. أمّا آكلوا لحوم الحيوانات أو الأطعمة غير المدرجة على قائمة اللحوم والأكلات المألوفة في المطابخ الصحّية، فأكثر من أن يُعدُّوا.
ربّما لو كانت هناك ثقافة صحية تُحدِّد لي (الصحّي) من المأكولات من (غير الصحّي) لأقدمت على تناول الصحي وتركت غير الصحّي، ولكن ذلك وحده ليس كافياً، فقد يدفع (الفضول) البعض لتناول ما هو غير صحي وإن كان يحمل لهم الضرر والخطر، فنحن لسنا دائماً نلتزم بما يقوله الأطباء والنشرات الصحية، فعلى الرغم من التحذيرات الكثيرة بالإمتناع عن أطعمة بعينها، أو مشروبات مخصوصة، لكننا نتعاطاها متغافلين عن التحذيرات والتشديدات بشأنها: إمّا لألفةٍ ألفناها وعادةٍ اعتدناها، وطريقة حياة أدمنّاها، وإمّا لأنّنا لم نتبيّن حقيقة وحجم الأضرار التي ستنجم عن مخالفتنا للتعليمات الصحّية.
إنّنا نعذر الظمآن الذي لم يجد ماءً صالحاً للشرب إذا شرب من ماء قذر، لأنّه إذا لم يشربه قد يموت، كما نعذر الذي لا يجد طعاماً يأكله وقد افترسه الجوع حتى كاد يهلكه، أن يأكل ما لا يؤكل في الحالات الإعتيادية حفاظاً على حياته من الهلاك، ولكن:
هذا هو (الإستثناء).
ونحن هنا نتحدّث عن (القاعدة).
فلماذا – مثلاً – يتناول البعض لحم الكلاب والقطط وهناك عشرات الألوان من اللحوم والأطباق الشهية الطيِّبة اللذيذة الصحية؟!
البعض يقول: ذلك بغرض (التنويع) لأنّ الإنسان قد يملّ المألوفات من الأطعمة فيحبّ أن يُغيِّر، ألم يطلب بنو إسرائيل تغيير (المنّ) و(السلوى) بالثوم والعدس والبصل؟
والبعض يقول: إنّ ذلك من باب تجريب ما لم يُجرَّب، وتذوّق ما لم يسبق تذوّقه.
وقد يقول آخرون بوحي الوهم والخداع: إنّ الممنوع أطيب وألذّ لأنّه ممنوع!
وقد يُقال: "لكلِّ امرءٍ من دهرهِ ما تعوّدا"!
وبالفعل، فإنّ الإنسان قد يعتاد أكل الضفادع والخنافس والجراد واليربوع والديدان، فلا يجد – بعد حين – أن ذلك مقززاً.
لكن المسألة ليست مسألة (الطعم) وحدها، فقد يتذوّق إنسان ما لا يجده آخر طيباً من حيث الطعم، ولكنها مسألة الأضرار الصحّية التي تلحق بآكلي الممنوعات.
- حاسّة الذوق وذوق الإحساس:
حاسّة الذوق التي نتحسّس فيها طعم الأشياء الحلوة والمُرّة والمالحة والحامضة، حاسّة مهمّة في التمييز بين المذاقات المختلفة، ولو حدث مرّة وأصيبت هذه الحاسّة الضرورية بخلل ما فعطبت أو تعطّلت بسبب أو لآخر، لما استطعنا أن نستشعر الحلاوات والمرارات والحوامض والموالح، ولبدت جميعها على مذاق واحد هو اللامذاق، الأمر الذي يجعلنا نفقد الإحساس بطعم الأشياء ومتعتها، وربّما قتلنا المرُّ ونحن غير حاسّين بمرارته.
وإنّما سُمِّيت كلُّ حاسّة من الحواس الخمس حاسّةٌ، لأنّها تلتقط الأحاسيس المادية فتميّز وتفرز وتقارن بينها، فلا تختلط، أو تتداخل، أو تتساوى.
في قبالِ هذه الحواسّ المادية، هناك أحاسيس معنوية، مشاعر نتحسّس حلاوتها المعنوية، وحرارتها المعنوية، ودفئها المعنويّ، وبرودتها المعنوية، فإذا ابتلينا بفقدان هذه المشاعر والأحاسيس سواء بالإدمان، أو الرتابة، أو التكرار، أو الإجترار، أو التجاهل والإهمال، فإنّنا سنفقد جانباً مهمّاً من المعايير التي نتحسّس بها إيقاعات الحياة ومذاقاتها، وبالتالي التعاطي معها سلباً وإيجاباً.
إنّ الذي يعاقر الخمرة ويلازمها ملازمة شديدة فتخالط لحمه ودمه، ويألفها وتألفه، حتى أنّه يأبى مفارقتها حتى بعد موته فيطالب – كما ذلك الشاعر – بأن يُدفن إلى جنبِ كرمةٍ (شجرة عنب).
والذي يمارس الزِّنا فلا يجد بأساً في التنقّل بين أحضان العواهر والداعرات والبغايا والفاجرات، فلا يعود يأبه للأعراض وللعفاف ولا لأمراض الأيدز والسفلس والزهري، وانعدام اللذّة الحقيقيّة..
والذي يتعاطى القمار فلا يرى مكسباً شريفاً غيره، حتى ولو أفقده كل ممتلكاته، وحتى لو جرّده من ملابسه، وجرّ عليه الإفلاس المادي والأخلاقيّ..
والذي يتحوّل الكذبُ على لسانه إلى عادة يستمرأها فلا يشعر معها بالخجل أو الحرج أو الإثم أو العار، بل تراه يتذوّق الكذبة كما يتذوّق الصادق صدقه.
والذي يداخله السرور العارم كلّما أحدث فرقة بين إلفين أو صديقين أو زوجين.. هؤلاء وغيرهم ممّن يعايش ويعاشر المنكر والقبيح والمُسيء معايشة يومية، فيزامله ويعامله معاملة القريب الحبيب.. هؤلاء ليسوا (مدجّنين) أو (متأقلمين) مع الغريب المستهجن، إنّهم (ممسوخون) لدرجة أن ذوق الإحساس قد تعطّل لديهم فلم يعودوا يرون القبيح قبيحاً، والمنكر منكراً، والرذيلة رذيلة، والسقوط سقوطاً، إن أحساسهم تبلّد إلى درجة أنّه أصبح كالجلد الميت لا يؤثر فيه الوخز، فكيف يستشعر وخزة الضمير مَن مات ضميره أو تبلّد أو تجمّد.
يقول (المتنبي):
وما انتفاعُ أخي الدنيا بناظرهِ****إذا استوت عنده الأنوارُ والظلمُ
إنّ بعض الناس يصل إلى مرحلة من موت الإحساس وتبلّده إنّه يفقد معها تأنيب الضمير ووخزه، فلا يعود إطلاع الناس على عيوبه وعوراته شيئاً يهزّه أو يستثيره أو يُعرِقُ له جبيناً، وربّما تراه على العكس يتفاخر ويتباهى بمباذله وفجوره وانحلاله واستهتاره.
فإذا تعطّل ذوق الإحساس لدينا – لا قدّر الله – فقدنا القدرة على التمييز بين (المسموح) وبين (الممنوع) سواء جاء بالشرع أو العقل أو القانون أو العُرف الإجتماعي السائد، أو بغير ذلك، وعندها لا يمكن أن نُسمِّي فاقد الذائقة الإحساسية أو الشعورية بشراً سوياً، ذلك أنّ هناك فرقاً بين مَن يتحسّس حلاوة الأشياء الحسنة بلسان مشاعره، وبين مَن لا يجد مرارتها في خاطره.
يقول شاعرٌ يحتفظ بذوقه الإحساسي المفعم والسليم:
ولم أرَ كالمعروفِ، أمّا مذاقُهُ****فحلوٌ، وأمّا وجههُ فجميلُ
إنّه مرهف الإحساس لكلّ ما هو معروف وخيرٌ ونبيل وجميل، يلتقطه ويحتفي به ويحتضنه ويتفاعل معه، أي أنّ للمعنويات عنده مذاقات، بعضها حلو وبعضها مُرّ.
ويوم يفقد المرء إحساسه بالمذاق المعنويّ، فقد يجد في القبائح مذاقات مستملحة أو حلوة، أي أن مشاعره تنعكس وتنقلب رأساً على عقب، فالذي يُدمن الذلّ والمهانة – مثلاً – يصبح بعد فترة من الإعتيادِ مسخاً لا يحمل من الإنسانِ إلا إسمه ومن الإنسانية إلا رسمها، فتراه يستعذب التحقير والإذلال كما يستعذب الحُرّ الكرامة.
يقول (المتنبي):
مَن يَهُن يسهلُ الهوانُ عليهِ****ما لجُرحٍ بميّتٍ إيلامُ
هذه المقارنة بين حاسّتي (الذوق المادية) و(الذوق المعنوية) هي التي ترسمُ لك الحد الفاصل بين مَن ينغمس ويرتمس في (الممنوعات) فلا يرى فيها ضرراً ولا ضيراً، بل قد يجد فيها نفسه وأنّسه، وينسلخ عن المباحات والطيِّبات فلا يرى فيها ما يجده السليم المعافى من لذّة ومتعة وأنس وعافية وراحة بال وسعادة.
- أنا لستُ مشرِّعاً:
لأنّ المزاجية والهوى والذوق يغلب عليَّ كإنسان، فأنا لستُ مبدئياً، وليستُ متوازناً دائماً، ولا محتاطاً في أعمالي دائماً، لأنّني – مهما بذلت من جهد – لن أستطيع أن أنظِّم حياتي وفق برنامج متكامل، للأسباب التالية:
1- أنا ناقص، فليس الكمال والشمولية طبيعتي أو شيمتي.
2- أنا سريع التراجع عمّا قلته بالأمس، ولذلك أكثر من التنقيح والتصحيح والتعديل والتبديل.
3- أنا محليّ، لا أقدر على أن أضع برنامجاً أو علاجاً لمشاكل العالم.
4- لديّ نزعات لا أستطيع التخلِّي عنها في عنصريتي وقوميتي وفئتي وطبقتي.
5- أنا مزاجي متقلِّب، أميل حيثما تميل مصلحتي حتى وإن تعارضت وتضاربت مع مصالح الآخرين.
6- أنا انتهازي، أحوز النار لقرصي، حتى لو بقي عجينُ الآخرين عجيناً.
7- أنا محدود السلطة، لا أستطيع أن أُسري جميع قوانيني على الجميع.
8- أنا يوميّ آنيّ، وقد أخطط للمستقبل القريب لكنني عن التخطيط للمستقبل البعيد عاجز لأنّني لا أستطيع أن أرمي ببصري في أقصى الغد، وقد أنجح في خطّة خمسيّة لكنني أفشل في خطّة خمسينيّة.
هذا يستدعي أنّني أتأرجح في حساباتي، فقد يكون المسموح عندي أمس ممنوعاً اليوم، والعكس صحيح، وإنّني لا أستطيع أن أستوعب كلّ الحالات بشكل استقصائي شمولي، ولكن أتمكّن من الدخول إلى المناطق المغلقة أو المقفلة أو البعيدة عن عيون الرقابة والشرطة والقضاء.
فمع كلّ هذه النواقص والثغرات فإنّه لابدّ من دولة ودستور وقانون تسيِّر لي أموري سيراً صحيحاً خالياً من الأخطاء والأخطار، أو مقلّصاً لها إلى أدنى حدّ.
وببساطة شديدة، فإنّ الذي لا يقدر أن يُخطِّط لنفسه أو يضع لها خطوات كاملة متكاملة، عليه أن يستعين بالخبراء حتى ينجدوه، فحينما أوشكت شركة (نسيان) اليابانية على الإفلاس أو تراجعت أمام منافسة السوق، بحثت عن إداري خبير لينقذها من ورطتها ويخرجها من أزمتها، وهكذا كان.
إنّني قد آخذ ورقة وقلماً أُسطِّر على بياض الورقة قائمتين من (الممنوعات) و(المسموحات) بحسب نظري ومزاجي وتصوّري المحدود، وقد تأخذ أنت ورقة وقلماً فتدوِّن في قائمة الممنوعات بعض مسموحاتي، وفي قائمة المسموحات بعض ممنوعاتي، لأنّنا لا ننطلق في اعتبارنا لما هو مسموح وما هو ممنوع من معيار علويّ يحكمنا ويلزمنا، وإذا اختلفنا احتكمنا إليه.
إنّ التشريع حتى يكون حاكماً ومرجعاً، لابدّ أن يكون من أعلى وإذا أفسدته الإجتهادات والأمزجة والتناقضات والمصالح الضيِّقة، فإذا لم يكن هناك تشريع للعلاقة الجنسية يضبط حركتها في المجتمع، ويُقنِّنها للرجل وللمرأة، سادت الإباحية والفوضى الجنسية التي قد تشرِّع للمثلية الجنسية وتصوِّت لها، وهو شيء ممقوت وإن نادى به البعض وتنادى إليه الشاذون.
لابدّ إذاً من (عقل أكبر) و(أكمل) و(أقدر).. عقل من خارج يخطِّط لي ما أنا عاجز عن التخطيط له.
إنّ شرائع الإنسان – حتى الصالح منها – تبقى قاصرة عن تلبية الإحتياجات البشرية، إحتياجات الإنسان النوع، لأنّ الناقص لا يصدر عن الكمال، وأنّ المحدود لا ينتجُ مطلقاً، وأنّ الضيِّق لا يأتي بالسعة، وإنّ المتغيِّر لا يستطيع أن يُحقِّق الثبات، وأنّ الإنتهازي لا يمكن أن يُفكِّر بمصلحة المجموع، وأنّ الآني لا يقوى على تجاوز حاضره إلى المستقبل، وأنّ المحليُّ ليس بإمكانه أن يفرش جناحيه على العالميّة.
- مزاجية التحليل والتحريم:
تأريخ الإنسان يشهد أنّه، في الفترات التي يتخلّى أو يرفض أو ينسى، أنّ هناك تشريعاً علويّاً يُقنِّن له حياته ضمن أصول وضوابط تكفل له المزيد من السعادة، وتُجنِّبه المزيد من المخاطر، يأخذ هو على عاتقه التشريع لنفسه، وقد نجد عذراً للنباتيين الذين يريدون أن يخفِّفوا من أوزانهم، ولكننا لا نجد لهم عذراً في تحريم اللحوم التي هي من طيِّبات هذه الحياة التي جرَّبها الإنسان منذ أن تناول أوّل قطعة لحم لخروف أو دجاجة، فوجد أنّها لذيذة وصحّية ونافعة، وقد اجتمعت كلمة العقلاء على أنّها كذلك، أي أنّ هذه اللحوم ومثلها الأسماك ولحوم الأبقار والإبل حصلت على شهادة الإنسان في طيبها ونفعها وضرورتها لمائدته.. ولا ننسى أنّنا هنا نتحدّث عن القاعدة العامّة وللإستثناءات حديث خاص.
كما أنّ البعض قد حرَّم الزواج على نفسه ليعيش الرهبنة بما هي عزوف عن طيِّبات الحياة الدنيا، وقد دلّت الدلائل أنّه لم يفلح في قراره هذا، فما زلنا نسمع عن فضائح جنسيّة ترتكب وراء ستار بين الذين حكموا على أنفسهم بحرمة الزواج.
بلغ النبي (ص) أنّ جماعة من المسلمين شدّوا مآزرهم فقاموا الليل وصاموا النهار وعافوا النِّساء، حتى ضجّت النِّساء من ابتعاد رجالهنّ عنهنّ، فخرج النبي (ص) مغضباً، وخطب في الناس مشيراً إلى ما بلغه، قائلاً بأنّه ينام ويقوم، ويصوم ويفطر، ويعاشر النِّساء، فهذه سنّتي، ومَن رغب عن سنّتي فليس منِّي!
وبلغ الإمام علي بن أبيطالب أن (عاصم بن زياد) قد لبس العباءة وتخلّى عن الدنيا (حرم على نفسه الطيِّبات)، فقال (ع): عليَّ به. فلمّا جاء، قال له علي: "يا عديّ (عدوّ) نفسه! لقد استهام بك الخبيث (الشيطان)، أما رحمت أهلك وولدك! أترى الله أحلّ لك الطيِّبات، وهو يكره أن تأخذها، أنت أهون على الله من ذلك"!
وتأتي إمرأة إلى الإمام جعفر الصادق من أئمة أهل البيت، فتقول له: "أنا متبتلة.
فقال لها (ع): وما علامة التبتّل عندك؟
قالت: أرفض الزواج.
فقال لها (ع): لو كان في التبتل – بهذا الفهم – فضيلة لكانت فاطمة الزهراء إبنة النبي محمد (ص) أولى به منك"!
ولـ(سورة التحريم) قصّة وسبب نزول، من المناسب هنا أن تتعرّف عليها لترى أنّك لا يجوز لك أن تُحرِّم ما أحلَّ الله لك، فإلى القصة:
تذكر الروايات أنّ رسول الله (ص) كان يذهب أحياناً إلى زوجته (زينب بنت جحش) فتأتيه بعسل قد هيّأته له، فشق ذلك على بعض نساء النبي (ص)، فسألته إحداهنّ: هل تناول صمغ (المغافير)، وهو صمغ له رائحة غير طيِّبة، وكان النبي (ص) يرى أنّ رائحته طيِّبة، وأنّه لم يتناول هذا الصمغ، بل تناول عسلاً، ولأنّه رأى كراهية نسائه له حرَّمه على نفسه، وحذّرهنّ من نقل ذلك إلى أحد من المسلمين فيشيع بين الناس أنّ الرسول (ص) قد حرَّم على نفسه طعاماً حلالاً فيقتدون به ويحرمونه على أنفسهم، فنزل قوله تعالى: (لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاةَ أَزْوَاجِكَ) (التحريم/ 1).
والتحريم هنا ليس تحريماً شرعيّاً، فالنبي (ص) لا يُحرِّم أو يُشرِّع في قبال تحريم الله وتشريعه، ولكنه أقسم على ترك المباح، والقسم على ترك المباحات ليس ذنباً.
لكن الدرس الذي يسوقه القرآن إلينا أنّ التشريع حقّه وحده وليس لإنسان حتى ولو كان نبيّاً يُحلِّل أو يُحرِّم شيئاً من عنده، أو يُحلِّل الحرام ويُحرِّم الحلال بطريقة كيفيّة مزاجيّة، فهو تعالى لم يُحلِّل أو يُحرِّم شيئاً إلا وفق مصالح دقيقة.
- الإمتناع ليس تحريماً:
لابدّ هنا وقفة تربوية حتى يرتفع الإشكال الذي قد يطرأ على ذهن القارئ في معنى أنّ النبي (ص) حرَّم على نفسه.
إنّ امتناع الإنسان بإرادته عن ممارسة بعض المباحات لغاية تربوية ليس تحريماً كأنّ يكون ذلك كتدريب النفس وترويضها ومجاهدتها، وجعلها لا تطمع بالحلال أو تسرف فيه لتكون على ترك الحرام أقدر وأقوى.
إنّك حين تصوم في شهر رمضان، فإنّك تمتنع عن تناول الطيِّبات من طعام وشراب وجنس، وهي بعد انتهاء نهار الصوم تعود لإباحتها لتجد فسحتك في التعاطي مع الطيِّبات في فترات معيّنة، وكل ذلك من أجل إيجاد حالة من (الممانعة) الإرادية التي تؤدِّي بالتدريب والمران إلى تقوية (المناعة).
وليس ذلك مقصوراً على شهر الصيام، فبإمكانك أن تمارس الصوم في خارج الوقت المعيّن للصوم، بأن تمتنع عن أطعمة بعينها إمّا خشية السمنة أو للتخلّص من الشحوم في الدم، أو لخفض الضغط والسكّري، وما إلى ذلك.
فأنت هنا لا تُحرِّم تلك الأطعمة – حتى ولو منعك الطبيب من تناولها – حيث يمكنك مثلاً الإقلال منها، أو تناولها في فترات متباعدة، أي أنّ الإمتناع لا يعني تحريماً بالمعنى الشرعي للتحريم، لأنّك بذلك تكون مشرعاً في قبال المشرّع الذي هو الله تعالى، ولا يحقّ لك ذلك، فهو حق مقصور ومحصور بالله تعالى فقط.
- ما هو الحلال؟
الحلال لغةً من حلّ العقدة المادية أو المعنوية، ومَن حلّ بمعنى نزل في مكانٍ ما، فلقد كان العرب أهل حلّ وترحال، فإذا نزلوا بمكان حلّوا الأحزمة والعقد والأمتعة، ليدل ذلك على الإقامة.
من ذلك نستوحي أن الحلال هو رفع العُقد والأحزمة ليتحرر الإنسان مما كان يمسكه، فأنت حينما تركب في الطائرة يشتعل الضوء الذي أمامك ليطالبك بربط الحزام (حزام الآمان).. وبعد أن تحلّق الطائرة ويستقر بها السير في الفضاء، يُطفىء الضوء ليقول لك أنّ بإمكانك التحلل والتحرر من الحزام أو من العقدة أو الرباط.
إنّ روح الحلال وغايته هي إشعارك بالحرية في التمتع بما في يدك أو معك أو حولك.. إنه يعطيك الشعور بـ (الأمان) و (السعة) و(المتعة) و(الحرية).
كما أن كلمات مثل (مسموح)، (مقبول)، (جائز)، (ممكن) تعني أنّ الطريق مفتوح أمامك فلا يضايقك جرس إنذار، أو كاميرا خفية ترصدك، أو شخص مسؤول يعترضك بالسؤال: ماذا تفعل؟ أو مَن سمح لك بذلك؟ أو ما شاكل.
الحلال بلغة إشارات المرور هو (الضوء الاخضر) الذي يقول لك: انطلق، على بركة الله، وفي طريق الأمن والسلامة.
لهذا ارتبط مفهوم (الحلال) بمفهوم (العدل) و(الكرامة) و(السعادة) و(المصلحة) و(الحرية) بإعتبارها حاجات أساسية لا يمكن لك كإنسان أن تستغني عنها إذا أردت أن تعيش معززاً مكرماً.
- ما هو الحرام؟
الحرام ما كان فعله محظوراً بحكم الشرع أو بحكم العقل، وهو ممنوع لمصلحة وحكمة، والحرام والمحرمة من المنطقة الحرام التي لا يجوز اقتحامها أو التسلُّل إليها أو اختراقها تحت أي ذريعة، فهي محميّة، مصونة وممنوعة أيضاً، والحرام شرعاً: كلُّ ما نهى عنه الشارع (أي الله تبارك وتعالى) في كتابه الكريم أو على لسان نبيّه الكريم، وهو ملكٌ خاصّ بالله وحده، كما هو الحلال، فلا يجوز لأي إنسان – مهما كان – أن يُحرِّم في قبال تحريم الله تعالى، فالحرام ما حرَّمه الله عزّوجلّ وهو يشمل كل ما أقرّ العقلُ بقبحه واستهجانه.
ومن الطريف أن فكرة الحرام ارتبطت في ذهن الإنسان منذ البداية بالتبعات التي تلحق بمرتكبه، فلقد كان الإنسان في بعض مراحل حياته يرى أنّ مخالفة المحظور أو الممنوع تسبب له (العمى) أو (المرض) أو (الموت)، كما كان الإعتقاد السائد لدى بعض الشعوب أنّ قتل بعض الحيوانات، أو قطع بعض الأشجار، يُلحق بهم بلاءً عظيماً.
إنّ روح الحرام وغايته ليس المنع لمجرّد المنع، أو الحرمان لأجل الحرمان، وإنّما هو لأجل حماية الإنسان من الضرر أو الخطر المحيط أو الداهم، بل وحمايته من نفسه في بعض الأحيان لأنّ الإنسان (جهول) وناقص المعرفة وقصير النظر مهما أوتي من ثقافة.
ومن دلائل محدودية المعرفة البشريّة، قوله تعالى: (يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ) (الروم/ 7).
ويقول جلّ جلاله: (كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ) (البقرة/ 216).
ويقول عزّوجلّ: (.. آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ لا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعًا...) (النساء/ 11).
ويقول سبحانه: (.. فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا) (النساء/ 19).
فالحرام حمى وحماية وسياج ووقاية وتحصين، ولذلك سُمِّي (البيت الحرام) كذلك ليحرم فيه العدوان، وليكون وقاية وأمناً.
وسُمِّي (الشهر الحرام) حتى لا تراق فيه الدماء فيكون محترماً من قبل الأطراف المتصارعة والمتحاربة، وليكون محطّة سلام ومراجعة حقناً للدماء.
وسُمِّي الحاج الذي يرتدي ثوبي الإحرام (مُحرماً) لأنّه لا يجوز له مخالفة عدد من الممنوعات التي تحرم عليه حرمة مؤقتة، لكي يعيش أو يخلق جوّاً آمناً من حوله، ومناخاً للسلامة خالياً من التعدّيات والتجاوزات والأنانيات الضيِّقة.
وسُمِّيت (المحارم) من النساء محارماً لأنّه لا يجوز الزواج أو الإقتران بهنّ بشهوة الجسد، للقرابة القريبة التي يعيشها الإنسان منهنّ، فكأنّ العلاقة القريبة مع أي محرم من محارمك تترفّع أو تتنزّه عن أن تكون علاقة جسد بجسد، وإنّما هي حرمة لتعيش مع الأُم والأخت والعمّة والخالة حالة من الطهارة النفسيّة، أو العلاقة الروحية المجرّدة عن الشهوة الجسدية.
وأمّا محارم الله وحرماته، فإنّما عُظّمت واكتسبت تسمية حرمات لأنّها تُنظِّم للحياة أسلوبها الراقي فيما هو مسموح وما هو ممنوع، وما هو مسؤولية.
والحرام بلغة إشارات المرور هو (الخط الأحمر) أو (الضوء الأحمر) الذي يُمثِّل (الوقوف) و(الإحجام) و(الإمتناع) و(الرفض) لأجل السلامة الخاصة، ولأجل السلامة العامة أيضاً.
ولذلك ارتبط مفهوم الحرام بمفاهيم (الوقاية) و(التحصين) و(السلامة) و(المناعة) و(الرفض) و(المفسدة).
- مساحتا الحلال والحرام:
بأيّ مقياس تشاء، فإنّ مساحة الحلال في حياتك أوسع بكثير من مساحة الحرام لدرجة إنعدام المقارنة، فما هو مباح ومسموح وجائز لك يكاد يستغرق أكثر من ثلاثة أرباع الحياة.
أمّا المساحة الضيِّقة المتبقية، ونعني مساحة المحرّمات، فهي موجودة أو موضوعة لخدمة الثلاثة أرباع المذكورة، فلكي تكون الحرِّية هانئة غير منغّصة، كان لابدّ من إجراءات أمنيّة مشدّدة تقي مكاسب الحلال من سطوة الحرام وشهوته وعدوانه وظلمه وظلامه.
إنّ إشارة الضوء الأحمر حينما تشتعل فيقف صف أو طابور من السيارات إحتراماً لها، تحقق للمسارات المسموح لها حرِّية الحركة، نافيةً أي قلق من إحتمال إلإعاقة أو العرقلة أو الإرباك، فالحرِّية من غير وقاية تصبح مهددة وفي خطر.
وعلى هذا فليس غريباً أن تكون المحرّمات محددة ومحدودة، فيما جناح الحلال مبسوط يرفرف على حقول الحياة.
إنّنا، وليس آدم (ع) وحده، في جنّة أشجارها كلّها مباحة للأكل والتمتُّع بثمارها اللذيذة، ما عدا أشجار معدودات أو شجيرات منعنا من الإقتراب منها ربّما، كما نلاحظ في حياتنا اليومية لافتات من قبيل: (لا تلمس)، (لا تدخل)، (لا تُدخِّن)، (لا تصوِّر)، (ممنوع الوقوف)، (السباحة هنا ممنوعة)، (الصيد ممنوع)، (ممنوع التجوّل).. إلخ.
إنّ زاوية ضيِّقة في الجنة الفسيحة المترامية الأطراف لن تضرّني بشيء، إنّها لا تُهدِّد ولا تُقيِّد حرِّيتي الواسعة بسعة الجنّة.
إنّ مساحة الإباحة في حياتنا يمكن قياسها على ضوء القاعدة الفقهيّة التي تقول: "كلّ شيء لك حلال حتى تعلم حرمته".
فأنت تنطلق في سيارتك في الرحاب المفتوحة الشاسعة، والضوء الأحمر ليس كبحاً أو خنقاً لحرِّية سيرك، إنّه تنظيم وتقنين لها مخافة أن تتعرّض حرِّيتك للخطر، أو أن تفقدها إلى الأبد.
وإذا عرفت أنّ كلّ ما حرِّم عليك، قد أعدّ الله لك بديله، اكتشفت أنّ مساحة الحلال والمسموح والجائز في حياتك أوسع من أن تتصوّرها.
إنّ كلّ ما هو مفيد وطيِّب وطاهر فهو حلال، وكلّ هو مؤذٍ وضار وخبيث فهو حرام، قال تعالى: (قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ * قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ) (الأعراف/ 32-33).►
مقالات ذات صلة
ارسال التعليق