• ٢٦ كانون أول/ديسمبر ٢٠٢٤ | ٢٤ جمادى الثانية ١٤٤٦ هـ
البلاغ

الخجل الاجتماعي وأثره النفسي على شخصية الطفل

الخجل الاجتماعي وأثره النفسي على شخصية الطفل

الخجل من الاضطرابات النفسية المنتشرة في المجتمعات البشرية كافة، يؤثر سلباً على إمكانات الفرد الإبداعية، فهو يتشكل وينمو أثناء عملية التفاعل الدينامي بين الفرد وبيئته الخارجية.

ويعتبر علماء النفس والاجتماع الخجل حالة نفسية ذات أثر سلبي تنطوي على توتر انفعالي تصحبه اضطرابات عضوية مختلفة تحد من قدرة الفرد على التكيُّف الملائم والتفاعل الإيجابي مع الآخرين، كما يفقده القدرة على السيطرة على سلوكه وتصرفاته تجاه نفسه والمجتمع الذي يعيش فيه.

استخدم مصطلح الخجل الاجتماعي من قبل علماء النفس الإكلينيكي المتخصصين بمعانٍ عديدة، منها مصطلح الخجل المرضي والانسحاب الاجتماعي والعزلة الاجتماعية. والخجل الاجتماعي ناتج عن نقص التفاعل الاجتماعي، وهو ارتفاع دافع التجنب الاجتماعي، ما يؤدي إلى انخفاض دافع الاقتراب ونقص التقبل من الآخرين في المواقف المذكورة.

فالخجل الاجتماعي ينشأ عن الصراع بين دوافع الاقتراب من الآخرين والخوف من القيام بذلك، لأنّه أحد الأسباب التي تحول دون تحقيق التفاعل الاجتماعي الناجح للفرد، الأمر الذي يؤدي إلى خوف شديد من التقييم الإيجابي السلبي، فضلاً عن أنّ حساسية الخجول تكون مرتفعة في التدقيق أو النظر للآخرين.

والطفل الخجول في الواقع طفل مسكين وبائس يعاني عدم القدرة على الأخذ والعطاء مع أقرانه في المدرسة وفي المجتمع، وبذلك يشعر بالنقص بالمقارنة مع غيره من الأطفال، فالأطفال الخجولون عادة ما يتسمون بالهدوء والطاعة، لكنهم يحتاجون إلى مَن يقف إلى جانبهم. ولهذا فالمدرسون يحبونهم ولكنهم لا يعرفون أنّ الخجل الاجتماعي هو السبب الذي يكمن في هدوئهم وانصياعهم للأوامر. ولعلّ أخطر الأعراض التي تزعج اختصاصي الأمراض النفسية، سواء بالنسبة للأطفال أو الشباب أو الكبار، هي أعراض الانزواء وأحلام اليقظة، ذلك لأنّ المنزوي الذي يعاني أحلام اليقظة يعيش منطوياً على نفسه يجتر وساوسه وهواجسه، وبذلك نجده حساساً، قلقاً، يعاني عدم الثقة بالنفس ومن آلام الوحدة والخوف ونقد الآخرين له.

وقد يبدو الطفل الخجول "أنانياً" في معظم تصرفاته، لأنّه يسعى إلى فرض رغباته على مَن يعيشون حوله، كما قد يعاني الخجول نتيجة إشعار البيئة له بالنقص لعدم وسامته أو لسوء منظره أو لضعف في قدراته العقلية وتحصيله في المدرسة أو لجهل الأبوين وسوء معاملتهما له كالتشدد في عقابه لأقل سبب، وقد يكون الأمر على النقيض من ذلك تماماً، فقد يكون الطفل مدللاً لدرجة تجعله يشعر بالخجل والقلق والخيبة عندما لا يجد المعاملة والعناية نفسيهما من المجتمع، لذا يعتبر الخجل نتيجة لأساليب التربية الخاطئة التي يعانيها الفرد، حيث يشعر بأنّه لا فائدة منه وغير مرغوب فيه، وأنّه يعامل بقسوة وكراهية من قِبَل الوالدين والآخرين، فيميل إلى الوحدة والعزلة والانطواء وعدم الثقة والاطمئنان، ما يسبب له شعوراً سلبياً تجاه ذاته.

ومن المظاهر الشائعة التي يتميز بها الخجول وتدل على سوء التوافق والاضطراب، الصمت أثناء صحبة الآخرين، وتجنب التخاطب والتواصل بالعين، والبطء أثناء المناقشة الجماعية، والتشتت أثناء الحديث، وكثرة الإيماءات والاعتماد على الآخرين، وارتفاع معدلات الضيق وعدم الشعور بالراحة أثناء اللقاءات الاجتماعية، لهذا كان الخجول مذموماً من قِبَل أفراد المجتمع لما فيه من تجاوز الحد المقبول.

وغالباً ما يقيّم الأفراد الخجولون أنفسهم تقييماً سلبياً ويشعرون بالنقص في المهارات الاجتماعية ويبدون صعوبة في تكوين علاقات بين شخصية مشبعة ومرضية بسبب توقعهم الرفض من قِبَل الآخرين، وقد يلجأون بسبب الخوف إلى تجنب المواقف الاجتماعية، وغالباً ما تدفعهم هذه السمات إلى عدم تشجيع الآخرين على عقد تواصلات اجتماعية ودية ناجحة.

وقد يعيق الخجل الأفراد عند التقدم في جميع المجالات الحياتية المختلفة، كما ينعكس على إحساسهم بقيمتهم في المجتمع من خلال الأفكار اللاعقلانية التي تسيطر عليهم وتمنعهم من المشاركة الفاعلة في عصر أصبح فيه التوكيد الإيجابي للذات والكفايات الاجتماعية من السمات المرغوبة، وفي بعض الحالات تصبح سمة الخجل استعداداً وراثياً نسبياً بالرغم من تأثرها بالعوامل الموقفية، ومن ثم فإنّه يؤثر في التوافق النفسي والاجتماعي للأفراد، ويعرقل التواصل البناء في ما بينهم، وذلك عندما يصل إلى درجات مرتفعة تعيق الإنسان في تعبيره عن ذاته أمام الآخرين وتفقده ثقته بنفسه.

ويعتبر الخجل معاناة لكثير من النفوس، وهذه المعاناة النفسية تتحكم وتستبد بصاحبها إلى درجة تشل بها المواهب وتجعل سلوكه الاجتماعي ضئيل الإنتاج ضعيف الأثر.

 

الأب ودوره في خجل أبنائه:

إنّ للأب دوراً رئيسياً مهماً في تنمية شخصية أبنائه، فمن خلاله يتعلم الأبناء السلوك الاجتماعي الذي يميز الذكور في المجتمع، ووجود الأب واتصاله العاطفي وإسداله مشاعر الود والحنان على ابنه الصغير تجعل الطفل يقلده بطريقة شعورية أحياناً ولا شعورية أحياناً أخرى، فيتعلم بذلك الطفل أنماط السلوك والقيم الاجتماعية والاتجاهات التي يعتبرها المجتمع مميزة ومناسبة للذكور من أفراده.

فكلما كان الأب قريباً من أولاده وكلما كانت العلاقات داخل الأسرة قوية وتتمتع بالدفء العاطفي والأمن والطمأنينة والتقدير والمودة والسعادة، نشأ الابن واثقاً بنفسه لديه القدرة العالية على التحكم بذاته، غير خجول من ممارسة حياته بأسلوب سوي، أما في الأُسر التي يكثر فيها الصراع والخلافات العائلية بين الوالدين، فيجد الصغير نفسه في حيرة من أمره.. هل يتقمص شخصية الأب أم شخصية الأُمّ وأيهما يحب وأيهما يكره؟ ومن ثم ينشأ قلباً خجولاً.

إنّ بعض الآباء يقعون في خطأ إصدار الأوامر الصارمة إلى الأبناء، فيأمرون مثلاً الطفل الخجول بألا يخجل وأن يكون مقداماً جريئاً، فهم يتصورن أنّ الابن يمكن أن يكون في يدهم آلة طيِّعة لتنفيذ الأوامر، وبذلك يهدمون شخصيته ويزيدونها تعقيداً وخجلاً من دون أن يدروا.

ولكن بعض الآباء قد يعثرون على الطريق الصحيح ويشجعون ابنهم الخجول ويرعونه رعاية سليمة فينجحون في بناء شخصيته وتوازنه النفسي.

إنّ نوع الأبوة وأسلوب المعاملة ومدى خوف الأبناء من الأب والطريقة التي يتعامل بها مع الأسرة، تحدد درجة الصحّة النفسية للأسرة ومدى نشأة أطفالها خجولين أو قلقين.

كذلك فإنّ أغلب الأُمّهات في مجتمعاتنا العربية غير مثقفات إن لم يكنّ أميات تحكم سلوكهنّ العادات والتقاليد والعقائد الخرافية البعيدة عن قواعد التربية السليمة، الأمر الذي تعانيه البنات من قسوة معاملتهنّ لهن أو من خلال تدليلهن تدليلاً يضر بشخصياتهنّ.

فالدور الذي يقوم به كلّ من الأب والأُم على جانب كبير من الأهمية في تنمية شخصية الأبناء أو حمايتهم من الخجل، ويتوقف نجاح هذا الدور على نوع العلاقة التي ينجح فيها كلّ من الأب والأُم في تكونيها معهم.

مركّب النقص وخجل الطفل:

يرى الكثير من المختصين أنّ أساليب التنشئة الاجتماعية الخاطئة التي يتعرض لها الأطفال منذ نعومة أظفارهم تسهم بشكل أو بآخر في نشوء الشخصية الخجولة نتيجة للإحباطات المتكررة بسبب السخرية والاستهزاء أو التهكم الذي يتعرضون له من قِبَل الأسرة، ما ينتج عنه شعور بالنقص وانخفاض في تقدير الذات.

إنّ كثيراً من الأطفال يعانون مشاعر النقص ويتسم سلوكهم بالجمود والخمول وخاصة في الوسط المدرسي أو البيئي عموماً، أو نتيجة لعاهات جسمية بارزة تساعد على أن ينشأوا خجولين ميالين للعزلة، ومن هذه النواقص والعاهات ضعف البصر، صعوبة السمع، أو التأتاة واللجلجة في الكلام أو العرج أو السمنة المفرطة أو طول القامة المفرط وما إلى ذلك من الظواهر الشاذة. وبذلك يكونون غير قادرين على التكيف السوي مع أنفسهم أو مع الآخرين واعتلال صحّتهم النفسية. كذلك قد يعاني بعض الأطفال الخجل نتيجة مشاعر النقص الناتجة عن أسباب مادّية كملابسهم الرثة لفقرهم أو لهزل في أجسامهم ناتج عن سوء التغذية أو لقلة مصرفهم اليومي أو النقص في أدواتهم المدرسية أو كتبهم.

والشعور بالنقص لا يؤدي فقط إلى خجل الصغار، إنما يؤدي أيضاً إلى خجل الكبار، فمثلاً نجد المرأة في بعض المجتمعات الشرقية خجولة منزوية مترددة قليلة الثقة بالنفس، وذلك لأنّ بعض العادات والتقاليد فرضت عليها الشعور بالنقص فحرمتها من العلم والمعرفة ومن كثير من الحقوق، ومن ثم فإنّ الأُم الخجولة المترددة تدرّب أولادها على الخجل والتردد وعدم الثقة بالنفس.

 

الآثار السلبية للخجل:

تترافق حالات الخجل مع عدد من المضاعفات والآثار السلبية، فقد توصلت دراسات عدة إلى أنّ نحو 40 في المائة من أفراد المجتمع يعانون بشكل أو بآخر الخجل الاجتماعي، وقد توصلت إلى أنّ الخجل يؤثر بصفة خاصة في جوانب معينة من حياتهم كما يلي:

يصعب على الأشخاص الخجولين الالتقاء بالناس أو تكوين صداقات معهم، إذ يرتبط الخجل بانفعالات سلبية ضارة بصحّة الفرد النفسية، مثل الشعور بالاكتئاب والعزلة والوحدة، كما يؤدي إلى صعوبة تأكيد الفرد لذاته بشكل مناسب، ويحد من التقديرات الإيجابية التي يبذلها الآخرون تجاه ما يتميز به الفرد من سمات، وأيضاً يستثير حساسيته الذاتية وانشغاله باستجاباته الشخصية مع عدم القدرة على التكيف.

يعد الخجل أحد الأسباب النفسية ذات الأثر السلبي التي تحد من قدرة الفرد على التكيف الملائم وتفاعله الاجتماعي وعلاقاته بالآخرين والاستفادة من الخبرات المختلفة المتاحة أمامه. فالشخص الخجول عادة ما يسلك مسلكاً دفاعياً، إذ ينأى بذاته عن مواقف التفاعل الاجتماعي والتواصل مع الآخرين، ويكره أن يعبّر عن آرائه وأن يبدي أي اختلاف مع آراء الآخرين ويحرص دائماً على أن يكون في خلفية الصورة بعيداً عن أنظار الآخرين.

 

مضاعفات الخجل الاجتماعي:

- يجعل الشخص سلبياً ومنعزلاً في المواقف والمناسبات الاجتماعية.

- يمنعه من تطوير قدراته وتحسين مهاراته.

- يؤدي إلى ضياع حقوقه من دون أن يبدي رأيه أو أن يدافع عنه.

- يمنعه من إقامة علاقات اجتماعية طبيعية.

- يؤدي إلى مصاعب حياتية وصراع نفسي داخلي.

- يؤدي إلى مضاعفات نفسية مثل الانطواء والاكتئاب.

إنّ الحياة تتطلب من كلّ فرد أن يتكيف مع نفسه ومع بيئته، لأنّه يعيش في مجتمع معقد ومتغير، لذلك ينبغي أن يُعد إعداداً اجتماعياً يؤهله للانسجام مع قيم وأنماط المجتمع الذي يعيش فيه.

ومن هنا، فإنّنا – مع الأسف – في أغلب البلدان العربية لا نبدي أي اهتمام بصداقة أبنائنا وبناتنا ولا نشجعهم على أن يلجأوا إلينا لحل مشكلاتهم، فينشأن على درجة عالية من الخجل يدفنون أسرارهم ومشكلاتهم في نفوسهم، فيعانون القلق والحيرة والمرض النفسي، وما يجب على الآباء والمربين فعله هو القيام بعمل خطة وتنفيذها لمساعدة أبنائهم على تجاوز هذه المشكلة، وأن يوفروا لهم قدراً معقولاً من العطف والرعاية والمحبة، مع عدم نقدهم أو تعريضهم للإهانة، خصوصاً أمام أقرانهم، الأمر الذي يحمل معه إمكان فتح الباب واسعاً أمامهم لتحقيق النضج والتوازن النفسي كي يصبحوا أكثر ثقة بأنفسهم وأكثر انسجاماً مع المجتمع الذي ينتمون إليه.

 

الكاتب: عامر أحمد السويداني (أكاديمي من سورية)

المصدر: مجلة العربي/ العدد 684 لسنة 2015م

ارسال التعليق

Top