◄(فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ) (آل عمران/ 159).
أجريت في السبعينيات من القرن الماضي دراسة في الولايات المتحدة الأمريكية على أكثر المديرين نجاحاً سئلوا فيها عن أهم الصفات التي يجب توافرها في المدير الناجح، فكانت النتيجة قائمة من الصفات، وقد جاء التعاطف مع الموظفين في أسفل هذه القائمة، ولكن عندما أُعيدت هذه الدراسة في التسعينيات قفزت صفة التعاطف إلى رأس القائمة. لقد تبين أنّ القيادة القائمة على التعاطف مع الموظفين هي أكثر نجاحاً وديمومة من القيادة القائمة على القهر والتسلط. عندما تقود الآخرين من خلال تقديرك لمشاعرهم واحترامك لإنسانيتهم فإنّهم يدينون لك بالولاء، ويعطونك أفضل ما عندهم، وعندما تقود الآخرين من خلال القهر والتسلط والدوس على مشاعرهم وكرامتهم، فإنّهم لن يعطوك إلا الحد الأدنى، وسرعان ما يتخلون عنك عند أول فرصة تسمح لهم بذلك. إنّ التعاطف وهو أحد مكونات الذكاء العاطفي يعني أن تعامل الآخرين كبشر، وأن تقدر مشاعرهم وإنسانيتهم. التعاطف يعني العمل بقوله (ص): "لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه". كيف سيكون حال المجتمع المسلم لو أن أفراده عملوا بهذا الحديث العظيم؟ كيف سيكون حال المجتمع المسلم لو أنّ التاجر أصبح يحب للزبون ما يحب لنفسه، ولو أنّ المدير أصبح يحب للموظف ما يحب لنفسه، ولو أنّ الموظف أصبح يحب للمراجع ما يحب لنفسه، ولو أنّ الأستاذ أصبح يحب لطلابه ما يحب لنفسه، ولو أنّ الأب أصبح يحب لأولاده ما يحب لنفسه، ولو أنّ الزوج أصبح يحب لزوجته ما يحب لنفسه، ولو أنّ الشعب أصبح يحب لحكامه ما يحب لنفسه، ولو أنّ الحكام أصبحوا يحبون لشعوبهم ما يحبون لأنفسهم.. إنّ البعض يخلطون بين التعاطف والضعف، ويظنون أنّ التعاطف مع الآخرين، وتقدير مشاعرهم، واحترام إنسانيتهم، هو نوع من الضعف الذي يتنافى مع القيادة القوية الحازمة. لقد كان نبينا محمّد (ص) من أكثر القادة عبر التاريخ نجاحاً وتأثيراً ومع ذلك وصفه تعالى بقوله: (فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ) (آل عمران/ 159)، إن من أهم الأمراض النفسية والاجتماعية والسياسية التي أصيبت بها مجتمعاتنا المسلمة شيوع الغلظة والقهر والتسلط، وتجاهل إنسانية الآخر في علاقاتنا بعضنا مع بعضٍ.. إنّ العبيد قد يعملون بجد ونشاط ولكنهم لا يعملون إلا تحت السوط وما ان يدير السيد وجهه حتى يوقفوا عن العمل، العبيد يعملون بجد ونشاط، لكنهم يتعبون سريعاً، وعندما تحين الفرصة ينقضون على سيدهم ويتخلصون منه..
هناك معادلة بسيطة في القيادة تقول: القيادة الحقيقية (10/10) = الاحترام (9/10) + الخوف (1/10).
والمقصود بالقيادة الحقيقية، القيادة التي تدفع الناس إلى أن يعطوا أفضل ما عندهم طوعاً والتزاماً، وليس قسراً أو إكراهاً. إنّ الشعور باحترام القائد يشكل تسعة أعشار هذه القيادة، فالابن الذي يطيع والده لأنّه يحترمه سيكون أكثر استعداداً لتنفيذ طلبات والده من الابن الذي يطيع والده لأنّه يخاف منه. هذا لا يعني أنّه لا مكان للخوف في علاقة القائد بمن يقودهم، ولكن نسبة هذا الخوف في العلاقة بين القائد ومن يتبعه يجب ألّا تتجاوز الواحد من عشرة. إنّ البعض يلجؤون إلى قيادة الآخرين عن طريق الخوف، لأن صناعة الخوف أسهل بكثير من صناعة الاحترام، فالأب يستطيع أن يصنع الخوف في قلب ابنه بصفعة واحدة لا تستغرق أكثر من ثانية! ولكن إذا أراد أن يبني الشعور بالاحترام له في قلب ابنه فهذا الأمر يحتاج إلى وقت وجهد وإلى الكثير من التواصل وتبادل المشاعر الإنسانية. صحيح أنّ القيادة عن طريق صناعة الخوف يمكن أن تعطي نتائج سريعة، لكنها مؤقتة، وسرعان ما ينهار كلّ شيء، فما أن يكبر الابن الذي يقوده والده بالصفع ويصبح في حجم والده حتى يخرج عن طاعته ويصبح هو من يصفع والده!
إنّ الإسلام لا يقود الناس بالقوة والإكراه (لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ) (البقرة/ 256)، وهو لا يجبر الآخرين على الدخول فيه بل يعتمد الحوار والإقناع ويحترم عقل الإنسان وإرادته (فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ) (الكهف/ 29)، لذلك دخلت في الإسلام شعوب بأكملها عندما وصلتها رسالته السمحاء، أما الآخرون الذين لم يدخلوا في الإسلام وظلوا على دينهم فقد عاشوا بين ظهراني المسلمين معزَّزين مكرَّمين.
إنّ المؤمن يتعاطف مع الآخرين، ويحب لهم ما يحب لنفسه، ويشعر أنّ الإنسان الموجود في داخله هو ذاته الإنسان الموجود في داخل الآخرين، ذلك الإنسان الذي كرمه تعالى بقوله: (وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ) (الإسراء/ 70)، فهو عندما يحترم ويحمي كرامة الآخرين وإنسانيتهم إنما يحترم ويحمي كرامته وإنسانيته.►
المصدر: كتاب مافوق الذكاء العاطفي/ حلاوة الإيمان
مقالات ذات صلة
ارسال التعليق