• ٢٤ تشرين ثاني/نوفمبر ٢٠٢٤ | ٢٢ جمادى الأولى ١٤٤٦ هـ
البلاغ

تكاتف أبناء المجتمع المسلم في الشدائد

أ. د. محمود عباس*

تكاتف أبناء المجتمع المسلم في الشدائد
◄س: قد تتقلب الحياة بالناس بين الشدة والرخاء، ومن السراء إلى الضراء. فما دور المؤمن في تلك التقلبات؟

فتلك طبيعة الحياة التي يعيشها البشر.. لا تدوم على حال، ولا تستقر على منوال، فإن أحسنت يوماً أساءت أياماً، وإن أضحكتك في زمن فقد تبكيك في زمن آخر..

هي الدنيا تقول بملء فيها *** حذار حذار من بطشي وفتكي

فلا يغرركم مني ابتســــام *** فـقولي مضحـك والفـعل مبـكي

والقرآن الكريم نبهنا إلى تقلبات الزمن وتحولات الأيام في قوله تعالى: (وَتِلْكَ الأيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ) (آل عمران/ 140)، ولكن حين تتقلب الأيامُ والأعوامُ بعباد الله فعليهم أن ينتبهوا فوراً إلى أنهم في اختبار مع الله وهذا ما يُقرره القرآن الكريم في قول الحقّ سبحانه: (وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الأمْوَالِ وَالأنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ) (البقرة/ 155)، فالأزمات التي تواجه المجتمعات هي اختبار إلهي تتكشف فيه مستويات الإيمان وليس من الإيمان في أوقات الشدة أن يتخاذلَ الناسُ عن التعاون فيما بينهم، وأن يسهم كلُّ فرد في رفع الحرج ودفع الشدة عن إخوانه من أبناء المجتمع المسلم، فتلك دعوةُ الحقِّ التي جعلها القرآن الكريم شعارَ المسلمين فيما بينهم، فمن الخير أن نتعاون وأن يكون التعاون على البرِّ والتقوى (وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الإثْمِ وَالْعُدْوَانِ) (المائدة/ 2)، وليس من الخير في مواقف الشدة والأزمة التي تبتلى بها المجتمعات أن يقف المسلم سلبياً لا يحرك ساكناً وهو يرى الناس من حوله تطحنُهم الأزمات طحناً، وتعصف بهم الشدائد من كلِّ جانب. فليس هذا من طبيعة المجتمع المسلم ولا من خلقه، وإلا فأين الأسخياء؟ وأين المنفقون؟ وأين ذوو الفضل؟ بل أين المتقون؟ (الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ) (آل عمران/ 134). فهل خلا مجتمعنا المعاصر من التضامن والتعاون فصار كلّ همنا في مواجهة الأزمات أن نتشاكى ونتباكى فالغني يشكو والفقير يتباكى ويتوجع فلا تجد أكثر الأغنياء شاكراً (وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ) (سبأ/ 13)، ولا معظم الفقراء صابراً، وهذا سلوك ينبئ بإيمان هزيل، فمن طبيعة المؤمن في السراء والضراء أنّه شاكر أو صابر فأمره في الحالتين خير له وليس هذا لغير المؤمن كما جاء في الحديث، فليس من خلق المؤمن أن يواجه شدائد الحياة ومكاره الدنيا ضعيفاً كسير النفس مهزوم الإرادة ولا أن يقف أمام الأزمات وكلّ همه أن يلعن الظلام أو يُلقي اللوم على الآخرين وإنما المسلمُ الحقّ هو الذي يوقد وسط الظلام شمعة تنيرُ الطريق لإخوانه الحيارى، والمجتمع القرآني ليس مجتمعَ الضعاف في أوقات الشدة وإنما هو المجتمع الذي وصفه الحقُّ بقوله: (وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ) (البقرة/ 177).

 

س: كيف كان المؤمنون يواجهون الشدائد والأزمات:

فهم المسلمون طبيعة الحياة بصورتها المكشوفة في كتاب الله فأيقنوا أنّها حياة متقلبة بين الشدة والرخاء وأنها في الحالين اختبار وابتلاء لتربية النفوس، وليميز الله الصابرين والشاكرين، فكانوا إذا أصابتهم شدة أو أزمة صبروا لإيمانهم بأنّ بعد الشدة فرجاً وما أكثر الشدائد والأزمات التي ابْتُلِي بها الرعيل الأوّل من أبناء الإسلام فقد كان فيهم من لا يجد طعاماً يشبع جوعته وكان فيهم المحروم الذي يقف في ميدان القتال شامخاً وهو طاو من شدة الجوع، لأنّهم أدركوا بحسهم الإيماني أنّ الشدائد مع الصبر تصنع الرجال وتبني الأُمم وأنّ الضعف في مواجهة الأزمات لا يصنع شعباً ولا يبني حضارة ولا يقيم أمة، وحسب أوائلنا الأخيار أنهم كانوا في أوقات الشدة يتراحمون وربما تقاسموا فيما بينهم لقيمات لا يقنع بها اليوم فقير ولا محروم، ومع تلك الأزمات والشدائد التي واجهوها لم يضعفوا ولم يستكينوا، ولم نسمع عن هؤلاء الأخيار في شدائدهم وأزماتهم أنهم تعلقوا بغير الله، أو شكوا حالهم لغير الله لإيمانهم بأنّ المخلوق لا يملك لهم رزقاً ولا يدفع عنهم شدة ولا بأساً ولكننا اليوم نواجه الأزمات بالتضرع لغير الله وإذا حلت بنا شدة في طعامنا وأموالنا وثمراتنا وأنفسنا نسينا الخالق وتطلعنا إلى المخلوق، نفعل هذا ونحن نقرأ في كتاب الإسلام آيات تُهيل التراب على شعوب وأمم من قبلنا أخذهم الله بالبأساء والضراء فلم يتضرعوا إليه، فيقول سبحانه: (وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَخَذْنَاهُمْ بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ * فَلَوْلا إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا وَلَكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) (الأنعام/ 42-43)... نقرأ هذه الآية الكريمة فندرك أننا مطالبون بالتضرع إلى الله عند كلِّ هم وكرب وفي كلِّ شدة وأزمة فلا مفرج للكرب إلا الله، ولا يجود بالنعماء بعد الضراء إلا الله. والقرآن الكريم يدعونا إلى الاعتبار بسلوك أقوام تعرضوا للشدائد والمحن فلما رأوا نذر العذاب أدركوا أنهم في اختبار إلهي وأنهم مطالبون بالتضرع إلى من يكشف البلاء.. حدث هذا مع قوم يونس (ع) إذ خرجوا جميعاً يستغيثون ربهم ويتضرعون إليه بصدق وإخلاص فاستجاب الله لهم من غير مهلة كما قال سبحانه: (إِلا قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ) (يونس/ 98)، وعلى مدارج التاريخ الإسلامي حرص المسلمون على التضرع إلى الله عند كلِّ شدة لأنهم كانوا على يقين بالحقِّ المبين في قوله سبحانه: (وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلا كَاشِفَ لَهُ إِلا هُوَ) (الأنعام/ 17)، ولا يزال التضرع إلى الله شعيرة من شعائر الإسلام عند كلِّ شدة إذ يفزع المسلمون إلى صلاة الاستسقاء إذا تأخر نزول الغيث من السماء على سبيل المثال لا الحصر كما في قوله تعالى: (وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِنْ بَعْدِ مَا قَنَطُوا وَيَنْشُرُ رَحْمَتَهُ وَهُوَ الْوَلِيُّ الْحَمِيدُ) (الشورى/ 28). ►


* الأستاذ بجامعة الأزهر ووكيل كلية اللغة العربية الأسبق

المصدر: كتاب القرآن وقضايا العصر


ارسال التعليق

Top