الحقوق والحرّيات الدستورية في العراق
يعدّ حقّ المساواة أمام القانون من الحقوق المدنية والسياسية التي نص عليها الدستور العراقي عام 2005 في المادة (14) منه حيث جاء (العراقيون متساوون أمام القانون دون تمييز بسبب الجنس أو العرق أو القومية أو الأصل أو اللون أو الدِّين أو المذهب أو المعتقد أو الرأي أو الوضع الاقتصادي أو الاجتماعي).
فماذا يعني حقّ المساواة أمام القانون للمواطنين العراقيين دون تمييز؟ وكيف يمكن أن يترجم هذا الحقّ على واقع المواطنين العراقيين؟
إنّ المساواة لغة: المماثلة والمعادلة قدراً وقيمةً. ومنه قولهم: هذا يساوي قيمته درهماً. أي يعادل قيمته درهماً. وفي حديث البخاري قوله: «ساوى الظل التلال» أي مثل امتدا ارتفاعها، وهو قدر القامة. وقال الراغب: «المساواة المعادلة المعتبرة بالذرع والوزن والكيل. يقال: هذا ثوب مساوٍ لذلك الثوب، وهذا الدرهم مساوٍ لذلك الدرهم».
وأمّا المساواة اصطلاحاً: «عدم التفرقة أو التمييز فيما بين الناس على أساس من الانتماء أو الجنس أو التمييز اللغوي والدِّيني أو العقائدي السياسي أو الاختلاف الطبقي الاجتماعي والمالي؛ لأنّ البشر كلّهم متساوون في التكاليف والأعباء العامّة، والحقوق والحرّيات العامّة. وتعني المساواة اصطلاحاً أيضاً: أن يحصل المرء على ما يحصل عليه الآخرون من الحقوق، كما عليه ما عليهم من واجبات دون أي زيادة أو نقصان، وهي قيمة عظيمة تجعل جميع الأطراف سواء».
وبهذا المعنى يقصد بـ«المساواة أمام القانون» أن يطبق القانون على جميع المواطنين، دون تمييز أحدهم عن الآخر، ولأي سبب كان. أي عدم التفرقة بين المواطنين في تطبيق القانون عليهم، بسبب العقيدة أو اللون أو الجنس أو الأصل الاجتماعي أو اللغة أو الثروة ...
وقد نص الإسلام على المساواة بين البشر جميعاً، حيث بنيت المساواة في الإسلام على مجموعة أُسس متينة منها المساواة في القيمة الإنسانية، فجميع الناس سواء من حيث المنشأ، لأنّ أصلهم واحد (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللهِ أَتْقَاكُمْ إنَّ اللهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ) (الحجرات/ 13).
وعلى المساواة في التكاليف الدِّينية، أي الامتثال لما فرضه الله - سبحانه - من عبادات كالصـلاة، الزكاة، الصوم، الحجّ، الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر... حيث إنّ الخطاب الشرعي بالإسلام، جاء للناس جميعاً، العرب والعجم، البيض والسود، دون تمييز؛ لأنّ الله تعالى أرسل محمّداً (ص) للناس كافة (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إلَّا كَافَّةً لِّلنَّاسِ بَشِيراً وَنَذِيراً وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ) (سبأ/ 28) فالخطاب موجه للناس جميعاً دون تمييز.
وعلى المساواة في الحقوق والحريات العامّة، كحقّ الحياة، والحرّية، والتملك، والتعليم، والعمل، والأمن والقضاء... وعلى المساواة في المسؤولية والجزاء، ويقصد بها استقلال كلّ إنسان في تحمّله للمسؤولية، ففي الحُكم بين الناس لا يجوز التفريق بين الخصمين لأي سبب من الأسباب (وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللهَ إنَّ اللهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ) (المائدة/ 8) فلا يجوز أخذ حقوق الناس بمجرد العداوة والبغضاء؛ لأنّ الإسلام دين العدل.
ويعدّ حقّ المساواة من أهم الحقوق التي نص عليها القانون الدولي لحقوق الإنسان، فقد جاء في المادة الثانية من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان أنّه «لكلّ إنسان حقّ التمتع بجميع الحقوق والحرّيات المذكورة في هذا الإعلان، دونما تمييز من أي نوع، ولا سيّما التمييز بسبب العنصر، أو اللون، أو الجنس، أو اللغة، أو الدِّين، أو الرأي سياسياً وغير سياسي، أو الأصل الوطني أو الاجتماعي، أو الثروة، أو المولد، أو أي وضع آخر...».
وفيما يتعلّق بالحقّ في المساواة فإنّ المادة (7) من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان تنص على أنّ: «الناس جميعاً سواء أمام القانون، وهم يتساوون في حقّ التمتع بحماية القانون دونما تمييز، كما يتساوون في حقّ التمتع بالحماية من أي تمييز ينتهك هذا الإعلان ومن أي تحريض على مثل هذا التمييز».
وفي الواقع؛ فإنّ مبدأ المساواة أمام القانون لا يقتصر أبداً على وجود تشريعات وأنظمة تساوي بين المواطنين في الحقوق والواجبات، ولا تفرق بينهم على أُسس مثل الجنس والدِّين أو المذهب أو اللون أو العنصر وغيره، بل لابدّ أن تترجم المساواة أمام القانون من الناحية الواقعية.
فيشعر المواطنون أنّهم بالفعل متساوون في الحقوق والواجبات، مثل المساواة في استخدام المرافق العامّة: فما دام المرفق العام نشاطاً تمارسه جهة عامّة في سبيل إشباع حاجة من الحاجات التي تحقّق المصلحة العامّة، وطالما كان المرفق العام بطبيعة وجوده خدمة للمجتمع ولمصلحة الجميع، فمن الطبيعي لذلك أن يتساوى في استخدامه الجميع من غير تمييز أيّاً كان سببه.
وكذلك المساواة في الوظائف العامّة: إذ يجب أن يتساوى الجميع في الدخول إلى سلك الوظيفة العامّة في نطاق الرواتب والأجور والترقيات والعلاوات، طالما كانت مراكزهم القانونية واحدة.
وكذلك المساواة في استخدام الأموال العامّة: ولأنّ المال العامّ مخصص للنفع العامّ فهو يُستخدم حتماً من قبل الجمهور، وهو ما يُطلق عليه اصطلاحاً تسمية الاستعمال العامّ للمال العامّ، وهو يقوم بصفة أساسية على مبدأ مساواة المنتفعين، أي المساواة بين جميع مستخدمي المال العامّ، ومن ثمّ فإنّ جميع الأفراد يجب أن يُعاملوا على قدم المساواة في هذا المجال، ما داموا قد تساووا في مراكزهم القانونية.
وكذلك المساواة في التكاليف والأعباء العامّة: إنّ تعبير التكاليف العامّة يعني كلّ النفقات التي تدفع ضمن مصلحة كلّ أفراد المجتمع، ومن ثمّ فإنّ نفقات الدولة وأعباءها تأخذ معنى واحداً في هذا النطاق، إذ تحتاج إلى موارد كافية لتغطيتها، وهذه الموارد يجب أن تُوزّع على كلّ أفراد المجتمع على قدم المساواة، ما دامت تُدفع في سبيل مصلحتهم جميعاً، لذلك لا يجوز أن يتحمّلها بعض الأفراد من دون بعضهم الآخر.
انطلاقاً من ذلك، فإنّ المساواة أمام القانون المكرسة دستورياً يجب أن تكون مساواة فعلية، أي حقيقية بين أفراد المجتمع، ومتحقّقة أمام القضاء، وأمام التكاليف العامّة، ومتحقّقة أمام الحقوق والحرّيات، لأنّ انتهاك مبدأ المساواة أمام القانون يؤدِّي إلى المخاطرة بكافة الحقوق، فإذا تفاوت خضوع الأفراد للقانون، فمعنى ذلك أنّ القانون يخضع له الضعفاء دون الأقوياء.
إنّ المقصود بالمساواة أمام القانون ليست المساواة الفعلية في ظروف الحياة العادية، بل المقصود بها أن ينال الجميع حماية القانون على قدم المساواة دون تمييز في المعاملة، أو في تطبيق أحكام القانون عليهم.
ويجمع فقهاء القانون أنّ هناك نوعين من المساواة أمام القانون؛ الأوّل يتمثّل في المساواة العامّة في الحقوق والالتزامات، ومن ذلك الحقّ في الحياة والحقّ في الأمن الشخصي وغيره، فمثل هذه الحقوق يجب أن يتمتع بها الناس بصورة متساوية، بينما النوع الثاني يكون في المساواة بين فئة من الناس، فالتعيين في مهنة الطب مثلاً لا يتمتع بها إلّا الأطباء الذين يحملون شهادة طبية معترف بها قانوناً، فلا يجوز لشخص أن يطالب بتعيينه طبيباً دون أن يحمل شهادة الطب، وعليه إذا تقدّم شخصان لشغل مهنة الطب، فينبغي تعيين الأكفاء منهم طبقاً للمعايير التي حدّدها القانون.
حيث يؤكّد الواقع الاجتماعي حقيقة وجود فوارق بين الأفراد من الناحيتين الطبيعية والاجتماعية، يتحتم الأخذ بها والتعامل معها بصور مختلفة وموجبة في القواعد القانونية، وتبرر وضع أنظمة قانونية مختلفة، بحسب اختلاف المراكز والوضعيات القانونية.
والسؤال هنا؛ هل استطاعت الحكومات العراقية تطبيق النص الدستوري «العراقيون متساوون أمام القانون دون تمييز بسبب الجنس أو العرق أو القومية أو الأصل أو اللون أو الدِّين أو المذهب أو المعتقد أو الرأي أو الوضع الاقتصادي أو الاجتماعي»؟ أم أنّ النص طبق جزئياً؟ أم بقي دونما تطبيق؟
قد يحصل التجاوز على مبدأ الحقّ أمام القانون من السلطة التشريعية ذاتها، وقد يكون من السلطة القضائية، وقد يكون من السلطة التنفيذية، كما قد يقع هذا التجاوز من الأفراد العاديين.
وفيما يتعلّق بالسلطة التشريعية، فقد جاء في الدستور العراقي أنّ كلّ قانون يعدّ باطلاً إذا كان يتعارض مع النص الدستوري، كون هذا الدستور هو القانون الأسمى والأعلى في العراق. والضمانات العملية لذلك أنّ الدستور العراقي نص على تأليف «المحكمة الاتحادية» وهي المحكمة التي تتولى مجموعة من المهمّات منها تفسير نصوص الدستور والرقابة على دستورية القوانين والأنظمة والفصل في القضايا التي تنشأ عن تطبيق القوانين الاتحادية، والفصل في المنازعات بين الحكومة والأقاليم أو بين الأقاليم والمحافظات، وكذلك الفصل في الاتهامات الموجهة لرئيس الجمهورية وإلى رئيس الوزراء وجميع الوزراء، والمصادقة على نتائج الانتخابات. وقد أكّدت المحكمة الاتحادية العليا أنّ المطالبة بعدم دستورية قانون أو نص فيه حقّ يمارسه أي مواطن بموجب الحرّيات الواردة في الدستور، مشيرة إلى أنّ أحكامها وقراراتها ملزمة كافة بغض النظر عمّن أقام الدعوى أمامها.
وفيما يتعلّق بالسلطة القضائية؛ فلا شكّ أنّ تحقيق العدالة يقترن دائماً بالقضاء، وصلة المساواة بالعدالة صلة وثيقة، إذ أنّه في أحيان كثيرة يتوقف تحقيق العدالة على تطبيق المساواة بين المتقاضين. ويتحقّق مبدأ المساواة أمام القضاء من خلال المساواة في اللجوء إلى القضاء، وعليه لا يكون دستورياً حينما يمنع الأفراد من ممارسة هذا الحقّ. والحقّ في إجراء محاكمة وفقاً للإجراءات نفسها، طالما يوجد تماثل في مركز المتقاضين والمساواة في الضمانات المكفولة للمتقاضين.
ومن حيث المبدأ العامّ نجد أنّ القضاء العراقي ملتزم بتطبيق مبدأ المساواة بين المواطنين أمام القضاء، وأنّ المواطن يستطيع أن يقدّم شكواه على مَن يشاء أمام القضاء دونما تمييز، ويستطيع أن يختار المكان والمحكمة ذات الاختصاص دونما تمييز أيضاً.
ولكن يحصل دائماً أنّ المساواة أمّا القضاء تخرق من طرف المحاكم العراقية في تفاصيل القضايا وجزئياتها، وتخرق من بعض القضاء الذين يقعون تحت تأثير جهات سياسية أو مالية أو دينية...، كذلك يخرق من الموظفين الإداريين الذين يتحكمون بمجريات الدعوى وسيرها القضائي. فيشعر المواطنون المتقاضون أنّ المحاكم لا تعدل بينهم بالسوية، ولا تحقّق العدالة المبتغى.
وفيما يتعلّق بالسلطة التنفيذية، فإنّ مبدأ المساواة أمام القانون يخرق مرتين؛ الأُولى من حيث تشريع أنظمة وقرارات وتوجيهات وزارية، وتعليمات وإجراءات إدارية، تكون مخالفة لمبدأ المساواة أمام القانون، ويجري تطبيق هذه الأنظمة والقرارات والتوجيهات دونما اعتراض من أحد.
والثانية من حيث تطبيق مبدأ المساواة بين المواطنين في المؤسّسات العمومية، سواء في التعامل مع المواطنين أو في الإجراءات التي تأخذ طبقاً لذلك. وسياسات اللامساواة التي تمارسها السلطة التنفيذية قد تكون معلنة إلى حدٍّ ما، وقد تكون خفية يمارسها المسؤولون والإداريون المقربون منهم، فيحابون هذا على حساب ذلك من حيث الجنس أو القومية أو الطائفية أو المناطقية...
ونخلص ممّا تقدم الآتي:
1- إنّ المساواة أمام القانون تعني عدم التمييز بين الأفراد على أي أساس، فالتمييز بين الأفراد القائم على أساس الجنس أو اللغة أو اللون أو العرق أو الأصل هو إخلال بمبدأ المساواة.
2- إنّ المساواة أمام القانون ليست مساواة مطلقة إنّما هي مساواة نسبية، أي أنّ تطبيق مبدأ المساواة أمام القانون على المواطنين مشروط بتوافر الشروط والضوابط نفسها عند الأفراد، فإذا كانت الشروط تتساوى بين الأفراد، فيجب إعمال مبدأ المساواة بينهم، أمّا إذا لم تتساوَ بينهم الشروط فلا مساواة بينهم في الحقوق، أي أنّ المساواة لا تتحقّق إلّا بالنسبة للمراكز المتماثلة للأفراد.
3- يتجلّى مبدأ المساواة أمام القانون من خلال التزام الجهات التشريعية والقضائية والتنفيذية بتطبيقه وتوفير الضمانات اللازمة لعدم خرقه، بحيث لا ترتكب هذه الجهات تمييزاً ومحاباة بين المخاطبين بها، وبوجوب أن تعامل كلّ المراكز المتماثلة بطريقة متطابقة.
4- لا يشكّل النص الدستوري الذي يتعلّق بالمساواة مجرّد مبدأ توجيهي وتوصية، بل أنّه نص أساسي ودقيق يفرض على السلطات القضائية واجب اكتشاف أنّ السلطات التشريعية والتنفيذية والإدارية قد راعت مبدأ مساواة جميع الأفراد، وفي حالة انتهاك هذا المبدأ تأمر هذه الجهات بأن لا تطبق القوانين والقرارات الوزارية والأحكام التنظيمية الإدارية المعنية.
مقالات ذات صلة
ارسال التعليق