من أجل الله وحده، ترك الإنسان لذاته وشهواته وصام عنها شهراً كاملاً.
ما هي الحكمة من تلك العبادة الجليلة؟
الإنسان كائن عجيب، خلقه الله مزدوج الطبيعة، فيه عنصر مادي طيني، وعنصر روحي سماوي، فيه الطين والحمأ المسنون، وفيه الروح الذي نفخ الله فيه، وهذا واضح في خلق الإنسان الأوّل آدم أبي البشر (إِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ طِينٍ * فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ) (ص/ 71-72). فلم يستحق آدم التكريم وسجود الملائكة بعنصره الطيني، بل بالنفخة الروحية فيه.
وهذا الخلق المزدوج مقصود لخالق الإنسان، لأنّه مخلوق يعيش في عالمين: عالم المادة وعالم الروح، وله تعامل مع الأرض وتواصل مع السماء. فهو في حاجة إلى ما يخرج من الأرض ليأكل ويشرب ويلبس ويعيش (وَمَا جَعَلْنَاهُمْ جَسَدًا لا يَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَمَا كَانُوا خَالِدِينَ) (الأنبياء/ 8). كما أنّه في حاجة إلى ما ينزل من السماء من وحي الله، ليرقى في مدارج المعرفة بالله، والمحبة للخير، وعمل الصالحات، ولهذا زود الإنسان بالغرائز التي تعينه على عمارة الأرض والإستمتاع بطيباتها، كما زوده بالملكات الروحية التي تسمو به وتصله بالرب الأعلى.
وهذه الغرائز والشهوات المربوطة بالعنصر الطيني في الإنسان، قد تهبط به وتهبط حتى يغدو كالأنعام أو أضل سبيلاً، وتلك الملكات والأشواق الروحية قد تعلو حتى يلتحق بالملائكة المقربين، وقد يفضل بعضهم بمجاهدته. ومهمة الدين أنّه يعلي الجانب الروحي على الجانب الطيني في الإنسان، فلا تطغى قبضة الطين على نفخة الروح، وليس هذا بالأمر الهين، فإنّ للطين ضغطه ووطأته على الإنسان، بضروراته وحاجاته ورغباته، والنفس أميل إلى إتباع الشهوات، وإستثقال طريق الحق والهدى، لهذا كان لابدّ للإنسان من مجاهدة نفسه، بسلاح الصبر واليقين، حتى يصل إلى الإمامة في الدين، كما قال تعالى: (وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ) (السجدة/ 24). فبالصبر يقاوم الشهوات، وباليقين يقاوم الشبهات، حتى يحصل الهداية الإلهية التي يتطلع إليها الأبرار من الناس (وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ) (العنكبوت/ 69).
ولقد شرع الإسلام وسائل للإنسان لينتصر بها على الجانب الطيني في كيانه، في مقدمتها: العبادات الشعائرية التي اعتبرت من أركان الإسلام من الصلاة والصيام والزكاة والحج.
والصيام يعتبر من أعظم ساحات الجهاد الروحي للإنسان في الإسلام، ففيه يمسك الإنسان طوعاً عن الطعام والشراب والشهوات، كشهوة الجنس، إبتغاء وجه الله تعالى، فهو يمتنع بإرادته عن تناول هذه الأشياء التي يشتهيها، ولا يمد يده إليها وهي ميسورة له، فهو يجوع وبجواره طيب الغذاء، ويظمأ وأمامه بارد الماء، ويمتنع عن مباشرة زوجه، وهي بجانبه، ولا يتناول السيجارة وعلبتها في جيبه، إنّه إختبار حقيقي لمدى إيمان الإنسان، وإرادة الإنسان. والمؤمن قطعاً ينجح في هذا الإمتحان الصعب، ويحقق الإستعلاء الإختياري، الذي يثبت بحق إنتصار الإنسان، حين تنتصر فيه الروح على الطين والصلصال والحمأ المسنون، تنتصر أشواق الروح الصاعدة، على غرائز الجسم الهابطة، وتنتصر إرادة الإنسان على شهوة الحيوان.
فمن الفوارق الجوهرية بين الإنسان والحيوان: أنّ الحيوان يفعل ما يشتهي في أي زمان وفي أي مكان وفي أي حال، ليس لديه عقل يمنعه، ولا دين يردعه، ولا ضمير يحجزه، فإذا أراد أن يبول بال في الطريق أو في البيت أو في أي مكان، وإذا أراد أن يأكل وأمامه ما يؤكل لم يزعه وازع عن الأكل، فكل ما يأكله مثله حلال له، أمّا الإنسان فهو الذي يتحكم في غرائزه، ويحكم عقله ودينه في أفعاله، حتى يتشبه بالملائكة فيدع الأكل والشرب ومباشرة النساء طوعاً وإختياراً، مبتغياً مثوبة الله وحده، مترفعاً عن حياة الذين عاشوا خداماً لأجسادهم وغرائزهم، أسارى لشهواتهم، وهم الذين خاطبهم الشاعر أبو الفتح البستي قديماً في قصيدته حين قال:
يا خادم الجسم كم تسعى لخدمته **** أتطلب الربح مما فيه خسران؟!
أقبل على الروح واستكمل فضائلها **** فأنت بالروح لا بالجسم إنسان!
لهذا نسب الله تعالى في الحديث القدسي الصيام إلى ذاته المقدسة حين قال: "كل عمل ابن آدم له إلاّ الصوم، فإنّه لي، وأنا أجزي به، يدع طعامه من أجلي، ويدع شرابه من أجلي، ويدع زوجته من أجلي، ويدع شهوته من أجلي".
- شهر التطهير:
من أجل الله وحده، ترك الإنسان لذاته وشهواته، وصام عنها شهراً كاملاً من تبين الفجر إلى غروب الشمس، إيماناً وإحتساباً، فكان هذا الشهر تطهيراً له من دنس السيِّئات التي ربّما تورط فيها طوال عامه، وكأنّ هذا الصيام حمام روحي يغتسل فيه سنوياً من أدران خطاياه، فيخرج منه نظيفاً طاهراً، وهو ما عبر عنه الحديث النبوي الذي رواه الشيخان: "مَن صام رمضان إيماناً وإحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه".
وإذا كانت الصلوات الخمس حماماً ومغتسلاً يومياً، يغتسل فيه المسلم كلّ يوم خمس مرات، فإن صيام رمضان مغتسل سنوي، يكمل ما تقوم به الصلوات الخمس من تطهير.
يؤكد هذا أنّ رمضان ليس شهر صيام فقط، بل هو صيام بالنهار، وقيام بالليل، ففيه تمتلئ المساجد بالمصلين الذين يقومون الليل بصلاة التراويح، وفيه جاء الحديث "ومَن قام رمضان إيماناً وإحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه". فما أجملها وأرقاها من حياة للإنسان المؤمن، أن يكون بالنهار صائماً، وبالليل قائماً، وهو يحس بنشوة روحية لا يتذوقها من غلظ حجابه، ولا يعرف قدرها من سجن في رغباته المادية، فحرم تلك السعادة الروحية، التي قال عنها بعض أهلها: نحن نعيش في سعادة لو علم بها الملوك لجالدونا عليها بالسيوف! ولكن من حسن حظهم أنّ الملوك والسلاطين لا يعرفون قيمتها، فتركوها لهم، يستمتعون بها وحدهم بلا منازع.
في شهر رمضان يحس المسلم بمقدار نعمة الله عليه في الشبع والري، فإنّ إلف النعم يفقد المرء الإحساس بقيمتها، ولا تعرف النعم الكبيرة إلا عند فقدها، ولهذا قيل: الصحة تاج على رؤوس الأصحاء لا يراه إلا المرضى، والإنسان إذا أمسك طوال النهار عن الطعام حتى عضه الجوع، وعن الشراب حتى مسه الظمأ، حتى إذا جاء المغرب، فأشبع جوعه، وروى ظمأه، أحس بمقدار هذه النعمة، وقال حامداً الله تعالى: ذهب الظمأ وابتلت العروق، وثبت الأجر إن شاء الله.
هنا يحس الإنسان بفرحة فطرية، حين حل له ما كان محرماً عليه طوال يومه، وهو ما عبر عنه الرسول الكريم بقوله: "للصائم فرحتان يفرحهما: إذا أفطر فرح بفطره، وإذا لقي ربه فرح بصومه".
- شهر التعاطف:
بالصوم كذلك يشعر الإنسان بآلام الآخرين وبجوع الجائعين، وحرمان المحرومين، حين يذوق مرارة الجوع، وحرارة العطش، فيعطف عليهم قلبه، وتنبسط إليهم يده. ولهذا عرف رمضان بأنّه شهر المواساة والبر والخيرات والصدقات، وكان رسول الله (ص) في رمضان أجود ما يكون، فهو أجرى بالخير من الريح المرسلة.
ولقد حكي عن يوسف الصديق (ع) أنّه كان لا يشبع من طعام، وبيده خزائن الأرض في مصر، فلما سئل في ذلك، قال: أخشى إذا شبعت أن أنسى جوع الفقراء!
إنّ رمضان شهر فريد في حياة الفرد المسلم، وفي حياة الجماعة الإسلامية، وأنا أسميه (ربيع الحياة الإسلامية) فيه تتجدد الحياة كلها. تتجدد العقول بالعلم والمعرفة، وتتجدد القلوب بالإيمان والتقوى، ويتجدد المجتمع بالترابط والتواصل، وتتجدد العزائم باستباق في الخيرات، والتنافس في الصالحات، وتتوافر فيه أسباب الخير وحوافزه، وتقل أسباب الشر ودواعيه، وتطرد ملائكة الخير شياطين الشر، وقد عبر عن ذلك الحديث الشريف: "إذا جاء رمضان فتحت أبواب الجنة، وغلقت أبواب جهنم، وصفدت الشياطين"، وفي رواية عند الترمذي وابن ماجه وابن خزيمة: "ونادى مناد: يا باغي الخير أقبل، ويا باغي الشر أقصر".
هذا الإحتفاء السماوي الكبير بمقدم رمضان: تفتيح أبواب الجنان، وتغليق أبواب النيران، وتصفيد كل شيطان: دليل على أنّ لهذا الشهر منزلة جليلة، وأن له في حياة المسلمين مسألة عظيمة، وهي ما عبر عنه القرآن الكريم بتهيئة الجماعة المؤمنة للتقوى، كما قال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) (البقرة/ 183).
ومن راقب حياة المسلمين في كلّ عام قبل قدوم رمضان، وبعد رحيل رمضان: يستيقن من هذه الحقيقة الإجتماعية الثابتة بالمشاهدة، وهي توافر الخير وعمل الصالحات في هذا الشهر، وقلة الشر والجرائم فيه، ولهذا يجتهد الوعاظ والخطباء في أواخر الشهر أن يغروا جماهير الناس باستمرار هذه النيات الصالحة، والعزائم الصادقة على عمل الخير، وخير العمل، وكثيراً ما سمعناهم يقولون في خطبهم ودروسهم: من كان يعبد رمضان فإن رمضان قد مات، ومن كان يعبد الله فإنّ الله حي لا يموت. بئس القوم قوم لا يعرفون الله إلا في رمضان، كن ربانياً، ولا تكن رمضانياً!
وإنّك لتعجب من تأثير هذا الشهر في بعض الناس الذين انقطع حبل الصلة بينهم وبين الله ربهم وخالقهم ورازقهم، فإذا هم يعودون إليه في رمضان، ويعرفون المسجد، وتلاوة القرآن. وبعضهم يصومون هذا الشهر وإن لم يزاولوا الصلاة.
- ولكن... كيف نستقبله؟
لنتخذ من رمضان (معسكراً) إيمانياً، لتجنيد الطاقات، وتعبئة الإرادات، وتقوية العزائم، وشحذ الهم، وإذكاء البواعث، للسعي الدءوب لتحقيق الآمال الكبار، وتحويل الأحلام إلى حقائق، والمثاليات المرتجاة إلى واقع معيش.
مقالات ذات صلة
ارسال التعليق