زينب الفوزي
"شكراً ربِّي"، جملة لا تكفُّ مي عن تردادها لشدّة تعلُّقها بخالقها، حيث كانت ومازالت على يقين بأنّه الوحيد الذي يَسمَعها من دون أن تتكلم، ويساعدها من دون أن تطلب، ويحقق أحلامها حتى ولو بَعد يأس.
كانت مي إمرأة في مقتبل العمر، تبدو طبيعية جداً وبسيطة إلى أبعد الحدود، وهذا ما يُزعجها من داخل نفسها. فهي ليست راضية عن بساطة حياتها، وتشعر بأنّ عليها إحداث تغيير ما. تقول مي: تربّيت وسط أسرة بسيطة من ناحية الأصل والحالة، فكان والداي دائماً ما يسخران من قُدراتي أمام الأهل والأصحاب، ويُمليان عليَّ واجب إحترام الآخرين على حساب إحترامي لذاتي. لم أحب أبي يوماً، فلم تكن علاقتي به كأي أب وابنته، ولم أشتَق إليه يوماً، فكان طيِّباً مع الغُرباء لدرجة الهَبَل الذي يُفقده إحترامه أمام الناس. وأُمّي كذلك، كانت مستعدة لأن تُضحِّي براحتي لمصلحة الناس، حتى في مراهقتي لم يفهماني يوماً، وأعتقد أنّهما كانا يحبانني ولكن عندهما جهل كبير بالتعبير.
وُلِدتُ البنت الكبرى لأهلي، وتربَّيت على أهميّة العلم والدراسة والتفوّق المدرسي، وأحببتُ التميُّز بين رفيقاتي. وشدّة حرص أُمّي المخيف على مستواي الدراسي، جعلتني لا أنفَكُّ مُثابرة لتحقيق رضاها عنِّي، فكانت ذات شخصية مؤثرة فيَّ أكثر من والدي المعدوم تأثيره، لضعف شخصيته ولإختياره حلّ الهروب، بدلاً من تجاوز حاجز الخجل بيني وبينه، ومحاولة التقرُّب منِّي لإنشاء علاقة بين أي أب وابنته. وعلى الرغم من رفضي هذه النوعية من الشخصيات، كشخصية والدي، فكانت أُمّي دائماً تُشبِّهني به وبطباعه، لدرجة أنّني صدَّقتها وكرهت نفسي وطباعي، وبدأتُ أحاول تغييرهما كي لا أكون مثله، لكنني فوجئت بأنّني أتشبَّه به أكثر. ما أصعب أن تكون بالفطرة مثل شخص لا تفتخر به، وتتربّى على طباع أنت رافضها، فينعكس هذا سلباً على شخصيتك وثقتك بنفسك. لم أكن متعلقة بأُمّي ولا بأبي كثيراً، فالعلاقة بيني وبينهما علاقة واجبات وأوامر، بعيدة عن أي مناسبات عاطفية بيني وبينهما، وكم تمنّيت أن تحتضنني أُمّي كما تفعل والدة صديقتي.. فأنا متأكدة من أنّها تحبّني ولكنها لا تعُبِّر عن ذلك، لدرجة أنّني سألتها مرّة: هل تحبّينني؟ فأجابت ببرود: نعم. فلم أكتفِ بجوابها وأحزنني برودها.
أتذكّر جيِّداً حالات كنتُ أحتاج إلى أن أبكي فيها، فأخلتي بنفسي في أي غرفة معزولة، لأبكي من غير أن يُلاحظني أحد، وكم كنت أتمنّى أن يُلاحظني أبي أو أُمّي ويسألاني عن سبب بكائي. وللآن، أسأل نفسي: لماذا أُحبّ أن يشعر بي مَن هم حولي ويلاحظوا حزني أو فرحي؟ طفولتي كانت عادية جدّاً واستمرّت مراهقتي خالية من الحميمية العائلية، التي كنت أشعر بنقصانها في حياتي، وتأثيرها فيَّ كشخصية تكبر يوماً بعد يوم، بلا قِيَم تربوية. ما تعلّمته من أوامر فُرض عليَّ ولم أتعلّمه بالتدريج وبالقبول، حيث نشأتُ فتاة خجولاً لا تثق بما تقول، لخوفها من انتقاد والدتها وأبيها لها. وكم هذا خطأ يقترفه معظم الآباء، فيقتلون أهم عنصر لبناء ثقة قويّة بالنفس، وهو حرِّيّة التعبير واحترام آراء وتعابير أولادهم. حتى إنْ أخطأوا، يجب أن يأتي النصح بالإرشاد والتنبيه، وليس بالغضب وجرح المشاعر، فقد لا يلتئم ويبقى ذكرى تُسيء إلى صاحبها حتى الكِبَر.
وكما هي الحياة بتقلُّباتها الغريبة، حصل ما لم أكن أتوقّعه، فَمَرَضَ أبي مَرَضاً خبيثاً، ولم أكن أعلم بخطورة هذا المرض. ولم أتخيّل أنّ الحياة بدأت تُدير وجهها لي، لتعصرني بسنين حطمت ما استطاعت أن تحطمه في قلبي. فموت أُمّي المفاجئ خلال مرض أبي، كان كالصاعقة التي أرعَبتني وبعثرتني. كلاّ يا أُمّي، لا تموتي، أنا أحبّك، آسفة لو أغضبتك يوماً، لكن لا تتركيني. آسفة إنْ تَوقّعتك أُمّا غير صالحة، لكن لا تتركيني. آسفة لو تمنّيت غيرك أُمّاً لي، لكن لا تتركيني. أنت تُحبّينني، أنا أعلم بذلك.. تعالي أرجوك. لكن حدث ما حدث، وكان عليَّ تصديقه. كنت في رُعب دائم وتوسُّل لربِّي أن يشفي أبي ويرجعه إليَّ. كنت أسمع كم هي خطرة حال أبي، إلى أن زرته في المستشفى، ورأيت ما لم أستطِع أن أنساهُ حتى يومنا هذا. جثة لا يتحرّك فيها غير عينيها، ويسألني بالإشارات كيف حالي في المدرسة.. أدركتُ بعدها كم أنّ أبي يحبّني. فعلى الرغم من وضعه، يسألني عن مدرستي. فقلت في قرارة نفسي: كلاّ.. إنّه ليس أبي، لا أريده أن يكون هكذا. آسفة بكل معنى الكلمة إن شككت يوماً في حبّكما لي، لقد كنت مراهقة وطفلة لا أفهم معنى العطاء الذي بذلتماهُ من أجلي. لكن، ماذا يُفيد إحساسي؟ الآن ماتت أُمّي، وهاهو أبي يموت أمامي، وهذا ما حدث بعد أسبوع من زيارتي له.
بعد ذلك، ذهبت للعيش مع أقربائي في دولة أخرى بشخصية محطمة، ضعيفة، ليس لها هدف ولا أمل، ممتلئة بالخوف والرهبة من الآتي، وحزينة على أهلي. أقربائي الذين حزنوا على أهلي، تَبنّوني عندهم في لحظة حزن. وعشت في غرفة لا أحب أن أتذكّرها ولا أن أراها. الآن، ومع الأيام، بدا الشعور بالثقل المرمي عليهم. فتاة على وشك دخول الجامعة وبمصاريف كثيرة، لابدّ من تزويجها وبسرعة. وهكذا تزوّجت في سن صغيرة وبعقل أصغر، لا أعرف ما معنى الزواج والمسؤولية. توقّعت السعادة الأبدية مع هذا الرجل الذي أحببته من أوّل لقاء. وطبعاً هذا الحب السريع، جاء نتيجة فقداني أيّ معنى للحب، فسلَّمت مشاعري بكل سهولة لرجل لا أعرف عنه شيئاً ولا عن طباعه وحياته وأسلوبه وطريقة كلامه. ولست أعرف معنى التفاهم والإحترام بين الزوجين قبل الزواج، فلم أبالِ بكل هذه الأشياء. وما خطرت ببالي مرّة لجهلي بالحياة وعدم وجود مَن ينصحني ويرشدني إلى ذلك. كنت أرى في هذا الزوج مَخرَجاً لي إلى حياة أخرى، أفضل من حياتي المحصورة بين أربعة جدران أفارقها في الصباح، عندما أذهب إلى الجامعة وأقابلها في المساء إلى اليوم التالي. وكم أثّّر هذا الوضع في شخصيتي.. نعم، أثَّر كثيراً فأصبحت شبه خرساء لا أتكلّم كثيراً، ثمّ فجأة أُوشِك على دخول حياة زوجية، فيها زوج وأهل للزوج وأقرباء له. ولشدّة فرحي بالخروج من وضعي إلى وضع آخر، لم أُفكِّر كيف سأتعامل مع هذه الشخصيات كلها. وتركت كل شيء للظروف وهذا أسوأ إختيار: أن لا تعرف ماذا تفعل. فلم يهمّني شيء أكثر من خروجي من غرفتي هذه. وكم هو هدف يُبشِّر بفشل العلاقة الزوجية، لأنّه هروب من وضع إلى وضع أكثر حسّاسية. فالزوج لا يجب الإقدام عليه بهذه السرعة. لكن، للأسف، اكتشفت ذلك مؤخراً. كم أغار من فتيات لا تُقدم الواحدة منهنّ على الزواج إلا بعد نضج وتفكير، وأهل يوجهون يسدون إليهنّ النصيحة ويقدمون الخبرة والحماية والدعم. زوجي تزوّجني من دون أن يتعب من أجلي، بل على العكس، وجدني أنا مَن أتشبّث به وأتسرّع في الهروب من غرفتي الكئيبة. كم حلمت برجل يحبّني كثيراً ويتمنّاني له ويتعب حتى يصل إليَّ. وفي الحقيقة، لم يقصِّر زوجي في تقديم محبّته لي. ولكن، ما فائدة المحبّة أمام إختلاف الطباع والتربية والتفاهم ومستوى التفكير؟ حقدتُ على أهلي وعلى ظروفي وحياتي. وتمارضتُ طويلاً. وكرهت حياتي الزوجية من داخل نفسي. ولكن، لم أظهر هذان لأنّني أعرف أنّ وضعي، حتى وإن لم يعجبني، فهو أحسن من ذي قبل. نشأتُ زوجة فاشلة، أسمع كلمات الذَّم والتذمُّر من زوجي على تقصيري الأسري، ولكن من دون قصد منِّي، وبقيت متوسلة له أن يتركني أكمل جامعتي، فكم كان هذا حلم أُمّي بأن أحمل شهادة في يدي. ولدتُ إبنتي سريعاً لتدفع هي الأخرى ثمن قلّة معرفتي بالتربية وبالإهتمام بها من جهة، والإهتمام بجامعتي من جهة أخرى.
لم يصبر زوجي على تقصيري، حيث كان يصبر تارة ويغضب تارة أخرى. وهكذا، تفاقمت المشاكل. ولجهلي بالحياة الزوجية، اقترفت ما تَنَدمّتُ عليه الآن، وهو البوح بمشاكلي لأقربائي، متوقعة تقديرهم وضعي. ولم أكن أعرف أنّي أفشي أسرار حياتي، وأنتقص من قيمتي كزوجة أمامهم وأمام زوجي وأمام نفسي. فلو رجع بي الزمن إلى الوراء، لَمَا أفشيت خبراً ولا مشكلة حصلت بيني وبين زوجي لأي أحد. فالمرأة العاقلة والحكيمة، هي مَن تحتفظ بأسرار حياتها حتى يحترمها زوجها. ولا تسمح لأي أحد بأن يتدخّل في حياتها. وهذا ما تعلّمتهُ مؤخراً ومن نفسي، بعد أن شعرت بمرارة أخطائي التي حصلت من دون تفكير منِّي، ولقلّة خبرتي في الحياة الزوجية وعدم وجود مَن ينصحني. أنا لم أطلب النصيحة من أحد، لخَجَلي الشديد وقلة علاقتي الإجتماعية مع أقربائي، ومع أهل زوجي، فكنت دائماً ألوذ بالصمت. وإن تكلّمت، فأتكلّم بما يُرضي غيري وليس ما يعكس شخصيتي. إن لم تكن على طبيعتك لا يحترمك الآخرون، ولن تكون لك قيمة لدى نفسك ولديهم. كنت أكره زيارة أهل زوجي وأقربائي لعدم شعوري بالراحة هناك، حيث إنّني لا أتصرّف على طبيعتي التي قد لا يحبّونها، وهذا كان سبب خوفي، وأيضاً سبب وحدتي وبقائي بلا أصدقاء ولا أقارب، لعدم ثقتي بنفسي التي تربّيت عليها من صغري.
وكنت خائفة من أن أخسر جامعتي، لا أملك شيئاً في حياتي أغلى من شهادتي التي أعتز بأن أمتلكها. ولأنّني لا أريد الرجوع إلى تلك الغرفة، التي من الممكن أن لا تستقبلني مجدداً. حتى إبنتي التي لم أعطِها كامل حقّها كرضيعة وكطفلة، فدفعت ثمن تشبّثي بالشهادة التي خفت أن أخسرها. لم أكن طالبة متفوّقة ولا زوجة ناجحة ولا أُمّاً حنوناً ومهتمة برضيعتها، كنت أبذل ما في وسعي في كل واحدة من هذه المسؤوليات الثلاث، والنتيجة لا تُرضيني ولا ترضي أحداً.
تخرُّجي من الجامعة كان أكبر إنجاز أُحقِّقه وسط ظروفي الصعبة هذه. وهو حلم تحقق لأُمّي، فلم أخذلها بذلك. وكما ربَّتني متمسكة بأن أتعلَّم، فها أنا اليوم تخرّجت يا أُمّي وحقّقت حلمك، وتخلّصت من عبء كبير كان على وشك أن لا يتحقق. ولكن، شكراً ربِّي.
لم تشاركني الحياة فرحتي بتخرُّجي، وأرادت أن تعصر قلبي بشيء قد يكون بقسوة رحيل أُمّي وأبي. حملت للمرّة الثانية، وتعاهدت مع نفسي أن أكون أُمّاً بكل معنى، وليس كما حدث مع إبنتي الأُولى من إهمال. فرحت كثيراً بحملي وتمنّيته صبياً، ودعوت ربِّي واهتممت بنفسي من أجله، ولكن الله أراد أن يعلِّمني درساً لا أنساه في حياتي، درساً يُغيِّر من مي، الإنسانة الطيِّبة لدرجة إهانة الكرامة، والتي تفضِّل السكوت والكبت على أن لا تجرح غيرها من الناس، إلى إنسانة تعرف قيمة نفسها وتُقدِّرها أوّلاً ثمّ الناس، وليس على حساب كرامتها. وكم كان درساً قاسياً لأنّني تعلّمته مع ولادة إبني، حيث اكتشفت أنّني ولدت طفلاً بقلب مريض. وما أصعبها على أُمٍّ انتظرتْ يوم ولادة طفلها كي تهتم به كما لم تهتم بطفلتها. لم أتمَنَّ غير أن أعوّض أمومتي بولدي وأرضعه وأعيد تربية إبنتي معه. لكن، كان عليَّ أن لا أعيش هذه الأحلام البسيطة العادية، بل أتحمّل ظرفاً آخر مُخيفاً، ذكّرني بأُمّي وأبي. خفت أن أخسر إبني ولم يعد قلبي يتحمّل المزيد من الخسائر. وياليت ظروفي وصلت إلى هذا الحد فقط، بل تطوّرت غلى ما لم أتخيّله وأتوقّعه. ذلك أنّ كثرة وحدتي، والتفكير في وضع وليدي، وحالتي النفسية التعبانة، كل ذلك جعلني أتخيّل أشياء وأرى كوابيس مخيفة، وأشخاصاً يسيطرون على جسمي وعقلي، فأصبحت كالمشلولة، لا أرى سوى ما يُخيفني من الوجوه والرُّعب. وكان ما يحصل لي حقيقياً، إلا أنّ مَن يسمع كلامي يُكذبني ويتهمني بالتعب وقلة النوم. واستمرت حالتي شهوراً، فعجزت عن النوم فيها، خوفاً ممّا يصيبني من رعب وسيطرة وخوف. وللاسف، بدأتُ أعاتب ربِّي. ولكن، هو يعلم أنّ ما مررتُ به، خارج عن إرادتي. استقرّت حالة إبني بعد عملية للقلب أجريت له، ومعها استقرّت حالتي بعد معاناة وخوف ورعب. وجود إبني قَلَبَ حياتي رأساً على عقب.
تعلّمت كثيراً مع مجيئه وتغيّرت حياتي، اكتشفت كم أنا صبورة وأُمُّ عظيمة استطاعت، على الرغم من وضعها النفسي، أن تهتم بولدها، كما عاهدت نفسها على ذلك. وكم من مرّة ابتسم بوجهه الجميل في وقت أرادت فيه دموعي أن تنزل. علَّمني أن أبتسم، على الرغم من آلامي، وأن أصبر على يأسي، وأن أنتج على الرغم من عجزي. كنت وحيدة في تلك المرحلة لم يساندني قريب ولا غريب، فتغيّرتْ طيبة قلبي المعهودة وأصبحت أحسب حساب نفسي قبل الآخرين. نعم، مازلت طيِّبة، ولكن في حدود ترضيني ولا تكون غصباً عنِّي. لم يقف إلى جانبي أحد في محنتي. ولكن هذا لا يعني أن أتخلى عن إنسانيتي ولا أقف إلى جانب أحد، بل سأقف بما يرضي ضميري أنا، وليس بما يرضي غيري. هذا ما تعلّمته. ومازلت أعيش في هذه الحياة كي أتعلّم. ولكن، لم يعد قلبي ضعيفاً كالسابق، فقد خَدَّرته السنون كثيراً، وتركت فيه مساحة لحب أطفالي وحب نفسي وزوجي.
ارسال التعليق