إنّ من أهمّ النِّعَم التي أنعم الله بها على الإنسان، والتي تستوجب منه ثناءً وشُكراً لله، منحه القدرة على التعبير باللسان أو بالكتابة. ويكفي ليعرف الإنسان أهمّية هذه النِّعمة، أن يتخيّل أثر زوالها عليه وعلى مَن حوله، أو أن يراقب مَن لا قدرة لديهم على النطق أو الكتابة، ويستشعر مدى الصعوبات التي يواجهونها.. فالقدرة على التعبير أو الكلام لها دور أساس في حياة الإنسان، فبها يُعبِّر عن مكنونات نفسه، وما يعتمل في داخله من مشاعر وعواطف وأحاسيس، أو شكاوى وهموم وغموم، وبها يُعبِّر عن أفكاره وتوجّهاته ونظرته إلى القضايا التي تُطرَح عليه، وهي وسيلة التواصل مع الآخرين، وبدونها، يصعب الحوار وتبادل الأفكار والآراء. ولكنّ قيمة هذه النِّعمة وشُكرها، يكون بحُسن استثمارها والاستفادة منها، بأن تكون أداةً لبثّ روح الألفة والمحبّة، وزرع الخير في نفوس الآخرين، وتحقيق الإصلاح، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والوقوف مع قضايا الحقّ والعدل، وكلّ ما فيه خدمة للأفراد والمجتمع.
وإلّا، فإنّ هذه النِّعمة قد تتحوَّل إلى نقمة وإلى مشكلة لصاحبها وللناس، عندما يكون الكلام أداةً لزرع الفتن والأحقاد، أو خلق التوترات ونشر الفساد والانحراف، ولتأييد الظالم والفاسد، ولتثبيط العزائم عن قضايا الحقّ والعدل والحرّية، أو الدعوة إلى ترك المعروف وفعل المنكر. وتزداد هذه العواقب مع تطوّر وسائل الإعلام والتواصل، التي ألغت كلّ الحواجز أمام الكلمات على مستوى الزمان والمكان. ولهذا، لم تعد تأثيرات الكلمة في هذا العصر تقف عند حدود ما يسعى إليه مطلقها، بل تصل إلى مواقع لم يكن يتوقَّعها، وقد لا يريدها، وينطبق على ذلك قول الإمام عليّ (عليه السلام): «الكلامُ في وَثَاقِك ما لم تتكلَّم به، فإذا تكلَّمْتَ به صِرْتَ في وَثَاقِه». وقد أشارت الأحاديث إلى هذه التداعيات، وقد ورد في ذلك عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أنّه قال: «إنّ الرجل ليتكلّم بالكلمة من رضوان الله، ما كان يظنّ أن تبلغ ما بلغتِ، يكتب الله تعالى بها رضوانه إلى يوم يلقاه، وإنّ الرجل ليتكلّم بالكلمة من سخط الله، ما كان يظنّ أن تبلغ ما بلغت، يكتب الله بها سخطه إلى يوم يلقاه». وقد ورد في الحديث عن الإمام عليّ (عليه السلام): «رُبَّ قولٍ أنفذُ من صَولٍ». وفي حديثٍ آخر عنه: «رُبَّ كلامٍ أنفذ من سهام».
ولذلك، عندما سُئِل الإمام عليّ (عليه السلام) عن أيّ شيء ممّا خلق الله أحسن؟ قال: «الكلام». فقيل له: أيّ شيء ممّا خلق الله أقبح؟ قال: «الكلام. بالكلام ابيضّت الوجوه، وبالكلام اسودّت الوجوه». وقد سأل رجل رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) عمّا يدخله الجنّة، فقال له رسول (صلى الله عليه وآله وسلم): «كُفَّ عليك هذا» (يقصد اللسان).. فقال له: يا نبيَّ الله، وإنّا لَمُؤاخذُون بما نتكلّمُ به؟ فقال له: «وهل يَكُبُّ الناسَ في النّارِ على وُجُوهِهِم أو على مَناخِرهم إلّا حصائِدُ ألسنتِهم؟!». وفي الحديث: «بلاءُ الإنسان من اللسان».
من هنا، كانت إرادة الله سبحانه لعباده تشديد الرقابة على اللسان، وهو بذلك أراد أن يشعر الإنسان بمسؤوليته فيما يطلق من كلمات ويجعله أكثر حذراً، فرقابة الله عزّوجلّ تشعرنا بالمسؤولية، وتجعل الإنسان أكثر حذراً إن هو تكلَّم، فيأخذ بالاعتبار أنّ كلّ كلمة هي محسوبة عليه ومسجَّلة عليه من ملكين موكلين به، والله سبحانه هو الرقيب عليهم من ورائهم والشاهد لما خفي عنهم، حيث يقول سبحانه: (إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ) (ق/ 17)، (مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ) (ق/ 18). ويقول: (وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ) (الملك/ 13). ويقول عزّوجلّ: (يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) (النور/ 24). ومَن يعي هذه الرقابة، والمؤمن يعيها، لابدّ من أن يدعوه ذلك إلى أن يدقّق في كلامه جيِّداً، فلا يتكلم بالكلمة إلّا بعد أن يتدبّرها.
مقالات ذات صلة
ارسال التعليق