كنتُ أراها في أحلامي. لم تتوقّف عن المجيء يوماً. أراها وألمسُها وأعرف تفاصيلَها، وأستيقظ إلى يومي وعالمي، المحكوميْن بالتكرار، من دون أن تغادرَني لحظة، وقد أطلقتْ في روحي نهراً أزرقَ أواجه به عالماً جافّاً بلا غيمةٍ أو عينِ ماء.
في الطريق إلى الأماكن المكرَّرة، كانت ترافقني. تبزغ من بين الغيوم. تُطلُّ باسمةً وتختفي، فأبتسم. يحدِّق فيَّ الآخرون ظانّين أنّني أبلهُ أو ممسوسٌ، قبلَ أن يشيحَ كلٌّ منهم عنّي، إلى عالمه الآخر الذي لا أراه.
كنتُ أعرف أنّها طيفٌ لا أكثر؛ حُلمٌ ملازمٌ عن المرأةِ المثال؛ بجماليون وجالاتيا؛ طيفُ الجمال والشقاء معاً، لاكتمال كلّ شيء مرغوب، وانتظارِ ما لا يجيء.
كانت هناك، في كلّ مكانٍ أذهبُ إليه: في المدينة ليلاً، وفي الكُتُب، وملفّاتِ العمل، وأشجارِ الطريق الطويل، وفي الوجوه، والعيون، والزحام.
وفيما أنا أنظر إلى الوجوه المعتادة، وأقرأُ الصُّحفَ، وأذهبُ إلى الوظيفة؛ وحين يَشحب الوجودُ في روحي، كمن يَعرف كلَّ شيءٍ ويسير إلى نهايته من دون أن يستطيعَ أن يغيِّر شيئاً؛ كانت تجيء من بعيدٍ مبتسمةً، وتُلوِّح لي بيدٍ ناصعة البياض. تسير ببطءٍ، جارَّةً خلفها تلالًا خضراءَ، وشموساً، وموسيقى عذبةً، وسُحُباً، وكائناتٍ أليفة. أترك الزمنَ يمرّ بجانبي، وأنا واقفٌ في أبهاء اللحظة: لا آبهُ به، ولا تعنيني ساعاتُه وفصولُه.
على كرسي الوظيفة الأخرس، وفي ضجيج البشر الذي لا يقول شيئاً، كنتُ كالمسرنمِ الذي يتبعُ طيفَها وهي تنثر نجوماً تضيء عالمي وتذهب. ألمحُ زملائي وهم يتغامزون عن شرودي، وأنا أرسم دوائرَ في خانات الكلمات المتقاطعة ولا أكتب شيئاً، بل أُخمِّن اسماً لمن لا أعرفه. لعلّها امرأةٌ، إلهة، ملاكٌ، وهمٌ. لعلّها الخلود. لعلّها روحٌ تنبئني باقتراب نهايتي، أو ببداية وجودي في عالمٍ آخر.
في الحياة التي يسيرها الجميعُ، أسير بينهم: كائناً مُكرّراً؛ أبيع وأشتري وأتشاجر وأحزن... قبل أن أسْخر من ذلك كلّه، ومن قدر التكرار الذي يحكم العالمَ.
في الحياة التي تأتي منها، بلا موعدٍ، لا أتعبُ ولا أكبُر ولا أجوعُ ولا أشعرُ بالخوف. لا شيء سوى الطمأنينة التي تَدْفق في القلب، من ابتسامتها، ومن يدها التي تنثر النجوم. أشعرُ بنبع سلامٍ يجري في روحي، غاسلاً كلَّ ما عشتُه من وجع. تلوحُ من خلف غيمةٍ أو خيط شمسٍ، فيجيش كلُّ ما في الأرض بالغِناء، وأغادر أسايَ إلى يديْها المبسوطتيْن نحوي وهي تقف في منتصف النبع.
ذات مساءٍ، غادرتُ العالمَ وتكرارَه وزحامَ تفاصيله، وليس في روحي سوى صورتِها. سرتُ في الزحام، سعيداً بوهمي الجميل، الذي أرى عبره عالماً آخرَ حيّاً يشعّ بالرحمة والنور والحبّ. كأنّها أوّلُ كلّ الأشياء، وكأنّ كلَّ ما عداها آخِرُه. كلُّ لذّةٍ وعذوبةٍ وجمالٍ وسعادةٍ تنتهي إليها. كأنّها سُدرة المنتهى، وأصل الكون. وكأنّني ظلٌّ عابرٌ على خصلةٍ من شعرها الجامح.
تعبتُ من السير، وقد عُدت أنتبه إلى تفاصيل العالم وثقله. دلفتُ إلى أوّل مقهىً قابلني في الحيّ الثري. طالعتُ الوجوهَ المعتادة، الساهرين، الساخرين، والمتعبين اللائذين بكتابٍ تلتهم سطورُه ليلَهم.
عبر أبخرة فنجان القهوة، وإذ رحتُ أطالع المدينة التي تتلألأ بواجهات محالّها وسيّاراتِها المسرعة ونسائها المتأنّقات، نظرتُ إلى حيث أفَلَتْ في تجلّيها الأخير... فرأيتُها!
كانت هي تماماً: جالسةً على مقعدٍ وحيدٍ بعيد، تنظر نحوي - وحدي - بابتسامتها الآسرة، ووجهها الأبيض. نهضتُ إليها، تاركاً كلَّ ما عداها، كالمسرنم الشريد، إلى أن وصلتُ إليها. ظلّت على ابتسامتها تنظر إليّ. رفعتْ رأسَها نحوي، وقد هوت خصلةٌ على عينها فلم تُزحها.
قلتُ: «كأنّي أعرفكِ». ازدادت ابتسامتُها اتساعاً، وأشارت إليّ بأن أجلس.
جلستُ مأخوذاً، وقد امتلأ العالمُ فجأةً بالأمان، كأنّني لم أذق سغباً ولا مرضاً ولا ندماً؛ كأنّ العالم في أوّله. دمعتُ، وسألتُها عن الكون الذي تجرُّه في أطراف فستانها وتنثره من أصابعها. قالت لي، وهي تنظر إلى الأفق، إنّه هناك.
قلتُ: «خذيني إليه معكِ».
طال صمتُها وهي تتأمّلني بعينين عميقتين ثمّ قالت: «اتركْ نفسكَ وتعال».
أومضَ الليلُ متلألئاً، وجاشت الأرضُ بغناءٍ عذب، واستدارت كواكبُ، وتناثرتْ نجومٌ، وامتزج عالمان في كونٍ يتخلَّق، وانبثقتْ عيونُ ماءٍ، وفاضت أنهارٌ، وانمحت ظلال.
في عالمٍ آخرَ مشابهٍ، يُطلّ على كوكبٍ أزرقَ بعيدٍ، كانت معي وحدها، وحولنا ما لا يوصَف ولا يُعرفُ من عذوبةٍ ولذّةٍ وارتواءٍ وأمان. أُطلُّ على ظلال الكوكب الأزرق البعيد، وألمح أُناساً يتأمّلون صورتي ويبكون، وآخرين يبحثون عنّي. استفقتُ على يدِها البيضاء تحيط وجهي، فنظرتُ إليها كأنّما أستكشف كينونتَها: أهي موسيقى على هيئة امرأة، أم طيفٌ بلا وجود، أمْ أنّني مجذوبٌ يَرى ما لا يراه الآخرون؟
قلتُ: لولا أنّني أُحدّثكِ الآن، لخلتكِ حوريّةً عبرتْ بي إلى الجنّة.
قالت مبتسمةً: إنّنا هناك!
مقالات ذات صلة
ارسال التعليق