◄لا يقصد الدين ولا ترمي الشرائع إلى تغيير الحكومات أو تبديل النظم أو تعديل الأشكال، لكنها تهدف – مباشرة – إلى تقويم الضمائر وترقية الإنسان وتنقية الأصول.
فالضمير غاية الكون، والإنسان خليته، والمجتمع وحدته.
وإذا استقامت الضمائر توحّد الظاهر والباطن، وتطابق السر والعلن، واختفت الأنانية وضيق الأفق، واتجه الإنسان إلى الأصل والقصد والصميم، وابتعد عن الانحراف والتعصّب والتضليل.
وإذا استوى الإنسان عرف نفسه في تبصّر وعرف ربّه في يقين، فتماسك في ذاته وتوافق مع المجتمع وتناغم مع الكون، ووصل إلى السلام الحقيقي.
وإذا استنار المجتمع حيا بالحقّ والعدل والاستقامة، وعاش على الروح لا على النصوص... على المعاني لا على الألفاظ... على الجواهر لا على المظاهر.
فالأساس الحقيقي يكمن في الضمير... في الإنسان... في المجتمع، وما الحكومات إلّا أعراض لما خفي كما أنّ النظم أغراض لمن يسود. فإذا كان ثمّ اهتمام حقيقي بالإصلاح فلابدّ أن يتوجّه إلى الضمير وأن يُعنى بالإنسان وأن يعالج المجتمع... ومن صلاح الضمير تصلح الحكومات، ومن سداد الإنسان تستقيم النظم، ومن رشاد المجتمع يتحقق الفلاح.
إنّ الإنسان والمجتمع (الجماعة) هما المحور والسبيل والغاية... فكيف السبيل إلى إنسان سوي ومجتمع رشيد! وهل يبدأ الأمر بالفرد، أم بالمجتمع؟!
إنّ الفرد يتشرب مناهجه ومبادئه من البيئة الاجتماعية؛ ويعتمد الفكر على هذه البيئة، لا في التعبير عن نفسه فحسب، بل في حياته الباطنية كذلك. وفي مجال هذه الحياة تؤثر البيئة الاجتماعية بوصفها مثيراً وبوصفها عاملاً انتخابياً أو انتقائياً؛ ذلك أنّها تشجع وتستوعب كلّ ما يلائم مقتضياتها العامّة، وتقاوم وتصد كلّ ما يتعارض مع حاجاتها، ويقوم المجتمع – أخيراً – بتقديم وسائل ينقل بها الأفكار من جيل إلى جيل، ويضيف بها الجديد منها إلى القديم، مما يُمكّن من تشييد النظم الثقافية كاللغة والعلوم والفنون. وإذا كانت هذه النظم تجعل نمو الفرد أيسر، فإنّها في الوقت نفسه تحصر هذا النمو في نطاق محدد.
لكلّ ذلك فإنّ المسألة تبدو جد عسيرة، لأنّ الإنسان السوي لا يظهر إلّا في مجتمع رشيد، والمجتمع الرشيد لا يكون إلّا من أفراد أسوياء... وبدون الأفراد الأسوياء لا ينشأ مجتمع رشيد، وبغير المجتمع الرشيد لا يكون الأفراد أسوياء.
من هذا المعنى فإنّ الأوفق أن يبدأ الصلاح على مستوى الفرد والمجتمع معاً بحيث يعين كلّ منهما الآخر ولا يعيق، فيتزايد الصلاح ويستقر في كلّ الضمائر. غير أنّ ذلك مما لا يمكن حدوثه إلّا إذا مسّت المجتمع جذوة مقدسة أو حلّت فيه نعمة إلهية أو حطّت عليه رحمة الله، بحيث تنشر الصلاح في كلّ ضمير، وتبث الاستقامة كلّ بينة، وتُشرب الاستواء كلّ شيء.
وإلى أن تتأجج الجذوة أو تتحقق النغمة أو تتألق الرحمة فإنّ على كلّ فرد وكلّ مجتمع أن يسعى إلى الغاية بجد وأن يسير إلى القصد بعزم؛ وذلك من خلال خطوات رشيدة على معالم واضحة.
- الإيمان الحي:
وأوّل هذه المعالم أن يكون لدى كلّ من الفرد والمجتمع إيمانٌ حي، لا يفتر ولا يسكن ولا يتجمد.
ففي فطرة كلّ فرد ميل طبيعي إلى الإيمان، وهذا الميل يوجد لديه شعوراً ورغبة في الامتداد خارج ذاته نحو مبدأ علوي يستمد منه الرجاء والعزم والسكينة واليقين. وعندما يضل هذا الشعور يفتقد أي بصيرة، فلا ينبسط ولا ينفسح، وإنما ينقبض على أوّل وثن ويسقط عند أوّل حاجز. وهكذا – قبل أن يستنير الإنسان – وقف إيمانه عند الأشياء المادّية لا يستطيع أن يتجاوز ولا يقدر على رؤية سواها. وفي المجتمعات التي تنكر الألوهية، أو المجتمعات التي تفسد معناها، يقع الإيمان على التمائم والأيقونات والأضرحة، ويتجمد في المظاهر والأشكال والكلمات. فالإيمان شعور لا سبيل إلى حبسه ولا طريق إلى القضاء عليه، وإذا لم يوجه توجيهاً سليماً ينفع ويفيد فإنّه يسير سيراً خاطئاً يضر ويدمّر.
ولا يتجه الإيمان اتجاهاً صحيحاً إلّا إذا تبصّر بوعي وتحرّك بقدرة. وإذا ما حدث ذلك فلابدّ أن يسمو ويتجرّد فيصل إلى الله سبحانه وتعالى، ثم يكون ذا قوة وفاعلية فيقوّم الإنسان.
فالإيمان في جوهره: إيمان بالله واستقامة في التصرّف... أي تجرّد سامٍ بصير، وواقعية سديدة متبصّرة. والدين الحقّ يتمحوّر على هذا المعنى، فيدعو إلى الإيمان بالله والاستقامة: (إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ) (الأحقاف/ 13).
وهذا الدين يوافق الفطرة السوية التي تتسامى إلى الجلالة وتستقيم في الإنسان. وهو – من جانب آخر – يدعو إلى التفكير في آلاء الله وأنعامه دون التفلسف في طبيعته وحقيقته، فالعقل البشري يدرك آثار الكهرباء ومظاهر الذرة، لكنه لا يستطيع أن يدرك كنه الكهرباء وحقيقة الذرة. بل إنّ هذا العقل – رغم تقدم العلوم – لم يستطيع حتى الآن أن يدرك حقيقة المادّة التي يلمسها ويتعامل معها. وفي هذا الصدد قال عالم فيزيائي معاصر: "كلما أوغلنا أكثر في تركيب المادّة كلما قلّت قدرتنا على القول بأنّنا قد عرفناها. فإنّ جزءاً منها يظل دائماً وسوف يظل إلى الأبد مما لا يمكن تفسيره لأنّه خفي عنا. ولما سُئل: خفي بمن؟! قال: بالمبدأ الأوحد، بالنظام الكوني بالله – ربما".
إنّ اللاهوت الديني وفروع الفلسفة وعلوم العقائد التي تتجاوز صفات الله وآثاره، لتبحث في طبيعته وكنهه، هي دراسات بعيدة عن روح الدين مخالفة لصميمه، إنّها دراسات تنزع إلى التجريد وتبعد عن صميم الوجود... تهتم بالتركيبات العقلية والأبنية الذهنية حتى ولو خالفت الواقع وتنكبت الحياة. فالكُتب السماوية تنهى عن البحث في ذات الله لأنّ العقل بوضعه الحالي غير مؤهل لذلك، بل هو غير مؤهل لإدراك كنه المادّة، ومن ثمّ فإنّ البحث فيما وراء إدراكه يؤدي إلى الخلط ويقود إلى الشطط، ويكفي أن يدرك الناس الله من آثاره وأن تعقله من صفاته أو يحسه الإنسان بروحه ويعرفه بفؤاده.. وعندما يتجاوز العقل مرحلته الحالية إلى مرحلة أرقى، فإنّه سوف يتغير تغيّراً كيفياً، فيدرك ما لا يمكنه أن يدركه الآن، ويعرف ما يتعذّر عليه معرفته حالياً.
وفي مصر القديمة، كان الله ضميراً خفيفاً للكون والناس. وكلمة آمون التي أصبحت اسماً للإله في بعض العصور تعني الخفي. وفي التوراة عندما سأل موسى (ع) عن طبيعة الله أجابه الصوت: "أنا هو أنا. أهيا شر أْيا" ولم يحدثه عن طبيعته. وطالما تحدث السيد المسيح في صفات الله الأب الرحيم المحب للإنسانية، ولم يتعرّض أبداً لكنه. وفي القرآن عن الله سبحانه وتعالى: (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ) (الشورى/ 11)، أي نفي المشابهة عن الله دون تعريفه أو التعرض لحقيقته.
فالإيمان بالله هو صميم الدين، أمّا البحث في طبيعة الله فهو من الفلسفة وليس من عمل الدين.
والإيمان بالله يظهر لدى الناس ضمن صيغ معيّنة، منها شعائر العبادة كالصلاة والصوم والزكاة. وهذه الشعائر ليست غاية في ذاتها، بل هي وسائط لازمة هامة: هي أن يبقى الإيمان حيّاً ويظل نابضاً – ما دام الإنسان يواجه الله في كلّ ما يفعل ويحيا بأمره في كلّ وقت. غير أنّه كثيراً ما يحدث أن يستسهل بعض الناس الوقوف عند الوسائط دون أن ينتبهوا للغاية منها أو يكلّفوا أنفسهم مشقة تجاوزها إلى القصد والهدف؛ وبذلك تتحول الشعائر إلى حركات مادّية وتمتمات لفظية وأوضاع جامدة لا يحيا بها إيمان ولا يستقيم تصرف.
إنّ الفرد السوي والمجتمع الرشيد هو الذي يعرف أنّ صميم الدين وجوهره يكمن في الجذوة المقدسة المشتعلة دائماً والملتهبة أبداً. حتى تجعل من المؤمن إبداعاً لنفسه وللحياة، وسلاماً دائماً لنفسه وللمجتمع، ونفعاً خالصاً للإنسان والإنسانية.
- روح الشريعة:
الدين القويم إيمان الله واستقامة في التصرف.
وقد أوحى الله إلى جميع رسله وأنبيائه ديناً واحداً هو الإسلام؛ ولكن جعل لكلّ منهم شريعة مختلفة عن الآخر، أي منهاجاً وسبيلاً وطريقاً للدعوة إلى الدين تختلف عن منهاج وسبيل وطريق غيره. فشريعة موسى (ع) هي الحقّ، وشريعة عيسى (ع) هي الحبّ، وشريعة محمّد (ص) هي الرحمة التي تلطّف الحقّ بالحب وتخفّف الحبّ بالحقّ.
وتطبيقات كلّ شريعة على أحداث الحياة ووقائع الناس توجد أحكام الشريعة.
والمجتمع الرشيد هو الذي يرعى روح الشريعة فيُعْمل معناها على كلّ واقعة وفي كلّ تطبيق ومع أي تصرّف. وكما أنّه لا ينبغي أن يتجمد الدين في شعائر معيّنة، فإنّه يتعين ألا تتوقف الشريعة عند أحكام محددة. فطبيعة المنهج تقدم، وطبيعة الطريق تواصل، وطبيعة السبيل استمرار.
إنّ آيات القرآن ستة آلاف آية، وما يتضمن أحكاماً للشريعة – في العبادات أو في المعاملات – لا يصل إلى سبعمائة آية، منها حوالي مائتي آية فقط هي التي تقرر أحكاماً للتعامل المدني أو للجزاء الجنائي، وترجع علّة ذلك إلى أنّ القرآن قصد – في الدرجة الأولى – أن يصبّ الإيمان صباً في النفوس وأن يعيد صياغة الضمائر على روح الشريعة وبهدي الدين، فيكون كلّ فرد في المجتمع باراً رحيماً عادلاً فاضلاً تقياً، ويصبح المجتمع من ثمّ مجتمع البرّ والرحمة والعدل والفضل والتقوى. فالضمير هو الأساس في الدين، والروح هي الأصل في الشريعة، وإذا استقام الضمير وقويت الروح لم يقتصر الإنسان على الامتناع عما هو محظور لكنّه يسعى إلى التفضّل بفعله والتبرّرع بذاته.
فالأحكام الجنائية عموماً تفرض عقوبات على الجانحين – وهم في العادة نسبة ضئيلة من أفراد المجتمع – لكنّها لا تدفع إلى البرّ والفضل والإحسان. والضمير الراقي والخلق الرفيع والنفس المؤمنة هي التي تُلزم نفسها الواجب وما يزيد على الواجب من تفاضل وتراحم وتجامل. فالجزاءات هي لمن يُخطئ ويتدنى من أفراد المجتمع، لكنّ الضمير لمن يسمو منهم ويترفع.
ودائرة الأفعال المؤثّمة تشمل جزءاً صغيراً من دائرة أوسع وأشمل تضم الأخلاقيات والبرّ والتعاطف والمجاملات مما لا يمكن تأثيمه، ويتناول كلّ تصرفات الفرد مع نفسه ومع أُسرته ومع جيرانه ومعارفه وأصدقائه، وفي المجتمع على العموم. لهذا عُني القرآن بتنقية الضمير وترفيع الخلق، لأنّ هذا وذاك هما الأصل في التعامل وهما الأساس الذي ينهض به المجتمع واللبنات التي يشمخ بها بناؤه، ثمّ نص القرآن على جزاءات تُوقّع على مَن يُخطئ من الناس أو يأثم منهم، وهم في مجتمع المؤمنين قليل. فالقرآن لم يقف عند حد وضع جزاءات للآثمين – شأن قوانين العقوبات – بل قصد الحثّ المستمر على ما هو أكثر من مجرد الامتناع عن الجرائم المؤثمة، وهو الدعوة المستمرة إلى العدل والفضل والبرّ والتقوى والعفو والإحسان: (وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى) (المائدة/ 2)، (وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ) (آل عمران/ 104)، (وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ) (البقرة/ 195).
وحتى في مجال الأحكام التي تنظم المعاملات المدنية والتجاربة وعلاقات الأحوال الشخصية ركن القرآن دائماً في تطبيق الأحكام إلى ضمائر الناس وأخلاقهم حيث يتفضلون ويتعافون ويتسامحون: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ) (المائدة/ 1). (وَلا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ) (البقرة/ 237)، (وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ) (آل عمران/ 134).
فالاقتصار على تطبيق أحكام الشريعة في الجزاءات أو في المعاملات يحصر الشريعة في نطاق محدود جزئي، أما قيام المجتمع على روح الشريعة فهو يعني ما هو أزيد من أحكام الجزاءات والمعاملات وأشمل: أن يكون المجتمع باراً تقياً عادلاً فاضلاً محسناً عفوّاً، فيتجاوز كلّ فرد فيه دائرة الأفعال المؤثمة ودائرة الأحكام المحددة إلى دائرة أوسع تشمل التفاضل والتراحم والتجامل، وتقوم على التقوى والعدل والفضل والعفو والإحسان، وبذلك لا يقتصر امتناع كلّ فرد عن أي فعل مؤثم بل يشمل الامتناع عن أي فعل مُستهجن أو محتمل الإساءة إلى الغير؟ ويطبق كلّ فرد العقود بما ورد فيها وما يزيد على ذلك، فضلاً من عنده وعفواً لأخيه وإحساناً للمجتمع؛ ويبادر إلى كلّ فعل بار بالأهل والجيران والأصدقاء، وكلّ فعل محسن للناس وللمجتمع، بدافع من نفسه ووازع من ضميره، لا يرجو به مثوبة ولا يخشى فيه عقوبة.
وفي خلاصة موجزة: إنّ قيام المجتمع على روح الشريعة يعني أن يلزم كلّ فرد فيه نفسه أحكام الشريعة وأن يلزم نفسه ما لا يلزمه به أحد من فضل وعفو وبر ورحمة وإحسان، ارتقاء بضميره وابتغاء وجه ربّه.
مثل هذه الروح السمحة الفياضة لا ترهق النصوص بتأويلات تبعدها عن الغاية منها أو تحريفات تصرفها عن المعنى الواضح؛ لأنّها لا تتلمس الخروج على النصوص والهروب من الأحكام والبحث عن منافذ التحلل، وإنما هي تقصد إلى تنفيذ النصوص وتطبيق الأحكام بحرفها وروحها، وتُلزم نفسها الوفاء بما عليها، ثمّ تفرض على نفسها ما لا يُلزمها إلّا بالضمير الراقي والخلق الرفيع، فتتفضّل دائماً وتتراحم أبداً وتتجامل في كلّ مناسبة.
على أنّه في إعمال أحكام الشريعة تنبغي التفرقة بين هذه الأحكام التي وردت في القرآن وفي الأحاديث الصحيحة للنبيّ وبين آراء الفقهاء واجتهادات المجتهدين وشروح الشراح وتطبيقات القضاة، فهذه الآراء والاجتهادات والشروح والتطبيقات ليست أحكاماً في مستوى الأحكام التي وردت في القرآن أو في الأحاديث الصحيحة، وإن كان التقدير الخاطئ يخلط هذه الأحكام وتلك ثم يُحْدِث مطابقة بين الأحكام التي تتضمن الآراء والاجتهادات والشروح والتطبيقات وبين الشريعة ذاتها، فيعتبر – خطأ – أنّها هي الشريعة، ثمّ يُحدِث مطابقة ثانية بين الشريعة والدين فيظنهما أمراً واحداً. وهكذا ينتهي هذا التقدير الخاطئ إلى أن يعتبر ما يصدر عن البشر من رأي أو اجتهاد أو شرح أو تطبيق هو بذاته الدين. والنتيجة التي ينتهي إليها هذا الخلط والاضطراب والبلل أن لا يُقصد بتطبيق الشريعة تطبيق روحها أو تطبيق الأحكام الواردة في القرآن أو في السنة الصحيحة، ولكن يرمي إلى تطبيق التراث الإسلامي بكلّ ما فيه من آراء واجتهادات وشروح وتطبيقات كانت وليدة ظروفها وأثراً لثقافتها ونتاجاً لأحداث عايشتها، وهي – من بعد – قد تكون في حاجة إلى آراء جديدة واجتهادات متتالية وشروح عصرية وتطبيقات ستحدثة حتى يمكن أن تلائم ظروف العصر وأحوال الناس، وإلّا تكون قد حكمت على المجتمع بأن يظل سجين الماضي أسير قبضته، لا يحيا زمنه ولا يعيش حاضره.
- الحضارة الواعية:
فالشخص السوي هو الذي يكون دائماً أبداً خلاصة للتاريخ ووعياً بالحاضر وحركة إلى المستقبل، والمجتمع الرشيد هو الذي يتمثل تراثه كلّه ويتشرّب كلّ الحضارات ثمّ ينبض بنبض الحاضر في كلّ علم وكلّ ثقافة وكلّ فن، ويسعى إلى تشكيل هذا الحاضر ليرفعه ويعلو به ويسمى عليه، ويهدف إلى التأثير في المستقبل لما فيه خير الإنسانية وما فيه وجه الله.
إنّ الشريعة هي المنهج الإلهي للتقدم، ومعنى التقدم ألا تعود الأنهار إلى منابعها ولا يرجع التاريخ إلى الوراء ولا يعود الزمن أدراجه؛ ذلك لأنّ الحاضر يجيء من الماضي ويسير إلى المستقبل، واليوم يولد من الأُسس ويصب في الغد؛ والحياة وهي تسير تحمل كلّ يوم، بل كلّ ثانية، تغييراً كمِّياً وكيفياً في الروح الإنساني والعقل البشري والتاريخ الحضاري. كلّ شيء في كلّ لحظة، يتغير في أبعاد شتى وفي نواح متعددة وفي فروع متشابكة وبمعادلات مركبة، بحيث تصبح أي محاولة لوقف التغير أو الحيلولة دونه نوعاً من الانتحار الاجتاعي تأباه الإنسانية ويلفظه الدين.
فالمجتمع الرشيد هو الذي يدرك أنّ الزمان والتقدم والتطور هو نسيج المجتمعات وصميم الإنسانية وطبيعة الروح، وأنّه ما لم يتحرك الفرد والمجتمع مع الواقع فإنّ الواقع ينبذهما، كما تلفظهما الحياة والروح. ويعني إدراك هذا المعنى يقظة كاملة للروح وتفتحاً شديداً للحياة ووعياً مستمراً بالحضارة.
إنّ في الحضارة المعاصرة مزالق وأخطاء، لكن علاجها لا يكون بالإعراض عنها، وإنما بالتداخل فيها بوعي يستطيع تمثلها، وقدرة تتمكن من تحويلها إلى اتّجاه إنساني وإلى قبلة إلهية.
وإعراض جماعة أو شعب عن الحضارة لن ينال منها، لأنّها ملء العالم أجمع مؤثرة فيمن يقبلها ومَن يرفضها، لكن الإعراض – بغير شك – يحرم الحضارة من بعض عناصر الإصلاح التي يمكن أن تغير مسارها وتبدّل مصيرها، ومَن ينكر الشمس يغمض عينيه، فيعمى عن الحقيقة ولا ينال من الشمس شيئاً. وكذلك، مَن يُعرض عن عصره إنما يقوقع نفسه ويشرنق روحه ولا يغيّر في العصر شيئاً.
إنّ عظمة الرسل والأنبياء أنّهم سموا إلى أعتاب الجلالة فلم يقفوا عندها، بل عادوا إلى الناس بسموهم يرفعونهم إلى أعلى المراتب الإنسانية وأصدق المعارف الكونية.
لذلك، فإنّ المجتمع الرشيد هو المجتمع الذي يدرك أبعاد الزمن ويفهم أعماق التاريخ ويرى آفاق الحياة ويعي أصول الحضارات ويقف على نبض الحاضر، ويدرس كلّ علم ويتذوّق كلّ فمن ويعرف كلّ ثقافة، ثمّ يخلط ذلك كلّه بروحه ويمزجه بطابعه ويحيطه برؤاه، فيمسك عن وعي بمقود الحضارة وزمام المدنية، ويوجه هذه وتلك إلى أغراض إنسانية وإلى أهداف كونية.
- العمل الصالح:
إنّ القوى البشرية المُرَشَّدة أصبحت أهم عوامل الإنتاج كما أنّها أصلح عناصر الاستهلاك، من هنا تعين على المجتمع أن يرعى قواه البشرية وأن يرشّدها وأن يوجهها إلى العمل النافع له وللإنسانية، المفيد للحياة، والمخلّص للفرد من الاستسلام للكسل والاستنامة للأحلام والعيش على أمجاد الماضي.
وحُسن استغلال الوقت فيما يفيد، وحُسن استثمار الجهد فيما ينتج، وحُسن استهلاك النتاج والموارد والطاقات – كلّ ذلك أمر ضروري ولازم لصلاح الفرد وصلاح المجتمع وسلام الجميع.
فليس العمل الصالح صلاة أو صوماً أو زكاة من المال فحسب، إنّه – إلى جانب ذلك – عمل سليم منتج للحياة مفيد للإنسانية واقٍ للذات من التدهور والتحلّل والانحدار. إنّه العمل الذي يجعل الفرد في يقظة دائمة لنفسه ولأُسرته وللمجتمع، وعطاء مستمر من ذاته ومن جهده ومن وجوده، وخلق دائم لشخصية حية وطباع نظيفة وعقل متطلع.
إنّ المجتمع الرشيد هو المجتمع الواعي الحي العامل... المجتمع الذي يحتفي بكلّ فرد فيه ويحتفل بكلّ موهبة تظهر، وهو المجتمع الذي يجعل نسيجه الروح وتاجه الإنسانية، فيستقبل القدسية والجلالة ويستهدف السلام للإنسان..►
مقالات ذات صلة
ارسال التعليق