• ٢٦ كانون أول/ديسمبر ٢٠٢٤ | ٢٤ جمادى الثانية ١٤٤٦ هـ
البلاغ

الحلم الذهبي

خليل حنا تادرس

الحلم الذهبي
◄يقول أنطوان تشيخوف: اعتقد أنّه لا سعادة حقيقية للإنسان بدون الكسل!.

وقد يبدو هذا القول تهكماً؛ ولكن ما أكثر ما فيه من الحقيقة.. فإنّ الرجل – أو المرأة طبعاً – الذي يقضي حياته في عمل متواصل، فلا يتوقف عن ذلك إلّا ريثما يزدرد لقيمات تقيم أوده، أو لأنّ سلطان النعاس غلبه على أمره، لا يمكن أن يكون إنساناً سعيداً في حقيقة الأمر، وإن كان لا يشعر بالتعاسة، فلأنّه لم يتسع له الوقت ليسأل نفسه، أو ليعرف طعم الحياة.

وصدقني إنّه إذا لم يتسع أمامك الوقت جملة ساعات كلّ يوم تشعر فيها أنّك غير مطالب بشيء على الإطلاق، فتستطيع أن تستلقي، أو تتمشى، أو تقرأ، أو تذهب إلى السينما – إذا لم يتسع لك الوقت ساعات كلّ يوم لتفعل ذلك كما تشاء، فأنت إنسان غير سعيد!.

ولكن من سوء طالع الإنسان أنّ الفترة الأولى من حياته – منذ صدر شبابه بمعنى أصح – لا تسمح له بذلك كما ينبغي، فإنّ مطالب العيش، والطموح إلى بناء المستقبل، لا تترك للإنسان وقتاً للكسل.. وإذا تركت له بعض الوقت، فإنّ دماء الشباب الفوارة تجعله يشغله بما لا يقل إجهاداً عن العمل.. فإذا انسلخ عهد الشباب، كنا أرباب أُسر وآباء أطفال، وكان علينا أن نفكر في تأمين شيخوختنا، وتأمين أولادنا إذا حدث لنا أمر الله المحتوم، ولذلك ننهمك في العمل ولا نسمح لأنفسنا بذلك الكسل اللذيذ، ونضطر – آسفين – إلى تأجيل هذه المتعة الكبرى – التي هي شرط السعادة الضروري – لأوان الشيخوخة.

فالشيخوخة، أو بمعنى أصح سن التقاعد، هو الحلم الذهبي الذي يحلم به كلّ إنسان، كي ينعم بالكسل الجميل، ويستطيع التصرف في حياته كما يشتهي... فأنتَ لا تملك وقتك إلّا إذا كان فارغاً من المسؤوليات والمطالب.. أما وأنتَ مسؤول فوقتك مشغول، فأنتَ ملك لوقتك وليس وقتك ملك لك..

وليس هناك في الواقع حد معيّن تستطيع أن تقول عنده للتاجر أو المحامي أو الطبيب أو المزارع أو رجل الأعمال:

الآن يا صاحبي يجب أن تتقاعد، فقد بلغت الخامسة والستين، وهي سن التقاعد اللائقة..

وذلك لسبب بسيط جدّاً، وهو أنّ الأشخاص يختلفون كثيراً في تكوين أجسامهم، وظروفهم المالية والعائلية، بحيث يجب أن يترك للشخص نفسه تحديد سن تقاعده.

والواقع أنّ كلاً منا يتطلع بلهفة وشوق إلى ذلك اليوم الذي يغدو فيه حراً طليقاً من المسؤوليات والمشاغل كرياح الصحراء. ولكن معظمنا يجهلون الوقت المناسب لذلك، أما تحت ضغط العمل، وأما لتعلقهم بعادة العمل، وأما لأنّ التقاعد يقترن في ذهنهم بالشيخوخة وقرب النهاية.

 

فمتى يجب أن نبدأ في التفكير في التقاعد؟

الجواب الصحيح عندي لا شك سيدهشك، فأنّني أرى أنّ الإنسان العاقل يجب أن يبدأ التفكير في التقاعد وهو دون سن العشرين!

فمنذ تلك السن يجب أن تفكر وتستعد، حتى تكون متأهباً للتقاعد في أقرب وقت ممكن، فلا يكون تقاعدك لأنّك لم تعد تستطيع العمل، بل لأنّك قادر على وقف العمل كي تتفرغ لمزاجك. وليس لأنّك لم تعد تصلح إلّا لانتظار الموت؛ بل لأنّك تريد أن تبدأ الحياة الحقيقية، وما زلت صالحاً لها..

فيا حبذا لو كانت مادة التقاعد من مواد الدراسة في المدارس الثانوية والعالية، حتى لا تفسد حياتنا، ونخسر أجمل ما فيها، وهو وقت الحلم الذهبي، أي الكسل والاستمتاع بالحرّية.

فإذا كنت تستطيع التقاعد في سن الخامسة والأربعين، فلا تجعلها خمسين! وإياك أن تضع خطتك منذ البداية على أنّك ستتقاعد في سن الخامسة والستين، لأنّك غالباً سوف لا تتمتع بالعهد الذهبي إلّا خمس سنوات، كما أنّه يحتمل كثيراً أن تكون قد صرت مهدماً فتقضي تلك السنوات مقعداً منغصاً لا تستطيع التلذذ بطعم حرّيتك، كما أنّه يحتمل أيضاً ألا تبلغ سن الخامسة والستين على الإطلاق!

وثمة شيء آخر: عليك منذ حداثتك أن "تضع عينيك" على هواية تستمتع بها بعد التقاعد، فلا يخطرن ببالك أنّك ستسعد في تقاعدك بقضاء السنوات في لف أحد إبهاميك حول الآخر، أو في عد حبات المسبحة، وأنتَ تحملق في السماء أو في الماء ومن الهوايات الجميلة القراءة، والموسيقى، وصنع السجاد، والرسم، وجمع طوابع البريد، وعلم الحشرات، والنجارة الخفيفة "الآركت".

وهناك خطأ شائع جدّاً: أنّ التقاعد يقصر العمر، ويذكرون مثلاً لذلك حالات رجال كانوا بأتم صحّة وهم يعملون، فلما تقاعدوا لم يمهلوا طويلاً حتى ماتوا.. وتعليل ذلك عندي يسير: فإنّ طول مدة العمل تضعف المقاومة، فإذا توقف الإنسان مرة واحدة عن العمل ولم يكن عنده ما يشغله إطلاقاً – كالهوايات التي ذكرت آنفاً – كان ذلك أشبه بنزول الشخص من القطار وهو يجري بأقصى سرعته.. ذلك أنّ أجهزته كلّها متعودة على روتين مجهود معين بسرعة معينة، فإيقافه فجأة يحدث هزة شديدة، هي التي تسبب ذلك الانطفاء السريع بالوفاة، أو بالعته والشرود.

ويرى أخصائيون محترمون في هذا الموضوع – منهم الدكتور "تشارلس بيرلنجيم" أنّه يجدر في مثل تلك الحالات، ولاسيّما إذا كان عمل الشخص يركز فيه مسؤوليات كبيرة، أن يكون تقاعده تدريجاً، بتخفيف المسؤوليات عنه، وتخفيف المجهود أيضاً في السنتين السابقتين للتقاعد، فلا يكون لتقاعده ذلك التأثير المحطم..

تذكر أنّك – مهما كانت سنك صغيرة – أيها القارئ، فإنّها ليست سناً مبكرة للتفكير في إعداد تقاعدك.. وأعلم أنّ سن الستين سن متأخرة جدّاً للتقاعد، وكلما قربت من الأربعين، كان ذلك أحسن لصحّتك، وأمتع لحياتك وتذكر أيضاً أنّك ستعيش مرة واحدة فقط..►

 

المصدر: كتاب تمتع بالحياة/ 60 طريقة لجعل حياتك أفضل

ارسال التعليق

Top