قال سبحانه وتعالى: (حم* وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ* إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ* فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ* أَمْراً مِنْ عِنْدِنَا إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ* رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) (الدخان/ 1-6). اليوم هو الحادي والعشرين من شهر رمضان، وهذا اليوم هو بداية دخولنا في رحاب الأيّام العشر الأواخر من هذا الشهر المبارك، الأيام التي ورد التّأكيد في الأحاديث على إحيائها والاستزادة فيها من العبادة، بالدُّعاء والاستغفار وقراءة القرآن والذّكر، وكلّ ما دعينا إليه في شهر رمضان، نتأسّى في ذلك برسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، فقد كان (صلى الله عليه وآله وسلم) يجتهد في العشر الأواخر بما لا يجتهد في غيرها، اعتكافاً ودُّعاءً وقياماً. وهذا التأكّيد على إحياء العشر الأواخر، يستجيب لتطلّعات الصائم في الارتقاء بعبادته وأعماله، ليعزّز القيمة الروحية في نفسه، بحيث يكون عمله في نهاية الشَّهر أرقى منه في بداياته. ولذلك نقرأ في الدُّعاء: «اللّهمّ اجعل مستقبل أمري خيراً من ماضيه، وخير أعمالي خواتيمها»، فضلاً عن أنّنا غالباً ما تفترّ همتنا في نهايات أيّ عمل، وهذا ما نلاحظه في أواخر أيام شهر رمضان، ما يتطلّب العمل للتعويض عن أيّ تقصير قد حصل منا، حتى لا ينتهي هذا الشهر وقد حرمنا فيه من بركاته وعطاءاته، وأهمها، ما وعد الله به الصّائمين القائمين من العتق من النّار والفوز بالجنّة.
ولذلك، نقرأ في الدُّعاء الوارد في العشر الأواخر من شهر رمضان: «أَللّهُمَّ وَهذِهِ أَيّامُ شَهْرِ رَمَضانَ قَدِ انْقَضَتْ، وَلَياليهِ قَدْ تَصَرَّمَتْ، وَقَدْ صِرْتُ يا اِلهي مِنْهُ إِلى ما أَنْتَ أَعْلَمُ بِهِ مِنّي، وَأَحْصى لِعَدَدِهِ مِنَ الْخَلْقِ أَجْمَعينَ. أَللّهُمَّ إِنْ كُنْتَ رَضَيْتَ عَني في هذَا الشَّهْرِ فَاْزدَدْ عَنّي رِضاً، وَاِنْ لَمْ تَكُن رَضَيْتَ عنِّي فَمِنَ الآنَ فَارْضَ عَنّي يا اَرْحَمَ الرّاحِمينَ.»... «أَللّهُمَّ أَدِّ عَنّا حَقَّ ما مَضى مِنْ شَهْرِ رَمَضانَ، وَاغْفِرْ لَنا تَقْصيرَنا فيهِ، وَتَسَلَّمْهُ مِنّا مَقْبُولاً، وَلا تُؤاخِذْنا بإِسْرافِنا عَلى أَنْفُسِنا، وَاجْعَلْنا مِنَ الْمَرْحُومينَ، وَلا تَجْعَلْنا مِنَ الْمحْرُومينَ». وما يزيد من شرف العشر الأواخر وتألّقها وتميّزها، هو احتضانها لليلة هي ليست كبقيّة اللّيالي، وقد أبان الله عظيم فضلها وشرفها وكرامتها، عندما أنزل فيها قرآناً: (إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ* وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ* لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ* تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ* سَلَامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ) (سورة القدر/ 1-5).
فبركة هذه الليلة، تعود إلى الأجواء الروحية والإيمانية التي تظلّلها، ولما يغدقه الله فيها من عطاءات مما لا يغدقه في أيّ ليلة من الليالي. ففي هذه الليلة، نزل القرآن على قلب رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، أو كان بداية تنزّله عليه، ليكون للناس هدى ونوراً وبشرى وشفاءً لما في الصّدور، ومنحةً لهم من ربهم، وهذه الليلة هي عند الله خير من ألف شهر، أي أنّ العمل الذي يحصل فيها يوازي العمل في ألف شهر. وهذا مظهر إضافيّ لكرم الله الذي عوّد عليه عباده، وبركة ليس بعدها بركة، لا يحرم من خيرها إلّا كلّ محروم، ولا يوفَّق إليها إلّا كلّ مسعود. وهي الليلة التي تنزل فيها الملائكة، ومعهم الروح الذي فسِّر بأنّه جبريل، أو ملك هو أعظم من جبريل، إلى السّماء الدُّنيا، حتى تضيق الأرض بهم، وهم عندما ينزلون، فإنّهم يحملون للعباد رحمةً ورضواناً من خالقهم، ويفيضون على الأرض سلاماً وطمأنينةً تمتدّ حتى مطلع الفجر.
مقالات ذات صلة
ارسال التعليق