من دون أن ندري.. نحن نمارس الإرهاب فيما بيننا. هذا يبدو واضحاً، إذا أمعنا النظر في علاقات المحبين فيما بينهم، وعلاقة الأزواج، والعلاقات في محيط العمل، وفي علاقة الآباء مع أبنائهم، وحتّى في علاقات الدول، ثمة (إرهاب) شفوي يمارس في الحوارات واللغة التي تستخدم، وهي التي تحوّل طرفي الحوار إلى غالب ومغلوب، وإلى سيد ومسود.
إنها عدائية لفظية أشبه ما تكون بالإرهاب الفكري الذي لا يقل خطورة وعنفاً عن أنواع الإرهاب الأخرى.
إن التقارب بين البشر هو هدف سامٍ ونبيل، ولذلك فإن تحقيقه عبر (استراتيجيات مرسومة) يستحق العناء. يصف طبيب النفس الفرنسي جان كونو الحوار القائم اليوم بين البشر بأنه (تراشق عبر الأبراج العالية، حيث يحرص كل إنسان- من خلال ما يسمى تجاوزاً بالحوار- على إثبات ذاته، وفرض رأيه بلغة خاصة به. وفي هذه المباراة الخطابية لابدّ أن يفوز كل من يستطيع تحقيق الرقم الأعلى في الصراخ، ودائماً على حساب ذوي الصوت الأضعف).
ويعطي الطبيب مثالاً على هذا (الإرهاب) اللفظي بقوله: قد تبادر امرأة إلى استقبال زوجها بعد تأخره دقائق أو ساعات عن موعد عودته إلى المنزل مساءً بقولها: (هل لاحظت الساعة التي عدت فيها)؟! أو (أين كنت ومع من)؟ لتضيف حكمها القاطع: (في الحقيقة لا يمكنني الثقة بك)!.
لعل هذا الإرهاب اللفظي هو القاسم المشترك لعلاقات كثيرة: علاقة الزوجين، وعلاقة الآباء بأبنائهم، والعكس بالعكس، وعلاقة الأصدقاء... كما نشاهده في الشارع وأماكن العمل وفي وسائل الإعلام وعلى ألسنة السياسيين أيضاً... ويقول كونو في هذا الصدد: (الكلمات هي وسيلة يعتمدها البشر للسيطرة على الآخرين ويمنحونها قدرة عجيبة على إخضاع الغير لآرائهم)، وهذا ليس اكتشافاً لم يسبقه إليه أحد، فلطالما كانت اللغة تحمل في طياتها ظل علاقة (السيد والمسود)، ولطالما عبرت عن عدائية طرف من الأطراف يمارسها بستعلاء على طرف آخر بعد أن (يقيد) حريته و(يعتقل) قدرته على الرد بندية.
ويستنتج كونو من هذا الواقع (المرضي) أنه: (إذا لم يكن في مقدورنا الخروج من دائرة العلاقات المبنية في معظمها على تأثيم الآخر وتذنيبه وقمعه... فمستشفيات الأمراض العقلية والمصحات النفسية قد تضيق في السنوات المقبلة عن استيعاب عدد المرضى. وإذا لم يكن في وسعنا اختيار الكلمات يكن في وسعنا اختيار الكلمات المنصفة فإنّها (ويقصد الكلمات) تتحول إلى لكمات نوجهها إلى الآخر).
- الخروج من الحلقة المفرغة:
ويقترح طبيب نفسي آخر (توماس غوردون) اعتماد مجموعة من التقنيات كانت محصلة أبحاث ودراسات قام بها أخصائيون في العلاقات الإنسانية، وأقيمت لها معاهد خاصة في أمريكا وفرنسا وذلك إذا أردنا الخروج من هذه الحلقة المفرغة التي تفرضها (اللغة الحوارية الإرهابية).
وإذا كان مستحيلاً في هذه العجالة استعراض كل التقنيات المقترحة لإقامة حوار متوازن، فإن إحدى المدارس توصي بالآتي:
يجب، (مع التحفظ التام على عبارة (يجب) بما توحي به من تناقض مع مبدأ عدم فرض الرأي) تجاوز العقبات الاثنتي عشرة التي تحد من التواصل، والتي تتمثّل في هذه المواقف: إعطاء الأوامر، التهديد، التأنيب أو التبكيت، فرض الحلول، التحليل الذاتي، الانتقاد، الإهانة، التأويل، التأكيد، الممالأة، فرض السؤال، الإهمال، التملص...) باختصار كل المواقف التي من شأنها التعاطي مع الآخر باستعلاء أو تكبّر أو (أستذة) أو تحقير. صيغة المتكلم لا المخاطب ولكن قد يبدو من الصعب جداً وفق هذه التوصيات التعبير عما يريد أحدنا إيصاله للآخر، ومع ذلك فالأساليب الناجحة كثيرة. وعلى سبيل المثال، من الأفضل حين نرغب من الشخص الآخر أن يقدم لنا خدمة أو يحقق لنا طلباً معيناً، اعتماد صيغة المتكلم بدل المخاطب، كأن تقول الأم لإبنها مثلاً: (لست مسرورة بنتائجك المدرسية وأود منك أن تبذل جهداً). بدل أن تقوم له: (عليك أن تتم واجباتك الآن، ستنجزها أم لا)؟. وفي موقع آخر لا يمكن لموظف أن يقنع رئيسه في العمل بعد تكرار تأخره بأعذار واهية، بل إن جرأته في طرح السؤال عما يزعج رئيسه من تأخره قد تكون أكثر جدوى، لأن الحوار هنا يتخذ منحى هادفاً نحو المسؤولية، ما يبعد عن الحوار صيغة إطلاق الأوامر والتبكيت من جهة، وتلقي الأوامر والملاحظات المهنية من جهة أخرى، ودائماً باعتماد صيغة المتكلّم لا المخاطب، وبهذه الطريقة تتاح للطرف المحاوُر الفرصة كي يعدل تصرفه بطيب خاطر، من دون أن يشعر بالستفزاز والنفور.
- تغييرات في التكتيك:
أمّا إذا ظل الآخر- على رغم ما تقدم- مصّراً على موقفه، فقد يكون من المفيد تغيير الاستراتيجية وانتقال المحاور إلى موقع المصغي وترك الفرصة للآخر أن يعبر عن رأيه، ثم التقاط عناصر كلامه الرئيسة بطريقة لبقة تؤكّد له أن الحوار يتم على الموجة ذاتها، واستدراجه- بالمنطق- إلى اعتماد الرأي الموحد.
ولعل هذه الاستراتيجية هي التي يعتمدها المحاورون في المفاوضات السياسية، التي تهدف إلى وضع حلول يقبل بها الطرفان المتحاوران، وفق تدرج يتم على النحو الآتي:
1- التعبير الحر عن وجهات النظر.
2- البحث عن الحلول الممكنة وتقويمها.
3- اختيار الحل.
4- طرق التنفيذ.
5- تقدير النتائج المحتملة.
هذه الخطوات تبدو مجهدة، لكنها تحقق المعجزات أحياناً- يقول د. كونو- لأنّها تتيح تصفية مشكلات وصراعات متعددة المنشأ والأسباب، فهي تعتمد على نظرية في الطب النفسي تتمحور حول قواعد العلاقات بين البشر، ربما تكون شبيهة بما ينصح به المسنون المجربون أبنائهم في علاقاتهم مع أبنائهم الصغار أو المراهقين، يدعو أب عجوز فمثلاً إبنه الذي يصطدم أحياناً بعراقيل في إقامة حوار مع ابنه الرافض لقناعاته وتوجيهاته.
- نحن اثنان وثلاثة لا فرد واحد:
ويضيف كونو: في (اعتماد صيغة المتكلّم يمكن للمحاور تأكيد حقه في إقامة الحوار (الأنا)، وإتاحة الفرصة للمحاور (أنت) أن يعترف بوجود الشخص الآخر، كما أن المشاركة في الحوار تعني فيما تعنيه وجود طرفين وبالتالي اعترافاً ضمنياً بحق كل منهما في إبداء وجهة نظره وموقفه. فالرسالة التي يود المتكلّم تبليغها تفترض شخصاً آخر يتلقاها، وإلا تحولت إلى (مونولوج) منفرد. وهذا ما يعطي الحوار صفة الحرارة ويمنحه قوة تجعله موصلاً جيداً للأفكار).
ومن الانتقادات التي قوبلت بها أفكار كونو أنه لا يتطرق إلى ردات الأفعال العفوية والكلام الذي يرتجله بعضهم أحياناً، تعبيراً عن مشاعر معينة تولدّت في مواقف معينة.
على هذه الانتقادات يرد كونو بالسؤال: (ومَن قال إنّ العواطف والمواقف والكلام الارتجالي هي التي تحدد العلاقات بين البشر)؟. ثم يتابع مجيباً منتقديه: (إن ما يجعل العلاقات مستقرة ومتينة بين الناس، هو من دون شك الأساس الذي يبنون عليه هذه العلاقات، وأعني التفاهم والتواصل الذهني والعقلي قبل التواصل الذهني والعقلي قبل التواصل العاطفي. لن أدعي بأن الاستراتيجية التي أقترحها بسيطة وسهلة الاعتماد، بل إنها تحتاج إلى جهد عقلي وعاطفي كبير، ولا أظن أن هذا الجهد كثير على هدف سامٍ ونبيل، وهو تحقيق التقارب بين البشر، وجعلهم يتفاهمون على موجة واحدة).
مقالات ذات صلة
ارسال التعليق