• ١٨ نيسان/أبريل ٢٠٢٤ | ٩ شوال ١٤٤٥ هـ
البلاغ

آه.. يا أرض كم ابتلعت من ملوك!

سمية رمضان أحمد

آه.. يا أرض كم ابتلعت من ملوك!

وقف خاشعاً صامتاً ينظر إلى ما يحدث أمامه: معاول صغيرة يدغدغ بها الرجال سطح الأرض فتفتح فاها باستجابة ميسَّرة، ثم بإرادتهم يطعمونها الرجل، وتأتي الدغدغة الثانية ولا ثالث لها، فتغلق فاها وتبدأ في هضم من وُضع فيها على مهل؛ فإن رزقها يأتيها وفيراً رغداً، فخالقها لا يجوعها، فكم من الرجالات والشباب والأطفال والنساء، وقد أضحوا من مكوِّنات نسيجها حتى إنها حضارات وبلاداً، وحركتها دوماً بطيئة، ولكنها فعالة مؤثرة فهي محددة لسطحها بكل ما عليه!!
تنفس بعمق هاتفاً في أصدقائه: آه يا أرض.. كم ابتلعت من ملوك كانوا يظنون أن الأرض دانت لهم فإذا هي تميد عليهم!! أين هم الآن؟ بل أين بقاياهم؟ وأين تابعوهم؟ أين سكانهم؟ أين زروعهم؟ أين أموالهم؟ أين دوابهم؟
لا نُحس منهم من أحد ولا نسمع لهم ركزاً، فقد ذهبوا جميعاً بأفراحهم وأحزانهم، تذكر عندها حزنه على ولده وفلذة كبده، واستعرض مع ذاكرته أحداث أول نهاره عندما استيقظ ولده فلذة كبده ونور عينه، وهو يتلوى من الألم، وقد اعتاد أهل بيته على ذلك، فولده سنوات يعاني فيها من المرض وبشكل شبه مبرمج.
دثرته أمه في ثيابه، وحمله معه في سيارته إلى حيث الطمأنينة والنجاة إلى طبيبه الذي صار بحسن معاملته ودماثة خلقه من أقرب أصدقائه، فكم رسم على ثغره الابتسامة بسبب مهارته والقدرة التي حباه الله بها للحد من آلام من فاق حبه كل حدود نفسه، وكالمعتاد كان يقبع وولده داخل العيادة وأخرج محموله ليخبر الطبيب أنهما قد وصلا، فقال له: دقائق وأكون طوع بنانك، عندها شملته الطمأنينة والسكينة، وطارت الدقائق المشار إليها، وفي عقبها طارت دقائق أخرى، وأخرى مرفرفين حول رأسه بتلاحق متتابع سريع عندها استجابت يداه لقلقه، وأعاد الاتصال، وأرهف السمع بتعطش وتلهف فبكاء ولده لا ينقطع.. ولكن لا مجيب.
أعاد الكرة تلو الأخرى بلا جدوى، لاحظ حركة غير عادية تشمل المكان، فخرج من أسر خوفه وهلعه على ولده، ودخل في أعماق فؤاده عبارة أخذت تنتقل بين الأفواه فتنتشر في الأثير: "إنا لله وإنا إليه راجعون ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم".
- صدمة مروعة:
اعتصرته جدران الحجرة من القلق، وأخذ يتنقل بين المتكلمين بعفوية واضطراب مردداً: من المتوفى؟ فوصل إلى مسامعه الطبيب فلان، رفضت أذناه تلقي الخبر، وبدأ لسانه يهذي بعبارات تُكذبه، بعد برهة عانقه اليقين، مؤكداً له أن الطبيب لم يعد من الأحياء، وتذكر كم تهاوت قدماه فعجزت عن حمله، فجلس بجوار ولده يحتضنه بنحيب، وكأنه هو من مات، فاعتماده أساساً على هذا الطبيب الماهر ماذا سيفعل بعد ذلك؟
شعر وكأن أعمدة المستشفى انهارات فسقط السقف وتراكمت حجارته في قلبه هو، وفجأة وبلا مقدمات، صرخ بتلقائية قد غاب وعيها تنبئ عن سريرة قلبه وما سكن في فكره ضاع الولد.. ضاع الولد، فمن له بعد الطبيب.. أخذ المحيطون به يهدئون من صدمته وفزعه وروعه، واقترب منه الممرض قائلاً: إن الله معنا جميعاً وهو لا يموت ولا يفنى ولن يضيع ولدك طالماً اتخذته ولياً ووكيلاً، نزلت هذه الكلمات عليه برداً وسلاماً وكأنه أفاق من غفلة حقاً، ما هذا الذي يتفوّه به؟ كيف استطاع الشيطان أن ينفذ إليه من ثغرة حبه الشديد لولده فجعل أمله في شفائه متعلقاً بالطبيب وليس بالله؟ كيف انساق مع الشيطان وسلم إليه عقيدته ليعبث بها هذا العبث.
استغفر ربه وأناب إليه، نظر إلى ما آل إليه الطبيب، أرض مستوية منبسطة، لا يرى فيها أثراً لجسد الطبيب الذي طالما أدخل السرور على قلبه وسارع إلى نجدته وكم مشى في حاجته حتى يثبتها، وكم جعله الله سبباً في كشف الكثير من الكربات، فمنذ ساعات قليلة كان يمشي على ظهر الأرض ولكن ليس كبقية البشر، بل كان يمشي في حاجة إخوانه، وكثيراً ما رآه وقد كف غضبه وكظم غيظه فطوته صفحة الأرض فيمن طوت، وأصبح قابعاً في باطنها، فلعله ومن على شاكلته مدخله إلى الجنة تحملهم إليها الأرض بفمها كالقطة الحنون، تحملها لأولادها: (قِيلَ ادْخُلِ الْجَنَّةَ قَالَ يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ * بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ) (يس/ 26-27).
نظر إلى حيث يرقد قائلاً: طوبى لك فيما عملت من الصالحات.
رفع عينيه إلى السماء راجياً مولاه داعياً إيّاه أن يكون مدخله إلى الأرض مدخل صدق، ومخرجه مخرج صدق، وأن تمتعه الأرض بحنانها ولا تقهره بقسوتها.
جر قدميه جراً إلى حيث سيارته، وبمجرد تحريك مفتاحها فُتح الراديو تلقائياً، وتتابعت الأخبار ضرب هنا، وظلم هناك، وأكل للحقوق في تلك، أغلقه، وتنهد وهو يحاور نفسه: سبحان الله! كم خلصتنا الأرض من هؤلاء مصحوبين بفرحة العباد: (فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ) (الأنعام/ 45)، وانتهت أواصر شرهم وقد حيل بينهم وبين الدنيا بمن فيها ومن عليها، فاستراح الخلق منهم: (فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّمَاءُ وَالأرْضُ وَمَا كَانُوا مُنْظَرِينَ) (الدخان/ 29).
بعد يوم حافل بالكثير الكثير سكن إلى فراشه والأحداث ماثلة بين عينيه وهو يتوسل إلى الله يغفر له ولمن تتساقط عليه عصارة الأرض ولكل العظام البالية التي سبقته، بدأ يأخذ على نفسه العهود فلا مرجع له بعد لحظته تلك إلا إلى الخالق الذي أذن بفناء الجميع، وبقدرته وعد ببعث الروح في أجسادهم وقيامهم للحساب، فمن اليوم لن يكون رجاؤه إلا في الله وبالله، سيواظب على قراءة كلمات القرآن لعلها تُضيء له دربه، سيعامل الجميع بخلق حسن، فالساعة أقرب إليه مما يتخيل ويتصوَّر، فقد توقف قلب الطبيب في ثانية، بل هي أقرب، وأخذ يمنِّي نفسه ويسترسل ومن اليوم... ومن اليوم، اقترب منه النوم يهدهده ليشمله وهو يغالبه حيناً ويستسلم له أحياناً حتى غشيه تماماً، فاستكانت كل حواسه، وكأنما نظرت له ملائكته المصاحبة له في دنياه تسأل له الغفران وهي تدعو الخالق أن يعينه على ما يتمنى.

ارسال التعليق

Top