• ٢٣ تشرين ثاني/نوفمبر ٢٠٢٤ | ٢١ جمادى الأولى ١٤٤٦ هـ
البلاغ

فقه التدبُّر

أسرة البلاغ

فقه التدبُّر

في الوعي والعمل

    9

 

 

فقه التدبُّر

 

 

 

 

لجنة التأليف - مؤسسة البلاغ

 

 

 

 

 

 

 

 

× فقه التدبُّر

تأليف ونشر: لجنة التأليف - مؤسسة البلاغ.

الطبعة الأُولى: 1435هـ - 2014م.

طُبع من هذا الكتاب 5000 نسخة في مطبعة الوردي.

ISBN: 978-964-402-214-2

E-Mail: info@balagh.com

w w w . b a l a g h . c o m

الترجمة جائزة للجميع بعد عرضها على المؤسسة.



 

الفهرست

المدخل .......................................................................................... 5

أنتَ عقلاني، فأنتَ مُتدبِّر ................................................................... 6

فضائل التدبُّر .................................................................................. 9

1-              الوصول إلى معادن الحقائق ............................................ 9

2-              إكتشاف النظريات ................................................... 11

3-              التوقف عند مواطن الجمال .......................................... 12

4-              إستجلاب مواطن القبح ............................................. 14

5-              البحث عن كلمة السرّ ............................................... 16

آفاق التدبُّر ................................................................................... 19

-       أوّلاً: التدبُّر في الخلق والخلقة .............................................. 19

-       ثانياً: التدبُّر في القرآن المنظور ............................................. 22

-       ثالثاً: التدبُّر في القرآن المسطور ............................................ 23

-       رابعاً: التدبُّر في عواقب الأُمور ............................................ 27

-       خامساً: التدبُّر في مصائر الناس وعواقبهم ............................... 28

-       سادساً: التدبُّر في تقلُّب الأحوال وعدم ثباتها .......................... 29

خلاصة واستنتاجات ...................................................................... 32


 


 

المدخـل:

التدبُّر من الدُّبر، والدُّبر الظهر، والكلمة في اللغة العربية يرجع بها إلى جذرها لأنّه الحافظ والخازن لجميع المعاني المودعة فيها والمركّبة أو المشتقّة منها.. فإذا كان أصل الكلمة هو الظهر أو الخلف أو القفا، فإنّ هذا يعني أنّ التدبُّر يراد به النظر إلى ماوراء الأشياء.

قد تقول قواميس اللغة بأنّ التدبُّر في الأمر يعني التفكُّر فيه، وهي مصيبةٌ في ما تقول، لكنّ التدبُّر أعمق معنىً من التفكُّر.. هو رؤية الشيء من جميع أبعاده.. رؤية مابين السطور.. أو النظر إلى الجانب غير المرئي من الأشياء، هو البحث عن الوجه الثاني لها، وربما الثالث والرابع.

وإذا كان يحلو لبعض اللغويين إعتبار (الفكر) منقلباً من (الفرك)، فإنّ التدبُّر هو تفكُّر وتأمُّل واستكناه واستبطان، فكلّما لاقيت وجهاً من الوجوه إعرف بأنّ وراءه دُبراً (ظهراً) و(وجهاً آخر).. وربما استطعنا تقريب المعنى من خلال مقاربة التدبُّر مع النوافذية الحاسوبية.. فما أن تفتح نافذة حتى تطلّ بك هذه على أخرى، والأخرى تقودك إلى أخرى، وهكذا تبقى متنقِّلاً بين نوافذ ترصد لك المشهد من عدّة زوايا.. وإذا كانت الكاميرات الرقمية اليوم ثلاثية الأبعاد قد جَسَّمت الصورة في أبعادها الثلاثة، فإنها سوف تبقى عاجزة عن رصد أو تصوير القفا أو الظهر أو الدُّبر في اللحظة التي تريك فيها الوجه..

الخلف، أو الخلفيّة، أو ما يحلو للبعض تسميته بـ(الوجه الآخر)، لا تتصيَّد صورته في أثناء إلتقاط الصورة المباشرة أو الظاهرة.. صورة الوجه.. نعم، يمكن تصوّره، تخيّله، النفوذ إليه بأشعة شبيهة بأشعة إكس.. لا قدرة للكاميرا -مهما تطوّرت- على تصوير القفا والوجه معاً.. أمّا بالنسبة لي كإنسان آتاني الله (كاميرا البصر) و(كاميرا البصيرة) أو الكاميرا الظاهرية والأخرى الخفيّة، فقد ألتقط الصورة من الجهتين أو الوجهين.. صورة الوجه الأوّل وصورة الوجه الثاني.. أرى الشجرة وأرى ما لا يرى بالعين المجردة وهو كلمة السرّ فيها: كيف كانت بذرة؟ وكيف استحالت شجرة؟ ومَن بَذَّرَ البذرة؟ ومَن شَجَّرَ الشجرة؟ ومَن أثمَرَ الثمرة؟!

هذه القدرة على الإستكناه، والإستجلاء، والغوص وصولاً إلى الوراء أو ماوراء الوراء، هي ما نصطلح عليه بـ"فقه التدبُّر".

 

- أنتَ عقلاني.. فأنتَ مُتدبِّر:

ببساطة، يمكن القول إنّ عملية التدبُّر عملية حسابية أو رياضية.. هي نتاج أو حاصل جمع نظر بصري ونظر عقلي، أي أنّ التدبُّر بصريٌّ أوّلاً، عقليٌّ ثانياً، وهذه هي نقطة الإشتراك بينه وبين (التفكُّر) و(التأمُّل)، ولكن نقطة الإفتراق هي أنّ التدبُّر يستخدم التفكُّر والتأمُّل كأدوات بحثيّة يحاول أن يصل بها لا إلى شواطئ البحر، بل إلى الغوص في أعماقه لإستخراج ما فيه من لؤلؤ ومرجان ودفائن.

كتاب الكون -مثلاً- يمكن قراءته قراءة بصريّة ممتعة.. نستجلي جماله وإبداعاته فنبتهج لرؤيته في اللون والتناسق والتنوّع والإنتشار والكثرة، لكن دلالة الأُمور الحسِّية على المعاني المتصوِّرة لا يلتقطها إلا فنّان ماهر إسمه (التدبُّر).. هو الذي يدلّني على الرمز والإيحاء والإشارة والعلاقة: به أعرف خداع الثعلب وليس شكله الحيوانيّ فقط، وأعرف وفاء الكلب وليس كلبيّته فقط، وتلوُّن أو تقلُّب الحرباء (الأفعى) وليس تلوّيها فقط، وطيش الفراشة وليس ألوانها الزاهية فقط، به أستدلّ على دلالة الشعار وليس على جمالية وقعه الناعم، أو طعمه المعسول، وعلى المحتوى الداخلي للإنسان وليس على مظهره الجميل فقط.

هل يمكن أن نُسمِّي (التدبُّر) بـ(السبر) أي سبر الأغوار؟ السبر أيضاً آلية من آليات التدبُّر، فكما أنّك تسبر الماء لتمتحن غوره (عُمقه) لتعرف مقداره، فكذلك يمكنك أن تسبر الأمر لتجرِّبه وتختبره وتمحِّصه، وهذا ما يدعو الطبيب الجرّاح إلى أن (يفتح) لـ(يرى)، ويدعو المفتش إلى (فتح) الحقائب (ليرى)، ويدعو الجيولوجي إلى الحفر في الأرض لـ(يرى)، وهو نفسه ما يدعو العالم إلى أن (يستقرء) أو (يستدلّ) لـ(يستنبط) لـ(يرى) الماوراء.

التدبُّر إذاً عملية إنتقالية من بصري ناجز إلى عقلي تحليلي، ومن خاص إلى عام، ومن فردي إلى شمولي، ومن (نظر) إلى (نظرية).

إنّ الذين يقفون على ساحل البحر يستمتعون بالقطع والتأكيد بمنظر هذا الأزرق الهائل المترامي الذي يبدو لامتناهياً، وبأمواجه المندفعة والضاربة أقدام شواطئه الصخرية، وبالسفن الماخرة عبابه، وبالنوارس المحلقة في سمائه، لكنهم لا يعلمون إلا ظاهراً من البحر.. لا ينظرون إلا إلى سطحه، ومَن ينظر إلى البحر من خلال سطحه يظلمه.. البحر ليس سطحاً فقط، هو كل هذه التوليفة الكونية من ماء وسماء وبواطن وأسرار.. هو (شكل) و(مضمون).. وغالباً ما كان جمال المضمون أبهر من جمال الشكل، فإذا ما استطال البصر بالإستعانة بالبصيرة، وأُعملت أو استعملت هذه في البحث عن (الوظيفة) و(المراد) و(الهدف) و(الغاية) و(المضمون) و(الجوهر).. انتقلنا من حالة الإنبهار الشكلي إلى حالة الإنبهار المحتوائي أو المضموني.. وهل التدبُّر إلا هذا؟!

أيُّها المبهور بروعة القصر، لا تتسمَّر عند العتبة.. لا تختصر القصر في العتبة أو في النظرة الخارجية.. أوغل فيه وفي أجنحته وأروقته ومرافقه ولا تتعجّل الحكم!!

حينما رأى موسى(ع) في الليلة الشاتية ناراً على البُعد لم يكن محتاجاً أن يطلب الدفء له ولعياله فقط، بل كان بحّاثةً عن ماوراء تلك النار.. قال لهم وهو يهمّ بمغادرتهم نحوها بحثاً عن سرّها: ﴿امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ نَاراً لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْهَا بِخَبَرٍ أَوْ جَذْوَةٍ مِنَ النَّارِ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ﴾ (القصص/ 29).

وحينما استوقفت القرية التي أهلك أهلها عزيراً ليتساءل: "أنّى يحيى الله هذه بعد موتها"؟! لم يكن في موضع شك أو تساؤل مُنكرٍ للمعاد.. كان يتطلّع إلى ماوراء (الظاهرة) حتى لا يحبسه أو يُجمِّده (الظاهر) في جفاف الحياة في بقعةٍ ما.. والتساؤل حتى في الأُمور الغيبية أو التي لا تقع تحت طائلة العقل مشروع.. ولولا مشروعيته لما فصّل القرآن وصف ما بعد هذه الحياة تفصيلاً.

إنّ في كلّ شيء بالنسبة للإنسان الواعي، المدرك، البصير، المتأمِّل، المتفكِّر، المتدبِّر مادة للدرس والإعتبار والإتعاظ والإنتفاع، وما انحصر أو انحسر العلم إلا بندرة الأسئلة، وما اتسع واستطال وحَلَّقَ في الآفاق إلاّ بإهتمامه بالسؤال وتداعياته وتفريعاته.

نعود إلى ما بدأنا به: أنت عاقل أو عقلانيّ فأنت متدبِّر. هذا ليس إكتشافا أو إستنتاجاً، هذه بديهة إنسانية.. فقد يكتفي بصري بالإستمتاع بالمنظر الجميل، أو يقرف ويشمئز من المنظر القبيح، لكن عيون عقلي لا ترضى بالتسكُّع على الأرصفة والسطوح.. هي في تساؤل دائم: لماذا هذا الجمال؟ ولماذا هذا القبح؟ كيف يمكن أن تكون هذه المساحة الجمالية الضيقة أوسع؟ وكيف يمكن أن تكون هذه البقعة القبيحة الواسعة أضيق؟! والأسئلة بعد ذلك تترى.

- فضائل التدبُّر:

إذا صحّت نظريّة أنّ كلّ شيء تتوقّف أو تكفّ عن إستعماله فإنّه سيذوي ويضمر، وكلّ شيء تزاوله يقوى وينشط ويكبر، فإنّ التفكُّر والتأمُّل وإعمال أدوات التدبُّر لا تشذّ عن هذه القاعدة، فإنّ شحذ ملكة التدبُّر يفيد في قدرتها على المزيد من التدقيق والتحقيق والتعميق في الحفر، والإيغال في السبر.

إنّ مُنقِّب الآثار صبور ومتفائل أيضاً.. إنّه يحفر في العمق وبرفق، وعندما يطالعه أثر من الآثار -مهما كان صغيراً-، فإنّه -كَمَن عثر على كنز- لا ينسيه تعبه ولا يوازي فرحته الكبرى بما عثر عليه إلا أمله وطموحه في أنّ بعد الكنز كنوزاً! وإنّ وراء الصغير كبيراً!

الحفريات ليست مهمّة جيولوجية أو صخرية أو أرضية فقط، هي مهمّة العالِم والباحث والمنقِّب والمتدبِّر أيضاً، كلٌّ يحفر على شاكلته.. فإذا كان الحفر في المكان المناسب، فإنّ الكنوز آتية لاريب فيها.

من هذه المقدّمة المقرّبة لأهميّة وفوائد التدبُّر، يمكن إستلال الكثير من فضائل هذه الملكة المكتسبة بالمران والمراس والمزاولة.. وإذا سألت المتدبِّرين، رأيت أنّ كلّ واحد منهم لديه تقدير خاص لملكته وتثمين عال لمحاسنها وإيجابياتها، ومن ذلك:

 

1- الوصول إلى معادن الحقائق:

إنّ الذي يبحث أو يُنقِّب عن الذهب أو الماس أو الحديد أو الفحم، في الأماكن التي يحتمل فيها وجود هذه المعادن، سيصل إليها طال الزمن أو قصر، والمتدبِّر في آيات الكون أو الكتاب (المنظور) وفي الكتاب (المسطور) يعمل في الإتجاه نفسه.. إنّه يجهد نفسه ويُعمل مواهبه الذهنية، وتجاربه البحثية من أجل أن يصل إلى معدن الحقيقة أو إلى شواطئها، قد لا يلتقيها كلّها دفعة واحدة، لكنه وهو يتدبَّر لا ينسى أنّ هناك غيره مَن قام أو يقوم بالمهمّة ذاتها، وربما عثر من خلال هذه المحاولات للسبر والغوص على ما يلامس بعض معادن الحقيقة التي لا تبخل عن الإسفار للجادّين في البحث عنها.

يقول الشاعر بعد أن درس الشرائع كلّها وتدبَّرها جيِّداً:

درستُ الشرائعَ من أُسِّها     ومحَّصـتُها مُصحفاً مُصحفا

فلم أرَ شرعاً أتاهُ المسيحُ      خلافَ الذي شَرَّعَ المصطفى!!

ويقول المعرّي المتدبِّر في البعث والحساب:


زعمَ المنجِّمُ والطبيبُ كلاهما        أنّ لا معادَ، فقلتُ: ذاك إليكما

إنْ صحّ قولكما فلستُ بخاسرٍ       أو صحَّ قولي فالخـسارُ عليكما

وتدبَّر آخر في قصص التأريخ وشخوصه وأحداثه وصراعاته، فانتهى إلى القول:

ليسَ بإنسـانٍ ولا عاقلٍ   مَن لا يعي التأريخَ في صـدرهِ

ومَن درى أخبارَ مَن قبلَهُ      أضـافَ أعمــاراً إلى عُمـرهِ

وتأمَّل رابع في النهاية والمصير، فاستلّ من تدبُّره هذه اللالئ:

هذهِ الأرضُ أُمّنا وأبونا       حملتنا بالكُرهِ ظهراً وبطنا

إنمّا المرءُ فوقَها هو لفظٌ       فإذا صارَ تحتها صارَ معنى

والشواهد على التدبُّر العقلاني والنظر الفكري العميق كثيرة ليس الشعراءُ وحدهم مَن أشَّر إليها، بل كل مَن وعى الحياة وما قبلها وما بعدها فاستلّ منها الدروس والعِبَر والحِكَم والمعاني.

إنّ حقيقة أنّ القرآن الكريم هو كتاب الله الخاتم الذي لا كتاب بعده، وهو الشامل الكامل الذي لا مرجعيّة رساليّة فوقه، وأنّه حبل ممدود إلى السماء لا ينقطع، قد نتلقاها من أقوال تردنا عن أمناء صادقين من هنا وهناك، وهذا يبعث الإطمئنان في نفوسنا. لكننا ونحن نواصل رحلتنا البحرية الإستكشافية أو الجيولوجية في أعماق القرآن، قد نكتشف الحقيقة بأنفسنا، ليس بالضرورة في القراءة الكلِّية والإستقراء التام، بل ربما في آيات تُمثِّل المفاتيح الكبرى، كقوله تبارك وتعالى: ﴿أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً﴾ (النِّساء/ 82).

إنّ هذا الإنسجام التام بين معاني ومفاهيم وأحكام وتعاليم القرآن لا يمكن أن يصدر إلا عن قدرة منسجمة وقادرة على صياغة التوافق والتكامل، بل محيطة بكل شيء بحيث لا يتفاوت علمها بشيء عن علمها بشيء آخر.. هي قدرة عالمة علماً مطلقاً لا يرجح عندها جانب على جانب، بل جميع جوانب علمها راجحة؛ وكلّ إحاطاتها كاملة.

 

2- إكتشاف النظريات:

اللؤلؤ في بطن البحر، لكن ليس كلّنا قادر على إستخراجه، أو قل كلّنا قادر على إستخراج بعض لؤلؤه إذا أحسنّا إستخدام الأدوات المناسبة للغوص والبحث، وعملية صيد اللؤلؤ لا تفرق كثيراً عن صيد الحقائق والمعارف والعلوم، فكما تحتاج تلك إلى الصياد الماهر تحتاج هذه إلى مهارة من نوع خاص، وكما يتفاوت صيادو اللؤلؤ يتفاوت ويتباين صيادو الحقائق والمعارف.

إنّ الذي اكتشف نظرية السنن التأريخية في القرآن يعلم أنّ في بحر القرآن لآلئ، شأنه شأننا، ولأنّه صيّاد ماهر لم يترك مهمّة البحث عن اللؤلؤ القرآني لصياد آخر، فغاص في أعماق القرآن ليُزيِّن عقولنا بلآلئ من نوع آخر، وكان يمكن له أن يُقدِّم لنا تلك اللآلئ منفردة أو منفرطة أو متناثرة، أو يجمعها كلّها في سلة واحدة، لكنه آثر أن يصوغها عقداً منسجم الحبّات ليزين به جيد العقل كما يزين اللؤلؤ جيد الفتاة، وهذا هو الفرق بين الباحث عن حبات اللؤلؤ والجامع لها، وبين الصائغ لها أو الناظم منها عقداً، وهو الفرق بين مَن يقرأ الآيات منبثة في أرجاء القرآن، وبين مَن يُنظِّمها في سلك نظريّ ليقدِّمها لنا عِقداً نظيماً.. وتلك مهمّة يتكفّلها التدبُّر والنظر العميق للوراء وإلى ماوراء الوراء!

 

3- التوقف عند مواطن الجمال:

عند الدخول إلى معرض فنّي، يتفاوت المشاهدون أو المتفرِّجون أو زوّار المعرض في درجة الإستمتاع بلوحات المعرض بقدر ما يحمل كل منهم من ذوق وقراءة نقديّة وتحليل لمفردات الجمال في اللوحة، والتأمُّل في دقائقها وألوانها وظلالها، فهم ليسوا على درجة سواء من إستشعار الجمال الكامن في اللوحة، ومثل ذلك يقال في قارئ القصيدة الجميلة، والناظر إلى منظر طبيعيّ جميل، والواقف مشدوداً إلى تحفة أثرية أخّاذة أو إلى نصّ أدبي فني أو فكري رصين.

إنّ هذا التفاوت في درجة الإستمتاع بالجمال والتحليق في أجوائه وأبعاده ناتج أو ناجم عن التدبُّر في اللوحة، وربما يتضاعف السرور وترتفع درجة الإستمتاع بحسب ما إذا كان زائر المعرض ينظر إلى مفردات المعرض نظرات فردية أو شمولية، حيث يجد في كلّ لوحة جماليةً خاصة، كما يعثر على جماليات متناغمة في لوحات المعرض وإن تعددت مواضيعها واختلفت عناوينها.. هذه الجماليات يمكن أن نطلق عليها بروح المعرض، أو روح الجمال، أو روح الفنّان المبدع.. وكلما اقتربنا من تحسُّس تلك الروح واستشعارها، أمكننا أن نرتفع بذائقتنا الجمالية وبالتالي بدرجة إستمتاعنا بمحتويات المعرض.

إنّ المتدبِّر قد يطول وقوفه أمام لوحة بعينها، يتملاّها، ويُقلِّب نظراته فيها، ويحاول أن يستخرج منها كل لفتة جمالية أو كمالية.. هو ليس في عجلة من أمره، وليس المهم عنده أن يطالع اللوحات مطالعة تتصفّحها نظراته العجلى ليغادر المعرض مثلما أتاه.. ليس المهم عنده آخر لوحة تنتهي عندها جولته السريعة، المهم عنده أن يستجلي جمال اللوحة وجمال أخواتها حتى وإن استدعى الأمر زيارات أخرى متكررة للمعرض وفي فترات زمنية مختلفة.

إنّ الذي يطول وقوفه أمام أي لوحة من لوحات الحياة والكون، هو مُتدبِّر لا يرضى بالسطوح: إنّه يتساءل: ماذا تحت هذه البركة الراكدة؟ ماذا في قلب هذا الليل الساجي الساكن؟ ماذا خلف جدران هذه القلعة؟ ماذا وراء هذه النجوم اللامعة، أو الأحجار المتواضعة، أو الحيوانات المتصارعة، أو القوى المتدافعة؟

إنّه وهو يتجوّل في المعرض النباتي أو الحيواني أو الإنساني أو الحجري لا يبحث عن مسحة جمالية هنا، أو لقطة فنيّة هناك.. إنّه كما في كاميرات الأستديو أو السينما يحاول أن يلتقط للمشهد أكثر من لقطة من أكثر من زاوية، وبذلك يمكن القول إنّ المتدبِّر محب للجمال باحث ومنقب عنه ومتصيِّد له، لا يستهويه في شكله الخارجيّ فحسب، بل يتعب نفسه في الكشف عن جماله الجوّاني أو الباطني أو غير المرئي، وبذلك فقط يصل الإستمتاع إلى أقصى درجاته.

إنّ صرخة ذلك العالم الذي اكتشف حلاً لمسألة علمية شغلته: أين الملوك وأبناء الملوك مما نحن فيه (يعني من لذّة واستمتاع).. لو عرفوها لقاتلونا عليها!! لم تكن صرخة إنتشاء وزهو وخيلاء وانبهار، إنّما صوت السرور البالغ والمجسَّد لحالة الرِّضا الداخلي التي لا يشعر بحلاوتها الفائقة إلا مَن دأب على تذوّق الجمال المعنويّ الذي يأتي عادة في الطبقات اللاحقة لطبقة الجمال الحسِّي القشرية!

 

4- إستجلاب مواطن القبح:

قد يبدو من التناقض أن تتحدّث عن الشيء وضدّه في عملية التدبُّر، إذ كيف نوفّق في التدبُّر مابين جماليات الأشياء وقبائحها، وبين محاسنها ومساوئها. لكن نظرة في المتقابلات أو المتعاكسات أو المتضادات ستكشف لنا أنّ الضدّ يظهر حسنه الضدُّ، فلا تستطيع أن ترى جمال الجمال إلا إذا نظرت إلى قبح القبح.. إنّك -مثلاً- إذا نظرت إلى وجه يوسف (ع) قد تقول: لا حاجةَ لي في النظر إلى غيره من الوجوه، لكنك لم تعرف جمال وجه يوسف إلا بعد أن تكون قد تَعرَّفت على قبح وجوه كثيرة، أو على جمال ضئيل في وجوه أخرى.. إنّك -من حيث لا تشعر- تجري مقارنة بين ما اختزنته ذاكرتك من صور جمالية وأخرى قبيحة لتقول في النهاية إنّ وجه يوسف(ع) هو أجمل ما رأيت من وجوه!

إنّ التدبُّر في القبح -كما هو التدبُّر في الجمال- له غاية لابدّ أن يدركها، وهي أنّ النفور من القبائح، والإعراض عن المساوئ، والإشمئزاز من الفواحش، والإبتعاد عن المنكرات، لم يأت فقط من خلال معرفة المحاسن وتذوُّق الجماليات وإدراك الإيجابيات، بل من خلال الوقوف على منفرات قبح القبيح، وسيِّئات السيِّئ، وفحش الفاحشة، ومنكرات المنكر.. وبمعنى آخر إنّ النظر إلى الوجه الآخر المعتم من الصورة، هو الذي يُعزِّز قيمة وجهها المشرق، ولو كان الليل سرمداً دائماً لا يعقبه صباح مشرق جميل لما تذوّقنا سحرهما معاً، ولو كان النهارُ سرمداً دائماً لا يعقبه ليل لما تذوّقنا حلاوة الصباحات الطازجة المنعشة الرائقة الجميلة، لا تكتمل اللوحة الجميلة إلا بإجتماع الجميلين أو الجمالين!

برؤية الوجهين: الحسن وضدّه، الجمال والقبح، الخير والشر، الإعتدال والتطرُّف، الإستقامة والإعوجاج، والحق والباطل، تكتمل الرؤية، ويبدو الجمال جميلاً ليس من خلال جماليته الذاتية فقط، بل من خلال مقارنته ومقابلته بقبح القبيح، كما يظهر قبح القبيح فاقعاً إذا ما قورن بالجميل، فكأنّ المتدبِّر في جمال الجميل المقارن له بالقبيح يتضاعف لديه جمال الجميل، كما أنّ تدبُّره في قبح القبيح المقابَل بجمال الجميل يبدي له القبح كريهاً لا يطاق.. بالمقارنات تتجلّى أو تتجوهر الصفات.

إنّ حلاوة الصدق والأمانة تتجلّى أكثر فأكثر كلّما اصطدمنا بجموع الكاذبين والكذّابين والمكذِّبين والخائنين، وكلّما ارتطمنا بالآثار السيِّئة الوخيمة والنتائج الكارثية لما يتسبَّبه الكذب والخيانة، بل إنّ أكثرية الكذب والكاذبين تزيد في حلاوة أقلية أو ندوة الصدق والصادقين والأمانة والمؤتمنين.. ومن هنا كان النادر ثميناً!

هل تريد أن تعرف قيمة الوفاء في دنيا الناس أو في سوق التعامل الإجتماعي؟ انظر إلى الجرائر والجرائم التي تحدثها الخيانات.. هل تريد أن تعلم كم هي قيمة الإعتدال في أجواء التطرُّف والغلوّ والتكفير والتفسيق والذبح على الهوية؟ قارن ذاك بهذا ولست بحاجة إلى حاسبة لتدرك ما مدى ما تُخلِّفه النعرات والصراعات والتجاذبات والمناكفات والحسّاسيات والطائفيات والمذهبيات والتحزُّبات من أوجاع وكسور ومخلفات لا تحصى!

إنّ درساً كبيراً من دروس الحياة التي تعلمنا إيّاه كل يوم هو: انظر إلى مساوئ السلب وآثاره حتى تعرف محاسن الإيجاب وآثاره، لا تنظر إلى النبي محمد(ص)، بل إلى أبي لهب وأبي جهل أيضاً!

 

5- البحث عن كلمة السرّ:

يُقال بأنّ لكلّ شيء كلمة سرّ، إذا عرفتها أمكنك أن تدخل إلى عالم أو عوالم ذلك الشيء المغلق.. فمعرفة السرّ أو الحكمة أو الفلسفة التي تنطوي عليها المفاهيم والعلاقات والأحكام تتأتّى من خلال تدبُّرها وفتح مغاليقها أو رفع الستائر الحاجبة عن رؤية جمالها الداخلي.

إنّك تسمع أنّ الحديث القدسيّ يقول: "الصوم لي وأنا أجزي به" فتعجب، لماذا الصوم من دون سائر العبادات؟ أليست الصلاة لله، والحج لله، والإنفاق على الفقراء لله، والجهاد في سبيل الله لله، والأمر بالمعروف لله وما إلى ذلك؟ لماذا الصوم يتفرّد من بين باقي العبادات والشعائر والفرائض بأنّه لله؟

إنّ التدبُّر في هذه الفريضة يفضي إلى أنّ طبيعتها السرِّيّة قد تجعل منها فريضة أقرب إلى التقوى من باقي الفرائض الظاهرة، فلولا أن يخبر الصائم عن صومه لا يعلمه أحد، إذاً هي عبادة بعيدة عن الرِّياء وحبُّ التظاهر، وبالتالي فهي العبادة التي يراد بها رضا الله أكثر من غيرها، أي إنها متوفرة على شرط (القربة) أكثر من سواها.

أمّا إذا جاء مُتدبِّر آخر في هذه الفريضة ليدرس عبادات الأُمم التي تعبد الأصنام والأوثان والآلهة الأخرى من دون الله، ويقارن بينها وبين عبادات المسلمين، فربما ينتهي إلى أنّ كلّ العبادات الأخرى تُقدَّم للمعبودات الدنيوية من صلاة وأضحيات وقرابين ودفاع ودعاء وتوسُّل وحج إليها من أماكن بعيدة، ولكنك لا تجد الصيام من بينها، فلا يصام للمعبودات الهابطة والمحدودة من أصنام وأوثان وآلهة، ويصام لله وحده!

القراءة بالأحرف الأولى إذاً ليست هي القراءة الثانية والثالثة وليست النهائية، بل لا نستطيع القول بأنّ هناك قراءة نهائية طالما أنّ هناك عقولاً تنشط من عقالها! ولذلك لا نستغرب مقولة إنّ القرآن لا يزداد مع الأيام إلا غظاظة (طراوة) ونشراً، أو أنّ الجالس إلى مائدته لا ينهض منها إلا بزيادة (في فكر وعلم وثقافة وفقه وأدب وأخلاق) وبنقصان (في جهل وعمى وضعف وتخلُّف وتراجع).أن

لو صحّت القراءة الأولى بأنها النهائية، لما وجدنا هذا الكم الكبير من تفاسير الكتاب الكريم، ولما تعدَّدت رسائل الفقهاء، ولما تطوَّر العلم بشتى حقوله وأبوابه، ولجمدت الرياضيات على (الخوارزمي)، والكيمياء على (جابر بن حيان)، والطب على (محمد بن زكريا الرازي).. ولبقيت المعلقات السبع أو العشر سبعاً أو عشراً لا يزدن قصيدة، ونحن لا نتفق مع (عنترة بن شداد)، حيث يقول:

هل غادرَ الشعراءُ من متردَّم        أم هل عرفتِ الدارَ بعد توهّمِ

فكأنّه أراد غلق باب الإبداع الشعريّ والأدبيّ علينا، في حين إنّنا نرى قصائد لاحقة للمعلقات فاقت في جودتها المعلقات، وقرأنا وسمعنا صوراً شعرية لم يأتِ بها الأوّلون.

ولو أنّنا بقينا على (صندوق الدنيا) الصغير الذي كان الأطفال يرون من خلاله عدسته سعة (الدنيا)، لما حظينا بهذه الصناديق المفتوحة على الفضاء، ولراوحنا عند المذياع الخشبي القديم والتلفاز ذي اللونين الأبيض والأسود، ولما تعدَّدت البحوث والدراسات النظريّة والميدانيّة.. ولكانت أيام الناس كالنعجة (دولي) نسخاً متكررة خامدة مملّة لا تغري بالتطلُّع والسبر والقراءة!

كما إنّنا لا نوافق ذلك الفتى الذي اعترض على قول (المعرِّي):

وإنِّي وإن كنتُ الأخيرَ زمانُه        لآتٍ بما لم تستطعهُ الأوائلُ

بقوله: لقد جاءت العرب بستّة وعشرين حرفاً (يعني الألف باء أو حروف الأبجدية) فأتِ بالحرف السابع والعشرين!

لا نوافقه لجهتين: أوّلاً أنّ حروف اللغة جامدة ومغلقة ومنحصرة قد لا يؤتى بحرف زائد عليها، ولكن ليست الحياة هي اللغة فقط، فإمكانات ومجالات النمو والتطوُّر واسعة سعة الحياة ذاتها، ولو كانت الأشياء -كما اللغة- محدودة مقفلة لماتت الحياة، بل حتى اللغة حينما ضاق عليها ثوب الحقيقة ارتدت ثوب المجاز، ولو انغلقنا بوعاء اللغة الأبجدي لنضب الإبداع، ولتوارث الخلف السلف في ما لا يصحّ ويصلح لزمانهم.

وثانياً: إنّ (المعرّي) ومثله كل متأخر عن زمن الأوّلين تتوفر لديه وسائل وآليات إبداعية وتنموية لم تكن متاحة لمن كان قبله، خاصة إذا علمنا أنّ العلم تراكميّ والتجربة تراكميّة، والإبداع تراكميّ، وقد صدق مَن قال: هم رجال ونحن رجال، فكم ترك الأوّل للآخر؟!

 

- آفاق التدبُّر:

ليس هناك دائرة واحدة، أو مساحة معيّنة، أو مجال محدَّد ينحصر فيه التدبُّر، بل هو مفتوح أو منفتح على الدوائر كلّها، والساحات والمساحات كلّها، والمجالات والآفاق جميعها، ويظلم التدبُّر مَن يُضيِّق سعته، وإذا كنّا هنا سنرصد بعضاً من تلك الآفاق، فلا يعني ذلك أنّنا وقعنا في المحذور، وإنّما هي إشارات على سبيل المثال والتمثيل وليست للحصر.

 

أوّلاً- التدبُّر في الخلق والخلقة:

إنّ خلقة الإنسان من تراب أو طين تحمل في داخلها أكثر من إشارة غنية أو دلالة إيحائية لا يعيها إلا مّن يمعن النظر في أصل الخلقة.. فأوّل ما يدعو إلى التدبُّر هو المادة الخام المشتركة التي تمّت بها صناعة الإنسان وهي داعية التساوي وعدم التعالي بين البشر، والحديث الذي يقول: "كلّكم من آدم وآدم من تراب" ناظر إلى هذه الحقيقة وهي أنّ البشر من حيث الخلق الأوّل ينتمون إلى التراب وينتسبون إلى الطين، فلا فضل لأبيض على أسود، ولا لحُر على عبد، ولا لملك على مواطن، ولا لرجل على إمرأة، ولا لشعب على شعب طالما أنّ الجميع ينحدون عن المادة الترابية التي شكّلت تركيبتهم الآدمية الأولى.. إنّنا أمام ترابية المنشأ متساوون.

يقول الشاعر المتدبِّر:

إذا كانَ أصلي من ترابٍ فكلّها   بلادي وكلُّ العالمينَ أقاربي

والتدبُّر في مزايا الخلقة البشرية وافتراقاتها عن الخلقة الحيوانية والنباتية والجامدة، لا يدعو للفخر والغرور، كما توهّم إبليس في فجر الخليقة، بقدر ما يستدعي أداء المسؤوليات المترتبة على صاحب الخلقة الأفضل، فإنّما فُضِّلت وكُرِّمت كإنسان على ما عداك من مخلوقات بالعقل والإرادة والإختيار والدين والبيان والعلم والتعلُّم واستقامة القوام، والقدرة على التغيير، لا لأنّك من معدن (نفيس) والكائنات الأخرى من معدن (خسيس)، كما خيّل للشيطان المغرور أو المخدوع بخلقته النارية بأنّ النار أفضل من التراب، ولم يعلم أنّ قياسه باطل لسببين، الأوّل: إنّ خالق النار والتراب واحد، فلم يخلق الإنسان نفسه ولم يختر لأصل خلقته التراب، ولم يخلق الشيطان نفسه، ولم ينتخب لخلقته النار حتى يفاضل بينها وبين الطين. والثاني: إنّ الشيطان نظر إلى (الثابت) ولم ينظر إلى (المتغيِّر) أو القابل للتغيير، فلا دخل لأي مخلوق بشري أو غير بشري في أصل خلقته، وإنّما الفضل كلّ الفضل فيما يدخله على شخصيته أو (ترابه) من محسِّنات (التربية) والبناء والإيمان والطاعة والتديُّن وخدمة الناس وإعمار الأرض بما يمكث فيها من آثار الخير والإحسان والصلاح.

إنّ التدبُّر في الخلق سواء كان بشرياً أو حيوانياً أو نباتياً ليس حالة عبادية يتقرّب بها الإنسان إلى خالقه فقط،وإنّما هي حالة من الوعي لما يراد من كل مخلوق من وظيفة أو مسؤولية في الحياة، ولذلك فأنت حينما تقرأ تدبُّرات الإمام علي(ع) في خلق الجرادة والنملة والطاووس وغيرها، فإنّك تشعر أنّك في مختبر لعالم بيولوجي لا يُشرِّح الجثث وإنّما يدرس في مخبره أو مختبره مزايا وسمات وخصائص كل مخلوق ليكون ذلك بحدّ ذاته داعية للتأمُّل في عظمة الخالق، وتفرُّده في الخالقية التي لا نظير لها، وفي قدرته المنقطعة النظير على أن يجعل من فصائل الحيوان وأسراب الطيور أُمماً تشبه في تحرُّكاتها وعلاقاتها حياة الإنسان الذي يفوقها في الخلق والتكوين ويشاطرها في المَثل والمنهج، وفي ذلك أكثر من دلالة: منها أنّ الخالق هنا وهناك واحد (وفي كل شيء له آية تدلُّ على أنّه واحدُ)، ومنها أنّ في حياة المخلوقات الأدنى دروساً وعِبراً غنيّة للإنسان الكائن الأعلى (اُنظر كتابنا: معلِّمونا الجدد).

غيرّ أنّ التدبُّر الأكبر ليس في مادة الصنع فقط، بل في الغاية أو الهدف من الخلقة.. فالإنسان مخلوق الله الذي خطّط له أن يكون مديراً (بالنيابة) للكون، وأن يصلح الأرض لا بالعمران والزراعة والصناعة فحسب، بل بكلّ ما من شأنه أن يرتقي بترابية التراب وبآدمية الآدمي، وإنسانية الإنسان، وأن لا فضل لأحد على أحد إلا بالتقوى والعلم والعمل الصالح، وأنّ الناس مسخّرون بعضهم لخدمة بعض، وأنّ الكائنات الأخرى مسخّرة لخدمة الإنسان، بل حتى الدين معدَّ لخدمته والإرتقاء بحياته وحضارته وعلاقاته، ولذلك كان الإختبار الأكبر هو في التفاضل العلمي والعملي والأخلاقي، وليس في المال والعدد والولد، ولا في الأشكال والألوان والصور، ولا في العناوين والنياشين.

 

ثانياً- التدبُّر في القرآن المنظور:

نُريد بالقرآن المنظور الكون بكل ملحقاته ومفرداته وتفاصيله، وهو ما عناه القرآن نفسه بالقول: ﴿سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ﴾ (فصِّلت/ 53). وكلمة (نُريهم) لا تعني أنّنا نعرض لهم فيلماً وثائقياً عن الآيات الكونية، بل إنّ الآيات واضحة وظاهرة وقابلة للتأمُّل والتفكُّر والتدبُّر بحاسة البصر، فما على الإنسان إلا أن يُدقِّق النظر ويمعنه ويرصد أبعادها، وكما انتهى علماء الكيمياء والفيزياء والطبيعة والذرّة والتشريح وطبقات الأرض إلى أنّ وراء الكون العظيم خالقاً عظيماً، فإنّ المتدبِّر في أي ظاهرة كونية -إذا أفرغ عقله من العناد والتعصُّب- لابدّ وأن يذعن للحقيقة ذاتها، فليس لا يمكن للأشياء أن تخلق نفسها بنفسها فقط، بل لا يمكن أن تعمل ضمن مؤسسة هائلة متعددة الوظائف والخدمات بلا تضارب ولا تنافر ولا تصادم، إلا إذا كان المؤسِّس والمدير والمهندس صاحب عقل كلِّي خلاّق لا يخلق عبثاً ولا باطلاً ولا سُدىً.

إنّ مراقبة دقيقة لما تعرضه فضائيات الحيوان والطبيعة تكفي كوجبة دينية أو إيمانية دسمة عن الكثير من القراءات الفلسفية المجرّدة.. ففي كل فيلم قراءة كونية لعجائب وأسرار لا يملك العقل المتحرِّر إلا أن ينحني لها راكعاً.. وعلى ذلك، فإنّ مَن يتخذ من الطبيعة وأسرارها (معبداً) أو (محراباً) أو (مدرسة) يتلقّى فيها دروس عبوديته لله، فإنّه سيغتني بشواهد ودلائل لا تزيد في منسوب (معرفته) فقط، بل ترفع من مستوى (عرفانه) أيضاً.

هذا على صعيد (الآفاق) الكونية الهائلة الرحبة والغنية والمنطوية على أسرار العظمة، فما بالك بالتدبُّر والتفكّر والتأمُّل في (الأنفس) كصعيد ذاتي قريب يقود إلى الإقرار بحقيقة سبق أن قرَّرها الإمام علي(ع):

أتحسبُ أنّكَ جرمٌ صغيرٌ       وفيكَ انطوى العالمُ الأكبرُ

فلو أنّ الإنسان تَفكَّر وتَدبَّر وتَأمَّلَ في ذاته وفي بنائه وفي أطواره وفي عقله وجوارحه وعواطفه وما هو مناط به من مهام ومسؤوليات، لما احتاج إلى أن يمدّ عينه إلى الطبيعة الخارجية ليتأكّد أو ليطمئن قلبه أنّ عظمة بهذه الفرادة والضخامة لا تتأتّى لفرق عمل كاملة ومتعاونة وجبّارة، فضلاً عن تهافت القول بأنها وجدت عبثاً أو صدفة، أو أنها أنشأت نفسها بنفسها.

ولو أنّ الإنسان لم يتعب نفسه في دراسة كيانه كلّه بأجهزته كلّها، وإنّما ركَّز دراسته في مرفق واحد من مرافق جسده، أو فقرة واحدة من فقرات نفسه، لخرّ راكعاً وأناب، ناهيك عن النتائج الباهرة للدراسة الكلِّية الشمولية المتدبِّرة.

 

ثالثاً- التدبُّر في القرآن المسطور:

الدعوة القرآنية: ﴿أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا﴾ (محمد/ 24) مفتوحة على الزمن كلّه، وليست دعوة موجَّهة إلى مشركي قريش وكفّارها ومنافقيها فحسب، إنها دعوة مشروطة بفك الأقفال: أقفال الزمن والعناد والتعصُّب واتباع الآباء.. فما لم يُفتح القفل لا يمكن للقلب المقفل أن يرى نور القرآن ويستضيء به، والنداء -كما قلنا- دائم متجدد، فحتى الذين أُوتوا القرآن ولم يتدبّروه مشمولون به، إذ ما قيمة قرآن يُتلى ليلاً ونهاراً والحياة من حوله إمّا واقفة وإمّا تدور بعكس الإتجاه الذي يدور به؟ ما قيمة قرآن غني بالعلوم والمعارف الفذّة والتعاليم الراقية والآداب الحضارية العالية، وأهله في غفلة عنه؟ يقرأونه، ويحفظونه سوراً وألفاظاً، ويختمونه -على الأقل في كل عام مرّة- وهم عن ندائه المطّرد في التدبُّر معرضون؟

وإلى جانب ذلك النداء، يهتف هاتف ربّانيُّ آخر متفرِّع عنه: "ألا لا خيرَ في قراءةٍ ليس فيها تدبُّر، ألا لا خيرَ في عبادة ليس فيها تفقُّه"!

القيمة -كلّ القيمة- في القراءة التدبُّرية، والقيمة -كلّ القيمة- في العبادة التفقُّهية، وإلا ما جدوى قراءة تمرّ عليها النظرات عجلى كما يمرّ القطار السريع على مناظر طبيعية غاية في الروعة والجمال، ولكنه لا يتيح للنظر متعة أن يأخذ قسطه من الإستمتاع المتروِّي بها أو تشرُّب تفاصيلها بدقة، والتنعُّم في مراتعها بتأمُّل.. إنّه شيء أشبه بتلاحق صفحات كتاب يُقلِّبها الهواء لا تغني القارئ من العلم شيئاً!

إنّنا يمكن أن نستعير القول النبويّ في صفة الدين: "إنّ هذا الدين متين فأوغل فيه برفق". لنصف به القرآن الكريم فهو متين يحتاج الى الإيغال فيه برفق، ولقد جاء في أحد التعاليم الهادية: "آيات القرآن خزائن فكلّما فتحت خزائنه ينبغي لك أن تنظر ما فيها"!

بهذا يأخذ التدبُّر صفة النظر أو إمعان النظر في محتويات الخزينة، فلا تترك خزينة ملأى من غير النظر أو التدبُّر فيها، ذلك أنّ كلمة (خزينة) يعني إختزانها معاني كثيرة، وألطافاً غزيرة، وبركات عديدة. ومن هنا جاءت مقولة إنّ القرآن حمّال أوجه، أو أنّ له ظهراً وبطناً وأنّ لباطنه بطناً، وهذا هو الذي وقفنا عنده في المعنى اللغوي للتدبُّر، وقلنا إنّه النظر في الدُّبر (الظهر) أو الوراء أو الخلف، فوراء كلّ آية كنز لا يعثر عليه أو على بعضها إلا المتدبِّرون.

حينما جاءت إلى الإمام علي(ع) إمرأتان في أوّل عهده بالخلافة، تطلبان منه عطاءهما من بيت المال، وكانتا إمرأة حرّة وأخرى مولاة (عبدة مملوكة) ساوى بينهما في العطاء، فإذا بالحرّة تعترض على مساواتها بالعبدة، فماذا أجابها الإمام العادل المتدبِّر في القرآن؟

أخذ قبضتين من التراب، وسألها: هل لهذا فضل على هذا؟! أي أنّكما كلاكما من تراب ولا ترجيح لتراب على آخر، ثمّ قال لها (وهنا بيت القصيد): "إنِّي نظرتُ في كتاب الله فما رأيت لأولاد إسماعيل من فضل على أولاد إسحاق"!!

قوله(ع): "نظرت"، أي دققت النظر وأمعنته، أي تدبَّرتُ جيِّداً، أي قرأت كتاب الله بعناية وتفحُّص دقيقين، فما وجدت لما تقولين من دليل!!

بهذا اللون من القراءة يستحيل القرآن من كتاب مقروء إلى كتاب عمليّ تطبيقي، أو إلى حجة بالغة تَسكُت دونه أو في حضرته الحجج، وبسبب من هذه القدرة المفحمة كان الذي يختلف مع آخر في الرؤية حول مسألة ما، يسأله: أين هذا في كتاب الله؟! وقد تدهش لما تراه من قدرة القرآن الإستدلالية على قضايا قد تبدو للوهلة الأولى بعيدة عن القرآن، أو ليس له بها صلة، وإذا هي في الصميم منه، ولو راجعت كتب الحِجاج والإحتجاج والمناظرة لتبيّن لك صدق وصحّة ما نقول، حتى إنّك تستمع إلى كلمات الإندهاش من قبيل: كأنّي لم أسمع بهذا من قبل، أو كأنّي لم أقرأ هذا في كتاب الله!

إنّه الفرق بين قراءة مُتدبِّرة وأخرى لا تدبُّر فيها.. قراءة تقف عند السطح لا تتعدّاه، وقراءة تنفذ إلى العمق وهي شبيهة بالمصباح الذي يضعه الغوّاص على خوذته وهو يغطس إلى أعماق البحر.. به أو بالإستعانة بنوره يقرأ كتاب البحر من الداخل وعن قرب.

إنّ الذي قرأ قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الإِنْسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ﴾ (الإنفطار/ 6) وأجاب عن الإستفهام الإستنكاري: كرمك يا ربّ! من أين حصل على هذه الإجابة البليغة؟ لقد استقاها من خلال تدبُّره في الآية ذاتها، أي أنّه يقول لربّه: "ما غرّني بربِّي هو كرمُ ربِّي، غرّني بك -يا ربّ- سترك المرخى عليَّ، غرّني كرمك الذي يجلُّ عن مكافاة المقصِّرين"!!

والتدبُّر في آيات القرآن ومراميه لا يحتاج إلى علم دائماً، فقد يتطلّب إعمال عقل، فعندما طلب ذلك الأعرابي الذي لم يقرأ القرآن من النبي(ص) أن يسمعه شيئاً منه، وتلا النبي(ص) عليه شيئاً من سورة الزلزلة إلى أن وصل إلى قوله تعالى: ﴿فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ﴾.. عندها قال الأعرابي: كفى! أي حسبي هذا ويكفيني علماً! فماذا قال النبي(ص) معقِّباً على قوله؟ قال: "لقد ذهب الرجلُ وهو فقيه"! أي مُتدبِّر.. إستمع القرآن بمسامع قلبه لا بآذان رأسه، فعرف أنّ خلاصة الدين أو المسؤولية الدينية تختصر في هاتين الآيتين.

روى (الأصمعي) أنّ أعرابياً سأله في البصرة أن يقرأ له شيئاً من القرآن، فقرأ له من سورة الذاريات حتى بلغ قوله تعالى: ﴿وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ﴾ إلى قوله سبحانه: ﴿فَوَرَبِّ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ﴾، فصرخ الأعرابي: يا سبحان الله! مَن ذا الذي أغضب الجليل حتى حلف ليصدقوه بقوله، أو كيف لم يصدقوه حتى ألجأوه إلى اليمين"؟!

فتأمَّل في نظر الأعرابي وتدبُّره في قسم الله الذي يقسم بربوبيّته للسماء والأرض ليؤكِّد لمستمع القرآن أنّ قوله حقّ!!

نقول: هذا هو تدبُّر الأعرابي البسيط المعرفة، فما بالك بأهل العرفان والمعرفة؟!

 

رابعاً- التدبُّر في عواقب الأُمور:

ربما لم يكن ذلك الشاب الذي جاء يستفتي النبي(ص) في كيفية التصرُّف في شؤون حياته يعلم أنّه سيترك لأمثاله من الشبّان نصيحة لا تُقدَّر بثمن، فلقد سأل النبي(ص) في حُسن الإختيار إذا تعدَّدت الخيارات أمامه، فقال له(ص) كما في الخبر: "إذا هممتَ بشيء فَتَدبَّر عاقبته، فإن كان خيراً فامضه، وإن كان شرّاً فانتهِ"!

إنّ المعيار الذي حدَّده(ص) لهذا الشاب هو التدبُّر في عواقب الأُمور ومعرفة أو قراءة نتائجها سلفاً، فإذا تمكّن من تقدير النتائج المترتِّبة على عمله سلباً أو إيجاباً، أمكنه الإقدام الموافق على العمل وفق رؤية بيانية مدروسة.. وهذا ما تنصح به دراسات التنمية البشرية اليوم من خلال ما تطالب به الإنسان من إحصاء إيجابيات العمل وسلبياته، فإذا رجحت كفّة الإيجابيات في عملٍ ما، فالأخذ به يُمثِّل الحكمة وعين العقل.. وإذا رجحت كفّة السلبيات، فإنّ الترك هو الذي يُمثِّل الحكمة وعين العقل.. وإنّما كانت عاقبة الأمر خيراً أو شرّاً لأنّ النتائج مرهونة بمقدّماتها، فإذا أحسن الشاب التقدير ورصد العواقب والآثار التي تترتّب على خياره أو إختياره، فإنّه سيجنّب بذلك نفسه تبعات الأعمال السيِّئة، ويجني آثار أو ثمار الأعمال الطيِّبة.

وربما ذهب النبي(ص) إلى أبعد من القراءة الدنيوية للنتائج المترتِّبة على العمل، فقد تكون عاقبة عمل دنيوي خيراً في الظاهر لكن عاقبته الأخروية سيِّئة، مما يستدعي الدراسة الشاملة لنتائج وعواقب الأعمال دنيوياً وأخروياً، ولا يخفى أنّ العمل المرضيّ الذي يحبّه الله هو العمل الصالح الذي يُراد به الإخلاص وخدمة المجتمع وصلاح الفرد، ذلك أنّ عاقبة عملٍ خيِّر كهذا خيّرة بالضرورة، لأن ما ينفع الناس يمكث في الأرض، ولأن مَن سَنَّ سُنّة حسنة كان له أجرها وأجر مَن عمل بها إلى يوم القيامة.

إنّ قول القائل: إنِّي أُخيِّر نفسي بين الجنّة والنار عندما عرض له أمران أو عملان عاقبة أحدهما خير وتفضي إلى الجنّة، وعاقبة الآخر شر أو شريرة وتؤدِّي إلى النار، كثيراً ما يجابهنا نحن أيضاً في حياتنا.. فإذا تدبّرنا عاقبة العمل أو المشروع أو الإقتراح أو الدعوة أو العلاقة واطمأنت نفوسنا إلى خيريتها أخذنا بها، وإذا ارتابت نفوسنا من عواقب شريرة أو سيِّئة لعمل ما تركناه ﴿وَمَنْ يَتَّقِ اللهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ﴾ (الطلاق/ 2-3).

سُئِلَ الإمام علي(ع) ذات يوم: مَن أثبت الناس رأياً يا أمير المؤمنين؟

قال: "مَن لم يغرّه الناسُ من نفسه، ومَن لم تغرّه الدنيا بتشويقاتها"!!

يغرّه الناس بتضخيم ذاته وإطرائها وتمجيدها والتغنِّي بها، وتغرّه الدنيا بمطامعها وشهواتها ومغرياتها.. أليس هذا من التدبُّر في العواقب؟!

 

خامساً- التدبُّر في مصائر الناس وعواقبهم:

الآخرون في حياتنا -إيجابيين كانوا أم سلبيين- مُعلِّمون مجّانيون وإن لم يقصدوا تعليمنا بشكل مباشر.. فالإنسان الصالح الذي يعمل صالحاً وتنتهي عاقبته إلى خير نموذجٌ مغرٍ بالتأسِّي والإقتداء، لاسيما إذا كان قريباً منّا، بل كل الذين حسنت عواقبهم في التأريخ يُمثِّلون عيّنات صالحة للإختزان والتمثُّل والإقتداء وإن بعدت بيننا وبينهم المسافات، والعكس صحيح أيضاً.. فالذين ساءت عواقبهم وانتهوا نهايات مزرية هم أيضاً نماذج سلبية تدعونا للتدبُّر في سيرتهم ومسارهم ومصيرهم: كيف بدأوا؟ وكيف تعثّروا؟ وكيف انتهوا؟

إنّ سعيد الحظّ فينا الذي يرى الصلاح فيقتفي أثره.. وتعيس الحظ مَن يجتذبه شيطانُ السُّوء فيتبعه، وإنّما كان العقل بوصلة الإنسان الهادية والمرشدة، لقدرته الفائقة على الفرز والتمييز بين مصير إيجابي وآخر سلبي، وقدرته الأكبر على العمل بما عمل به الصالحون لينتهي إلى ما انتهوا إليه، واجتناب ما عمل به الفاسدون لئلا ينتهي إلى ما انتهوا إليه.

كما أنّ عمليّة التدبُّر في المصائر تربويّة بذاتها، فكم صالح في مستهل حياته لم ينتهِ إلى صلاح في آخر عمره؟ وكم من طالحٍ سنحت له فرصة النجاة فاهتبلها فصلح واستقامت سيرته وحسنت عاقبته؟ والمرء منّا في طريق زلقة لا يدري متى تزلّ قدمه فينحرف عن الطريق، لذلك يُعلِّمنا الله تعالى في الدُّعاء القرآني أن ندعو دائماً: ﴿رَبَّنَا لا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ﴾ (آل عمران/ 8)، فالزيغ أو الإنحراف أو الإنزلاق قد يقع بعد الهداية لولا أن تداركنا الرحمة.

 

سادساً- التدبُّر في تقلُّب الأحوال وعدم ثباتها:

"دوام الحال من المحال" ليست مقولة إعتباطية.. فتلك الأيام يداولها الله بين الناس، فيومٌ لك ويوم عليك، وليس هناك نعيم دائم ولا شقاء دائم، وتلك هي نسبيّة الحياة وتقلُّباتها، فهي منذ أن خلقها الله متقلِّبة بأهلها من حال إلى حال، لا تستقر على شيء حتى تتحوّل عنه، قال الشاعر:

ومكلّفُ الأيام ضدّ طباعِها                   متطلبٌ في الماءِ جذوةَ نارِ

تلك قصص الأُمم والشعوب والأنظمة والحكومات دونك، اُنظر كيف سادت ثمّ بادت.. فلا الأمويّون بقوا أبد الدهر، ولا العبّاسيون ولا العثمانيون ولا التتار، وبين حين وآخر نسمع في الأخبار سقوط ملك أو خلع رئيس أو إنقلاباً على هذا وذاك، وقديماً قيل: لو دامت لغيرك ما انتقلت إليك!

في عالم الأشخاص والأفراد كذلك، فهذا تاجر غنيٌّ افتقر، وهذا فقير مدقع جاءه الثراء بين عشية وضحاها، وهذا احترقت مخازنه، وذاك غرقت مراكبه، وهذا ابتسم له الحظ فلمع وسطع نجمه.. وهكذا هي الدنيا تشبه دولايب الهواء التي ما يُرى أحدٌ في أعلاها حتى يكون بعد لحظات في أسفلها، أو كما المصاعد الكهربائية اليوم: تارة في صعود وتارة في نزول، ومَن اطمأن إلى ثباتها خُدع او انخدع، إنها (قلقة) (مُتغيِّرة) (مُتقلِّبة)، ولذلك ينصح الذي تفتح له الدنيا أحضانها أن يشكر ولا يبطر، والذي تعرض عنه بوجهها أن لا يقنط ولا يكفر.

إنّ ملك سليمان(ع) عظيم.. عظيم جداً.. لم يؤتَ أحدٌ مثلما أُتي.. ويوم قرر أن يقضي يوماً بلا منغِّصات، طلب أن لا يُدخل عليه أحد حتى يستمتع بملكه ولو ليوم واحد.. وبينما هو في أعلى القصر مستند على عصاه، رأى شخصاً غريباً، فاستغرب دخوله في يوم مُنع فيه الداخلون إلى القصر، فلمّا سأله مَن يكون، عرف أنّه مَلَكُ الموت جاء ليقبض روحه! فقال: "شاء الله أن يكون يوم نعيمي يوم لقائه"!!

وكان أيوب(ع) ذا ثراء عريض، ومال وفير، وأولاد كثر، ونعيم واسع يدور معه حيثما دار.. وإذا به يفقد ذلك تباعاً فيعيش الضنك والمرض والفاقة وفقد الأحبّة.. وحينما وجده الله شاكراً صابراً، أعاد عليه ما استلبه منه وزيادة..

وإنّ (قارون) صاحب الثروة الطائلة الهائلة الذي خسفت به الأرض فابتلعته ولم تستطع أمواله أن تنقذه من قبضتها أو من أخذها، وأصحاب الجنّة (البستان) الذي جاءوا بستانهم مصبحين ليجنوا حصاده الوفير دون أن يراهم فقير، وإذا به قد اكتسحته السيول فأصبح صعيداً زلقاً ولم يبق منه شيء.. كلّ ذلك وغير ذلك في ذاكرة الناس وجعبة التأريخ كثير ينطق بصوت واحد: ألا لا بقاء.. ألا لا بقاء!!

وإنّ تحوّل سواد الشباب إلى بياض المشيب، ونضارة الصحّة إلى إصفرار المرض، واضمحلال القوّة إلى الضعف، والكثرة في الأهل والولد إلى الفقدان والقلّة، وإن تقلُّب المناصب والعناوين والنياشين بأصحابها، والنهايات المروّعة لطائرة تسقط بجميع ركّابها، وسفينة تهوي إلى القاع بكل مسافريها، وعواصف لا توفر أحداً، وسيولاً لا تبقي ولا تذر، وزلازل تهدّ بيوتاً على ساكنيها.. هل ذلك وغيره يترك متعة لمستمتع، أو سروراً لمسرور، أو فرحة لفرِح، أو ثقة لواثق بالدنيا المتقلِّبة بأهلها من حال إلى حال؟!

ليست الدنيا جنّة خلد حتى يركن الإنسان إليها، فلا خلود إلا في الجنّة العلويّة.. فلو بقي الملوك إذاً بقينا، ولو خلد الأنبياء إذاً خلدنا، غير أنّ ذلك لا يعني أن يعتزل الإنسان الحياة بحجّة أنها زائلة متقلِّبة.. فالعاقل مَن يعمل لدنياه كأنّه يعيش أبداً، ومَن يعمل لآخرته كأنّه يموت غداً، ويبقى في جميع أحواله متوثباً لا يدري متى تحين ساعته وتدقّ أجراس الرحيل.

 

¯  ¯  ¯

 

- خلاصة واستنتاجات:

1- التدبُّر نشاط عقلي يقود صاحبه إلى الخير دائماً حتى وهو يَتَدبَّر عواقب الشرّ، إنّه كشّاف يضع صور الأشياء بجميع وجوهها أمام الناظر إليها بتمعُّن وتأمُّل ودراسة، فلا ينخدع بالخاطف البرّاق ولا يتوقّف عند حدود السطح، ولا تستميله المظاهر الباهرة، ولا تنطلي عليه الشعارات الرنّانة.

2- التدبُّر يُنزل على النفس السكينة، لأنّه يوازن أو يزن الأشياء.. فلا إنسياق ولا إنجرار ولا تهوُّر، بل تحسُّب وتحفُّظ وعناية ورعاية، وقراءة لما بين السطور وما خلف السطور.. ورؤية لوجهي العملة.. إنّه قاربُ نجاة.

3- التدبُّر ليس قرآنياً فقط، هو كلٌّ شامل.. لكل ما في الحياة ومَن في الحياة، للجمالات وللقبائح، للخسائر والأرباح، للهزائم والإنتصارات.. ففي كلٍّ درس وفي كلٍّ عظة وتجربة.

4- لا يقف التدبُّر عند حدّ وليس له عمر معيّن.. إنّنا ننتفع بتدبُّر مَن سبقنا، لكننا ينبغي أن نعيش التدبُّر بأنفسنا تجربة حيّة.. أن نعيد قراءة الأشياء قراءة ثانية وثالثة ورابعة.. فقد تكون القراءة الثالثة هي الصائبة أو القريبة من الصواب.

5- التدبُّر بمحاسنه كلّها يقترب من أن يكون عبادة، بل لعلّه من أرقى العبادات، وكيف لا يكون كذلك وهو الآخذ بيد الإنسان إلى شواطئ السلامة، ومواطن الخيرة، وفضاءات الإبداع، وآفاق الأنس والمعرفة.

6- المزيد من التدبُّر يعني المزيد من التعقُّل، المزيد من ثبوت الأقدام في المنزلقات، المزيد من الوعي والبصيرة، المزيد من سلامة المواقف، المزيد من الإيمان الحقيقي والتديُّن الصحيح!

- وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين -

ارسال التعليق

Top