◄طبيعة الإنسان:
يمتاز الإنسان بعدد من الصِّفات التي يشترك فيها مع سائر أبناء جنسه، وعلى مدى أو مقدار التعرّف على هذه الخصائص والمزايا يمكن استخلاص الموقف المناسب في التعامل معه.
وإذا كانت الخصال الإيجابية في الإنسان مهمّة في معرفة أي الأساليب أنجح في استقطابه، فإنّ معرفة الخصال الذميمة أو السلبية للإنسان تمكننا من تفادي شروره، أو تحاشي الاصطدام به، أو تقليص الأضرار التي يمكن أن يُسبِّبها لنا مادّياً أو معنوياً.
القرآن الكريم رسم للإنسان صورتين: إيجابية وأخرى سلبية، أو قل إنّها صورة واحدة ذات وجهين، ولأنّنا نبحث عن (روح التسامح)، فإنّ وقفة متأمِّلة لسمات الشخصية الإنسانية في القرآن، تجعلنا أكثر قُرْباً من هذا الذي نريد أن (نسامحه) كما نريد منه أن (يُسامحنا).
الصفات غير الحميدة للإنسان، هي:
1- كثير النسيان: (وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَى آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ) (طه/ 115).
2- ناكر للجميل: (فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَنْ لَمْ يَدْعُنَا إِلَى ضُرٍّ مَسَّهُ) (يونس/ 12).
3- موجود ضعيف: (وَخُلِقَ الإنْسَانُ ضَعِيفًا) (النساء/ 28).
4- ظالم: (إِنَّ الإنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ) (إبراهيم/ 34).
5- بخيل: (وَكَانَ الإنْسَانُ قَتُورًا) (الإسراء/ 100).
6- عجول: (وَكَانَ الإنْسَانُ عَجُولا) الإسراء/ 11).
7- كائن كثير الجَدَل: (وَكَانَ الإنْسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلا) (الكهف/ 54).
8- جهول، أي كثير الجهل: (إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولا) (الأحزاب/ 72).
9- قليل الصبر والتحمل: (إِنَّ الإنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا) (المعارج/ 19).
10- مغرور: (يَا أَيُّهَا الإنْسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ) (الإنفطار/ 6).
هذه هي نقاط ضعف الإنسان التي يمكن أن يجد لها علاجات من خلال إيمانه بالله تعالى، ونشأته في أحضان الدين، فهذه النسخة من الإنسان يمكن أن نطلق عليها بـ(المسودّة) أو (المادة الخام)، وكما يمكن أن تنقّح المسودّة، وأن تتشكّل المادّة الخام إلى ما هو صالح ونافع ومفيد، فكذلك هو الإنسان.
إنّ معرفتك بنقاط ضعف صديق أو قريب يجعلك تشفق عليه مرّة، وتحاول أن تقوِّي نقاط ضعفه مرّة، وأن تغضّ الطرف عن أخطائه بسبب من تقديرك لتلك النقاط مرة أخرى، وفي جميع الأحوال فأنت تراعي إنساناً مثلك يحمل ما تحمل من نقاط ضعف، فتجد له العذر والمبرِّر عسى أن يتمكّن من تجاوز نقاط ضعفه وإصلاح نقاط خلله.
وهناك فرق بين أن تعاتب إنساناً يمتلك مقوّمات قوّة في شخصيّته منطلقاً من تقديرك لتلك المقوّمات العلمية أو العملية أو الأخلاقية، وبين أن تنتقد إنساناً عادياً لا يمتلك شيئاً من تلك المقوّمات، إلى أنّك تؤاخذ كّل شخص بحسب ما أوتيَ من مواهب وقدرات مزايا ومعرفة، وفي الأعمّ الأغلب فإنّ أكثر الناس هم ممّن لم يصقلوا مواهبهم ولم يطوِّروا قدراتهم الذاتية، فهم (كثيرو النسيان) وهم (ناكرو الجميل) وهم (ضُعفاء) و(ظالمون) و(بخلاء) و(عجولون) و(كثيرو الجدل) و(جُهلاء) و(قليلو الصبر) و(مغرورون).
ولعلّ أكثر الناس مسامحة لغيرهم هم (الأبوان)؛ لأنّهم أكثر الناس معرفة بنقاط ضعف أبنائهم، وأشدّهم حبّاً لهم، فهم مستعدّون للتسامح والمسامحة مراراً وتكراراً، حتى ليمكن القول أنّ باب العفو عندهم مفتوح طوال الوقت، وهذا من بعض رحمة الله التي جعلها في نفوس الوالدين حتى يتمكّنا من إصلاح شأن الأبناء، وأن يعيشا معهم أطول فترة ممكنة، وأن يحافظا على بناء العلاقة معهم في أشد الظروف وأحرج الأوقات.
هذا النموذج من التسامح (الأبوي) المُصغّر أو الأوّلي، يمكن أن تتّسع دائرته أكثر ليشمل (الأصدقاء) و(المربِّين) من معلِّمين ودعاة إلى الله تعالى ومُرشدين وقادة. والقدرة على اكتساب (التسامح الأبويّ) ليكون تسامحاً أخويّاً، أو تسامحاً إنسانياً تنبع من عوامل ثلاثة:
1- (كلّنا خطّاؤون)، وما دمنا نقف على قدم سواء في ارتكاب الخطأ، أي ليس فينا مَلاك أو معصوم، فإنّ التسامح ممكن ومبرّر ومشروع.
2- (كلّنا ضعفاء)، أي أنّ الصفات التي نعتَنا بها القرآن موجودة في كلٍّ منّا بنسبة أو بأخرى، والضعيف عادة يُقدِّر ضعف الضعيف الآخر؛ لأنّه يحمل نفس إحساساته ومشاعره، وكذلك فالتسامح بين الضعفاء أمر ممكن ومطلوب أيضاً.
3- (كلّنا نطمع بعفو الآخر وصفحه)، ولو لم يكن هذا ممكناً أيضاً لانتفت حالات (العتاب) و(المصالحة) و(ترطيب الأجواء) و(عودة المياه إلى مجاريها) و(رأب الصّدع) و(فتح صفحة جديدة).
- ما هو التسامح؟
(سمح) يعني: لانّ وسهل، وكلمة تسامح في اللّغة مأخوذة من (تفاعل)، أي أنّها حركة باتِّجاهين: مسامحتك للآخر، ومسامحة الآخر لك، مثل (تقاسم) و(تشاطر) و(تحابب) و(تعارف) وتناصف). والسماح أيضاً من السماحة،وبالتالي فالتسامح يعني قبول اختلاف الآخرين.
- هل يمكن أن يكون التسامح من طرف واحد؟
نعم. وعندها نُسمِّيه بـ(السّماح) أو (المسامحة)، فيوسف (ع) سامحَ أخوته الذين أخطأوا بحقِّه مرتين: مرة حين ألقوه في غيابة البئر، ومرة حين اتّهموه بالسرقة، وقد لاحظ نقطة ضعفهم وهي (الجهل)، ولذلك قال لهم: (لا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ) (يوسف/ 92).
ويدور الزمن دورة واسعة، ليتكرر المشهد بين المخطئين والخاطئين من قريش بحقِّ النبيّ محمّد (ص)، فإذا هو يُسامحهم كما سامحَ يوسف (ع) إخوته، ولا ندري إن كان محمّد جنوب أفريقيا من التمييز العنصري (نيلسون مانديلا) قد اطّلع على هذه الشواهد من خلال مطالعاته أو قراراته للتأريخ أو أنّه استلهمها من روح الدين الذي يدعو إلى التسامح، حين دعا مضطهدي السود في جنوب أفريقيا إلى الاعتراف بأخطائهم ليكون ذلك سبباً في العفو عنهم؟!
- هل يمكن اعتبار المسامحة أو التّسامح ضعفاً؟
أبداً، وكلا، فالتّسامح أو المسامحة مؤشِّرة قوّة، لأنّها تعني: (العفو عند المقدرة)، وامتلاك المسامح لـ(قلب كبير) ومنحه المخطئ فرصة أخرى ليُصحِّح خطأه ويُفكِّر عنه ذنبه، كما تعني أنّ حرص المسامح على (ترميم) العلاقة أكثر من رغبته في هدمها أو المشي على أطلالها.. إنّها رغبة في التعايش السلمي والإيجابي.. التسامح قوّة وليس ضعفاً.
- هل يمكن اعتبار التسامح عجزاً عن إيذاء الآخر الذي آذانا؟
إنّ الذي يصفح الذي صفعه، والذي يجرح مشاعر الذي جرح مشاعره، والذي يُحصي على الآخر أخطاءه وعثراته وزلاته ليفضحه بها تماماً؟ كما فعل ذلك من قبل صاحب تلك الأخطاء، والذي يكيل الصاع صاعين، ويحيل (الهفوة) إلى جريمة لا تُغتفر، هو الإنسان العاجز في مفهوم العجز من وجهة نظر أخلاقية.. هو لا يجيد لغة ثانية ولا يُحسن أن يكتب على الرمل.. هو على أيّة حال ضعيف.
حينما قال (هابيل) لـ(قابيل): (لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَا بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لأقْتُلَكَ) (المائدة/ 28)، لم يكن عاجزاً عن مواجهة (الانفعال) بـ(الانفعال) و(السِّكين) بـ(السكِّين)، أو ربّما بالساطور أو السيف، وربّما حاول أن يثني أخاه عن ارتكاب فعلته النكراء بالدفاع عن نفسه أيضاً، لكنّه كان أمام خيارين:
الأوّل: أن يواجه الغضب المتصاعد كألسنة اللّهب بأن يصب الزيت عليه ليستل هو الآخر سكِّيناً ويتقاتل مع أخيه على أمر لا يستوجب المقاتلة، ولا يستدعي إراقة الدّم، وبالتالي يكون قد عامل أخاهُ بعقليّة النفي التي رفضها في حواره معه.
الثاني: أو أن يحكِّم عقله ويتحكّم بأعصابه ليكون الأقوى في معرفة الانفعالات الهائجة حتى وإن كان هو الضحية أو الذي سيغادر المسرح ليترك القاتل (بطلاً) في نظر (القابيليين) و(مُجرماً) في نظر المتعاطفين إنسانيّاً مع قضيّة هابيل التي تُمثِّل البراءة المُعتدى عليها على طول التأريخ.
يقول (غاندي) صاحب مبدأ (اللاعُنف): "التّسامح من سمات الأقوياء"!!
إنّ الشاعر الذي قال عن إخوته وبني عمومته:
فإن أكلوا لحمي وفرتُ لحومَهم **** وإن هدموا مَجْدي بَنيتُ لهُم مَجْدا
يُعبِّر عن حالتين أو مدرستين: مدرسة (التسامح) المتعالية، ومدرسة (الانتقام) المتسافلة.. عن قابيل المُنتقِم القاتل، وعن هابيل المُتّزن العاقل.
- ماذا يمكن أن نكسب بالتسامح؟
الكثير.
إنّنا، إذا امتلكنا روح التسامح، أشعنا جوّاً من الصفاء والمودة بيننا وبين الآخرين، ولسنا بحاجة إلى استعراض ما تُسبِّبه العداوة والبغضاء والشنآن بين الناس من خسائر لا يمكن إحصاؤها.
إنّنا، قد نقلب الطاولة للذين كانوا يناصبوننا العداء، فإذا هم أولياء أو أقرب إلينا ممّا كنّا نتصوّر، وسيبيّن كيف أنّ ردّ الإساءة بالإحسان، قد قلبَ موازين القوى، وغيّر الكثير ممّا كان يعتبر حالات صعبة، أو مستحيلة التحوّل والانقلاب.
إنّنا، بتسامحنا، نرتفع، ونرتقي، ونتسامى إلى الحالة (اليوسفيّة) أو (المحمديّة) التي تعضُّ على الجراح، وتتعالى على موقف (التشفِّي)، وتنطلق لتتخلّق بأخلاق الله: العفو، الغفور، اللطيف، الرؤوف، الرحمن، الرحيم.
إنّ مَن يستطيع أن يُسامح يصلح أن يكون قائداً ربّانيّاً، نبيّاً، أو وليّاً، أو مُعلِّماً، أو أباً صالحاً، أو مُصْلَحاً مؤثِّراً، أو حاكِماً رحيماً.
قُل لي: هل تستطيع أن تُسامح؟ وهل فعلتها مرّة أو مراراً، أقُل لك مَن أنتَ!
إنّ العفو والصفح والمسامحة من شِيَم النبلاء وأخلاق الكبار، وكبار القوم – عادةً – في مواقفهم لا في أعمارهم. يقول الشاعر:
ولا أحملُ الحِقْدَ القديمَ عليهم **** فإنّ رئيس القَوْمِ لا يَحمِلُ الحِقدا
ويتّضح لنا أنّ التسامح سببٌ مهمّ من أسباب الصحّة النفسية.. إنّه يُعزِّز أواصر الأخوّة والتلاحم الأسري، والتعايش السلمي بين الساسة والمواطنين وأشقّاء الأديان.
يقول (جيرالد مامبولكس) في كتابه (التسامح أقوى علاج على الإطلاق): "قوّة الحبّ والتسامح في حياتنا يمكن أن تصنع المُعجزات"! وصدقَ فيما قال.►
مقالات ذات صلة
ارسال التعليق
تعليقات
يوسف
شكرا