العلامة الراحل السيد محمد حسين فضل الله
◄"إنّ المجتمع الذي لا يحكم بدون بيِّنة، ولا يتجسّسُ على خصوصياتِك، ولا يذكرُ عيوبَك، يشعرك بالأمن الاجتماعي".
الغيبةُ.. الظنُّ.. التجسّس:
يقول الله سبحانه وتعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلا تَجَسَّسُوا وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ) (الحجرات/ 12).
نقدّر قيمة المجتمع – أيّ مجتمع – بمقدار ما يملك الفرد من استقراره النفسي ومن القيم التي تحميه من الأوضاع السلبية التي تتحدّى ذاته وسرّه وكتمانه.
وفي هذه الآية يريد الله سبحانه وتعالى للمجتمع المؤمن أن يعيش إيمانه حركة كما يعيشه فكراً وعاطفة، لأنّ الإيمان ليس هو خطوات الفكر ونبضات القلب ولكن الإيمان إنسان تتجسّد فيه كلّ القيم التي يؤمن بها، فالإيمان هو قصة ما يتجسّد فيك من خلال ما تفكّر فيه، لا قصة الكلمة التي لا تتطابق مع الفعل، والفكرة التي لا تنسجم مع الواقع، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ * كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لا تَفْعَلُونَ) (الصف/ 2-3)، لذلك فإنّ الله يخاطب المؤمن في إيمانه كي يستنفره من داخل فكره ليتحوّل بالتالي إلى واقع، ويستنفر إيمانه من داخل قلبه ليتحوّل بالتالي إلى واقع، ويستنفر إيمانه من داخل قلبه ليتحوّل إلى منهج في العلاقات الإنسانية في الحياة.
عناصر حماية المجتمع:
لذلك فإنّ هذه الآية تريد أن تركّز على العناصر الثلاثة التي يريد الله تعالى من المجتمع المؤمن أن يحميها:
العنصر الأوّل: وهو أنّ كلَّ إنسان معرّض إلى أن يحمل الناس عنه انطباعات معيّنة، ونحن معنيّون أن نحمل الانطباعات عن بعضنا البعض، فهذا مخلص، وهذا مزيّف، وهذا عميل، وهذا كافر، وهذا فاسق، وهذا منحرف، وإذاً فمن الطبيعي أن يعيش كلُّ إنسان في المجتمع الانطباعات بشكل عفويّ أو غير عفويّ عن الناس الذين حوله.
والله سبحانه لا يمنعنا من أن نكوِّن انطباعاتنا عن الآخرين، كما لا يمنعنا أن نحكم على الآخرين، فالله يقول لك، عندما تحقِّق انطباعاتك عن الآخرين حاول أن تكوّن تلك الانطباعات منطلقة من حجّة ومن برهان، ومن حقيقة تملك الدليل عليها، فلا تحكم بقناعاتك على الآخرين من خلال الظواهر السريعة، من الكلمات الطائرة والطارئة التي تخرج منهم، والأوضاع التي قد تخضع لظرف معيّن، ولا تحقق انطباعاتك عن الآخرين من خلال دس أو تخمين تخمِّنه، بل من خلال عناصر موضوعية تكشف لك، بإشراقة فكر، داخل هذا الإنسان وواقعه (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ) والظن تعبير عن الحالة الذهنية أو الوجدانية التي لا ترتكز على أساس بل على التخمين (إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلا الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلا يَخْرُصُونَ) (الأنعام/ 116)، كما في خرص شخص التمر من العذق كيفما كان فكذلك البعض (يخرص) أي أنّه يحب ويكره نتيجة وضع نفسي أو عاطفي أو انفعالي.
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ) (الحجرات/ 12)، في تفكيركم عن الأشخاص وفي حكمكم عليهم، وفي انطباعاتكم عنهم لأنّ الظنّ لا يمثل الوسيلة الإنسانية اليقينية التي تركِّز على العدل لتحكم به.
(إنّ بعضَ الظّنّ إثم) فقد تكون لك ظنون كثيرة تتصل بالناس، وقد تكتشف أنها غير حقيقية، والقرآن يقول: (إِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا) (النجم/ 28). فإذا أردت أن تحقق انطباعاتك عن إنسان ما فحاول أن تعتمد اليقين، حتى أنّ عليّ بن أبي طالب (ع) يقول: "ضع أمر أخيك على أحسنه، حتى يجيء ما يغلبك منهُ، ولا تظنّنَّ بكلمةٍ خرجت من في أخيكَ المسلم سوءاً وأنت تجدُ لها في الخيرِ محملاً"[1] فإذا كان الواحد في المائة خيراً فاعتبره فلعل الحقيقة هي في هذا الواحد في المائة.
وهذا هو ما نستوحيه من قوله سبحانه وتعالى في الخط العريض في تكوين الانطباعات وإطلاق الأحكام (وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ) (الإسراء/ 36)، أي ما ليس لك به حجة أو برهان، فقد تطلق الكلمة العشوائية التي تحكم بها على الناس يتقبلونها منك لأنك صاحب سلطة، ولكنك في غد تقف أمام صاحب السلطة القاهر فوق عباده، المهيمن على الأمر كلّه، (يَوْمَ لا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئًا وَالأمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ) (الإنفطار/ 19)، (يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجَادِلُ عَنْ نَفْسِهَا) (النحل/ 111)، فيسأل الله تعالى سمعك وبصرك وعقلك. (فالسمع وما سمع والعين وما رأت والعقل وما وعى) فأحضر من الآن جواباً لنفسك يوم يقوم الناس لربّ العالمين. فلا ينبغي أن ننطلق من الظنّ والاحتمال والتخمين في تحقيق انطباعاتنا عن الآخرين، بل نظلّ نبحث ونبحث حتى نصل إلى الحقيقة في عين صافية.
ثمّ قال تعالى: (وَلا تَجَسَّسُوا) فالأشياء الخفية التي يريد الإنسان أن يخفيها سواء كانت سرّاً أو عيباً أو أمراً تجارياً أو أمنياً أو خطّاً سياسياً، أو أي شيء هي منطقة محرّمة والله يريدنا أن نحترمها، فلا تقتحم سرّ أخيك إذا أراد أن يحفظه لنفسه، ولا تلق بسمعك لمن يهمس لأخيك الذي إلى جانبك. ولا تلق بنظرك إلى رسالة أو تقرير يقرأه مَن إلى جانبك، وإذا دخلت بيت أخيك فلا تفتح خزانته ولا تطّلعَ على كلِّ ما يخفيه، فلا تتجسّس على حساباته المالية وعلى معاملاته التجارية، وإذا رأيت مذكّراته فلا تقرأها، (ولا تجسّسوا) أي لا تقتحموا على أخيكم كلّ ما يخفيه من شؤونه الخاصّة والعامّة.
مخاطر التجسُّس:
هذا مع ما في التجسّس من فضول، فإذا تحوّل التجسُّس ليكون تجسّساً على المؤمنين والمجاهدين والعاملين، لحساب أعداء الله ورسوله ولحساب أعداء الأُمّة، فإنّ الجريمة تكبر وتكبر بحجم النتائج التي تحصل من هذا التجسّس، وهكذا فليس لك أن تتجسّس على أسرار أُمّتك ووطنك ومجتمعك، سواءً كانت أسراراً اقتصادية أو أمنية أو عسكرية أو سياسية لتقدمها هديةً إلى أعداء الله، فبعض الناس يصيرون جواسيس مجّانيّين من خلال فضولهم، ومن الناس من يحب الكلام كيفما كان، أفلا ترون في ليالي الشتاء عندما تطول السهرة ويتكلّم الناس ثمّ يسكتون ويندفع صوت ليقول: "إحكوا لماذا أنتم ساكتون؟"!! أي إحكوا كيفما كان، فالمهم أن لا نسكت وأن لا نفكّر، وننسى أنّ (للحائط آذاناً من لحم ودم) و(آذاناً من مسجّلات) و(آذاناً تختبئ هنا وهناك) تسمعكم وأنتم تتحدّثون بحريتكم عن أسرار قياداتكم وعن أسرار أمّتكم وعن أسرار وطنكم مجاناً ومن دون عوض، فيأخذها الموظفون الذين يسترقون السمع، وقد تقوم بعض الصحف بفضح الأسرار باسم الحرية، وقد تنطلق الإذاعات في ذلك، وقد ورد في الحديث "يؤتى لإنسان يوم القيامة بقارورة فيها دم، فيقال له: خُذ، هذا نصيبك من دم فلان، يقول: يا رب لقد عشتُ حياتي ولم أسفك قطرة دم، فيقال: لقد سمعتَ من فلان كلمة فنقلتها إلى فلان الجبّار فقتله، فهذا سهمك من دمه". فكلمتك هي الرصاصة التي انطلقت لتقتله.
مسؤولية الكلمة:
وهكذا تنطلق مسؤولية الكلمة (ولا تجسّسوا) في أسماعكم وفي أبصاركم وفي كلِّ الوسائل التي تملكونها، إلّا أن يكون في ذلك مصلحة للأُمّة، تجسّس على العدو، ولقد كان النبيّ (ص) يرسل عيناً هنا وعيناً هناك حتى يتعرّف على ما لدى المشركين، فهناك تجسّس لمصلحة الأُمّة قد يكون فريضة، وهناك تجسّس ضدّ مصلحة الأُمّة وهو جريمة.
فإذا اطّلعت على عيوب الناس وكانوا يحرصون على إخفائها، فلا يجوز لك أن تصرِّح بها (ولا يغتب بعضُكم بعضاً) والغيبة هي أن تذكر أخاك بعيب مستور في غيبته والله يصوّر لنا المسألة هكذا (أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُو) (الحجرات/ 12)، فماذا تقول إذا مات أخوك وجاء وقت الطعام وقلت أعطوني سكيناً، فيقال لك ماذا تفعل بها، فتقول لقد كان أخي سميناً أريد أن أقطّع عضلات يديه أو رجليه لأشويها فأتغذّى بها، فهل من يفعل هذا إنسان أم وحشٌ؟ بل هو أشرُّ من الوحش!!
(فكرهتموه) أي رفضتموه، لكنّكم تفعلون مثله، والغائب كالميّت، فالميّت لا يستطيع أن يدافع عن نفسه، وكرامة الإنسان كلحمه، فبعض الناس قد يقول لك: قطِّع من لحمي ولكن لا تقطِّع من كرامتي، وأخوك في الإيمان هو مثل أخيك في النسب (إنّما المؤمنون إخوة) (الحجرات/ 10)، وقد ورد في الحديث عن رسول الله (ص) إنّه قال: "إيّاكم والغيبة، فإنّ الغيبة أشدّ من الزِّنا، إنّ الرجل قد يزني ويتوب فيتوب الله عليه، وإنّ صاحب الغيبة لا يغفر له حتى يغفر له صاحبها"[2].
ففي الزِّنا حقّ عام هو حقّ الله، والغيبة فيها حقّ عام، وحقّ خاص، فالله لا يسامح في حقوق الناس إلّا من يسامحه الناس، (وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ) (الحجرات/ 12)، فمسألة الغيبة هي من الممنوعات الإسلامية إلّا في مقام النصيحة في زواج أو شركة، فلو كنت تعرف أنّ هناك عيباً فيمن يتقدّم للزواج بها فانصحه لأنّ مصلحة النصيحة هنا أهم من مفسدة الغيبة، أمّا عندما تكون مظلوماً وتريد أن تتحدّث عن ظالمك بسوء فتحدّث في حدود ما ظلمك به (لا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلا مَنْ ظُلِمَ) (النساء/ 148)، أما عندما يكون العيب الذي يخفيه الإنسان عيباً يهدِّد مصلحة الأُمّة، كما لو اطّلعت مثلاً على جاسوس للأعداء، فهنا يجب عليك أن تغتابه. وهكذا يجمع الله عناصر الاستقرار النفسي، فأنت تشعر في المجتمع الذي لا يحكم بدون بيّنة، ولا يتجسّس على خصوصياتك، ولا يذكر عيوبك، بالأمن الاجتماعي، الذي هو في المجتمع المسلم أمانة الله. ►
المصدر: كتاب الندوة/ الكتاب الثاني
[1]- شرح نهج البلاغة، ابن أبي الحديد، ج18، ص278، باب 110.
[2]- البحار، ج72، ص403، باب 66، رواية 1.
مقالات ذات صلة
ارسال التعليق